من الدوغماتية إلى البراغماتية السياسية؟

ينشط الإسلامويون على الساحة السياسية في سياقات متعددة وأُطر متنوعة تتمايز فيما بينها من خلال خطاب تصالحي تفاعلي يقوم على المشاركة السياسية أو خطاب تصادمي ينبثق من منطلق إقصائي ذي بعد أيدلوجي. الباحث عمرو حمزاوي، كبير الباحثين بمعهد كارنيغي للسلام في واشنطن، في تحليل معمق لهذه الحركات ومنطلقاتها.

في الوقت الذي تتعالى فيه نداءات عديدة من جانب الإسلاميين في مختلف ربوع العالم العربي لكي يشاركوا مشاركة رسمية في الحياة السياسية، يتزايد القلق تجاه العواقب المحتملة من جراء مشاركة كهذه، كما أن عديدين يتساءلون: هل الإسلاميون – في حالة وصولهم إلى الحكم عبر طريق ديمقراطي – قادرون بالفعل على الحكم؟ وبالنظر إلى الأشكال المتباينة للحركات الإسلامية فإنه من الواجب علينا أن نتجنب التعميمات والنظرة المختزلة التي تصم كافة تلك الحركات – سلفاً – باعتبارها مرتعاً خصباً للإيديولوجيا المتعصبة.

ثلاثة أشكال للمشاركة السياسية

باستطاعتنا أن نفرق عموماً بين ثلاثة أشكال من المشاركة الإسلاموية في الحياة السياسية. الشكل الأول نجده في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية. هناك تنشط حركات وأحزاب إسلاموية بحرية نسبية داخل نظام حزبي تعددي. غير أن هذا النشاط يتطور في محيط يمكن وصفه بالفوضوي، فالسلطة المحلية الحاكمة هناك إما أنه قد تم تدميرها من قبل قوة احتلال، أو أن الأزمات الدائمة تعطل كفاءة واستقرار النظام السياسي، وتشجع على تعاظم سلطة القوى الأحادية المتصلبة وغير المتسامحة. وسواء كانت الحركات الإسلاموية شيعية أم سنية فإنها في الدول السابقة الذكر يغلب عليها بنية شبه عسكرية، إذ أنها تملك وسائل لممارسة العنف، كما أنها تميل إلى التهديد باستخدام تلك الوسائل لحل النزاعات السياسية، أو هي بالفعل تستخدمها.

​​وبالنظر إلى مثل هذه الحركات الإسلاموية التي لم تلتزم بعد نبذ العنف، واقتصار نشاطها على المشاركة السياسية السلمية -وربما تقوم بذلك بالفعل، ولكن لأسباب تكتيكية فحسب-، فإن السؤال المبدئي المطروح هو: هل سيؤدي إشراكها في العملية السياسية المتعددة الأحزاب إلى تطوير نظام حكم للدولة يتميز بالانفتاح والديمقراطية، أم أنها ستعوق مثل هذا التطور، أو بالأحرى ستمنعه؟ أم أنه سيكون بمقدور الإسلاميين في الدول ذات النظم المعطلة أو المنهارة أن يتحولوا شيئاً فشيئاً عبر عملية الإدماج السياسي إلى حركات غير عسكرية لا تشارك في الحياة السياسة إلا مشاركة سلمية؟

لسوء الحظ فإن التطور الأخير يبدو بعيداً عن الاحتمال. وبالنظر إلى الواقع في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية، وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الحركات قد تتغير من الداخل من خلال نزاع على السلطة بين المتشددين والممانعين من ناحية والمعتدلين من ناحية أخرى، أو أن المجتمع لن يعود على المدى المتوسط يعير الخطاب الشعبوي الإسلاموي آذاناً صاغية، فليس هناك، على الأقل من الناحية النظرية، سوى مخرج واحد من الأزمة بالنسبة لتلك المجتمعات: الإرادة الجمعية لتحقيق الدولة كمجتمع سياسي مدني بحت، وتعزيز حيادها في مقابل كل عنصر من العناصر المختلفة للمجتمع، وإدخال آليات تمنع مجموعات الضغط الدينية وغير الدينية من احتكار الشأن العام.

الالتزام بقواعد اللعبة

أما الشكل الثاني من المشاركة الإسلاموية في الحياة السياسية فيبدو مختلفة تماماً. هذا الشكل لا يريد سوى المشاركة السلمية في السلطة، كما أنه يريد الحفاظ على أطر وآليات النظام شبه التعددي الذي يهدف إلى الوصول إلى إجماع. هذا هو برنامج الإسلامويين في المغرب والجزائر والكويت البحرين الذين تحولوا إلى أحزاب أو جماعات شبيهة بالأحزاب دون أي طابع عسكري.

فبينما تشارك "حركة مجتمع السلم" في الجزائر و"الحركة الدستورية الإسلامية" في الكويت بقدر متواضع في تشكيل الحكومة، فإن "حزب العدالة والتنمية" في المغرب و"جمعية الوفاق الإسلامية" الشيعية في البحرين ينتميان إلى المعارضة النزيهة. وقد استطاعت الحركتان الجزائرية والكويتية تحقيق الفصل الفعلي بين السياسة والدعوى الدينية. وهكذا نجد أن نشاطهما السياسي مرتبط بنظام القيم الإسلامي، غير أن منفذيه هم من السياسيين المحترفين الذين انفصلوا كليةً عن خطاب الحركات الدعوية وأنشطتهم.

​​وعلى الرغم من كل الاختلافات في المحتوي فهناك ملامح أساسية تجمع بينها. إنها تحترم في المقام الأول شرعية الدولة القومية التي ينتمون إليها ومؤسساتها، كما أنها تحترم مبدأ المساواة بين كافة المواطنين والروح التعددية التنافسية داخل الحياة السياسية. ولم تعتنق تلك الحركات هذا الموقف شكلياً فحسب، بل إنها استوعبته جيداً، ولذلك لم تعد تهاجم بعنف وعدوانية النخبة الحاكمة أو التيارات الليبرالية واليسