"بابل - أسطورة الجانب المخفي من الحضارة الإنسانية"

هل كانت في الواقع تلك المدينة الدولة في منطقة ما بين النهرين والتي تكثر حولها الأساطير عاصمة للفسق والمعاصي أم عاصمة للعلم والعلماء؟ تقيم هيئة المتاحف الحكومية في برلين معرضًا شاملاً عن أسطورة بابل وعن حقيقة بابل القديمة. أريانا ميرزا زارت هذا المعرض وكتبت التقرير التالي.

​أقام كل من هيئة المتاحف الحكومية في برلين ومتحف اللوفر ومجمع المتاحف الوطنية في باريس والمتحف البريطاني في لندن معرض "بابل - الحقيقة والأسطورة" في العاصمة برلين. ويزيد عدد القطع المعروضة في هذا المعرض على أكثر من ثمانمائة قطعة أثرية، من تماثيل ومنحوتات وقرابين وقطع معمارية ووثائق كتابية. ويقام هذا المعرض برعاية وزير الخارجية الألمانية الاتحادية، الدكتور فرانك فالتر شتاينماير.

​​يذكِّر هذا المعرض قليلاً بالسير إلى "السبي البابلي"، حيث يسير زوّار المتحف في زحمة شديدة عابرين شارع الطقوس، الذي تعلو جانبيه جدران مُبلَّطة ببلاط أزرق. ويتَّجهون نحو بوابة مدينة بابل، هذه البوابة التي شُيِّدت قبل ألفي وستمائة عام تكريمًا للإلهة البابلية عشتار. وفي مطلع القرن العشرين قام علماء آثار ألمان بإحضار بقايا هذه البوَّابة إلى برلين. ومنذ عام 1930 تعدّ بوابة عشتار المرمَّمة أروع ما في قسم الشرق الأدنى في متحف بيرغامون البرليني.

لقد أقام حزب البعث في عام 1980 مهرجانًا تحت شعار "في الأمس نبوخذ نصَّر واليوم صدَّام حسين" في محافظة بابل، التي تقع على نحو مائة كيلومتر إلى الجنوب من بغداد، حيث تم في الماضي إخراج بقايا بوابة عشتار من رمال الصحراء. إذ إنَّ الدكتاتور العراقي كان يرغب في جعل ماضي الشرق القديم، الذي يبدو مكروهًا في الغرب ومنسيًا في الشرق منذ ردح طويل، مرجعًا لنظامه. فحتى ذلك العهد كان الاهتمام في العالم العربي بالمجتمعات، التي سبقت الإسلام ضئيلاً للغاية. وكذلك لم يكن صدَّام حسين معنيًا تقريبًا بالمعارف التاريخية، بل كان يريد من خلال ربط نظامه على نحو استبدادي بالسلالات، التي حكمت العراق قبل الإسلام فقط منح نظام حكمه العلماني صفة الشرعية.

إرث حضاري عالمي

​ولكن الآن كيف كانت في الحقيقة بابل التي كان يتَّخذها الدكتاتور العراقي مرجعًا لنظامه وكانت سمعتها في الغرب سيِّئة؟ تم من أجل هذا المعرض، الذي يقام في برلين وبالتعاون مع متحف اللوفر الباريسي والمتحف البريطاني في لندن جمع حوالي تسعمائة قطعة أثرية تقدِّم معلومات عن الحياة اليومية في حضارة متطوِّرة جدًا. وتنقل الكتابات المسمارية والزينة والحلي واللّقى المكتشفة في المدافن والوثائق والمجسَّمات المعمارية صورة مجتمع استطاع تحقيق الكثير من الإنجازات الفلسفية والتقنية والجمالية. وهذا المعرض يُذكِّر زواره بأنَّ حضارة ما بين النهرين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتكوّن العلوم مثل علم الفلك والرياضيات.

وكذلك يبيِّن هذا المعرض أنَّ الإرث العلمي البابلي في الشرق القديم قد أثَّر تأثيرًا شديدًا في كلّ من تاريخ الثقافة اليونانية واليهودية والإسلامية. ولكن ما يزال هناك الكثيرون ممن لا يعرفون حتى يومنا هذا أيّ شيء عن هذا الإرث الحضاري العالمي.

شكّ الإنسان بنفسه

​​عرضت بعض هذه المكتشفات في معرضين في باريس ولندن، ثم نقلت إلى برلين كما تم إلحاق جانب مهم إليها؛ حيث تم تخصيص جناح واسع يُعنى بموضوع نشأة أسطورة "بابل الزانية" وإشاعتها. وفي هذا الصدد تبيِّن بعض أعمال الفنانين المعاصرين وبعض الأعمال الشعبية أنَّ صورة بابل ما تزال سلبية إلى يومنا هذا. ويشرح منظم هذا المعرض، موريتس فولّن سبب انتشار هذه الصورة المشوَّهة عن بابل وشيوعها أكثر من ذكر مجتمع بابل العلمي القديم بالقول: "إنَّه شكّ الحضارة البشرية في نفسها. وكلّ صور الخوف هذه بقيت في الواقع على حالها طيلة آلاف السنين".

وكذلك أثَّر الكتاب المقدَّس في تكوين هذه الصورة السائدة عن مجتمع بابل الفاسد والذي حُكم عليه بالهلاك. إذ اعتبرت وجهة النظر المسيحية الإنجازات البابلية في مجال فن البناء والتعايش الذي كان في الغالب سلميًا بين أفراد الشعب البابلي متعدِّدي الأعراق، استكبارًا من قبل أهالي بابل ووصفتها بالفشل. وهذا يدعونا إلى التفكير، لاسيما وأنَّ الكثير مما حقَّقه البابليون طيلة قرون من الزمن، تعتبره المجتمعات العلمانية المعاصرة بمثابة المُثل العليا التي ترنو إليها.

وكذلك أكَّد منظِّمو هذا المعرض في برلين أنَّ العراقيين يجب أن يفتخروا في العراق المعاصر بهذا الإرث الأثري والفكري: "العراق بلد له إرث حضاري كبير". ولكن اتَّضح في آخر الأمر عام 2003 أنَّ هذا الإرث يجب أن تتم حمايته من الإهمال. إذ أقام الأمريكيون عام 2003 في وسط مواقع الحفريات والتنقيب عن الآثار في بابل معسكرًا مؤقتًا. ونتيجة لذلك أصيب الموقع بأضرار بالغة. ويا لسخرية هذا الافتراء: فقد زعم الأمريكيون أنَّ قواتهم تمركزت هناك في الأصل من أجل حماية مواقع الحفريات من اعتداءات الغرباء واللصوص.

أريانا ميرزا
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2008

قنطرة
المتحف الوطني العراقي:
مهد الحضارات الإنسانية يتعرض للسرقة
سرقة الآثار العراقية خسارة فادحة ليس فقط لبلاد ما بين النهرين بل للإنسانية جمعاء، فسرقات الموناليزا العراقية والمخطوطات السومرية والآشورية وشرائع حامورابي لا تتمثل بقيمتها الأثرية فقط.

موقع "اكتشف الفن الإسلامي":
رحلة افتراضية إلى كنوز الفن الإسلامي
يقع قصر مشاطة، الذي يعود بناؤه إلى العهد الأموي، في الأردن، بيد أن واجهة بوابة هذا القصر موجودة منذ أكثر من 100 سنة في متحف الفن الإسلامي في برلين. إذ أهدى سلطان عثماني في ذلك العصر هذا الصرح الأموي التذكاري لأحد القياصرة الألمان. بإمكان المرء اليوم التفرج على القصر والواجهة معا بفضل موقع "اكتشف الفن الإسلامي". تقرير أريانا ميرزا.

متحف الفنون الاسلامية في برلين:
مائة سنة من الاهتمام بفنون الشعوب الإسلامية
تكاد العاصمة الالمانية برلين تكون عاصمة المتاحف. بل بها منطقة واسعة تعرف بجزيرة المتاحف. ومن بينها عدة متاحف تختص بالثقافة العربية، وبالحضارات القديمة كالفرعونية وحضارة بلاد الرافدين، ومنها "متحف الفنون الاسلامية" الذي يحتفل هذه السنة بالذكرى المئوية لتأسيسه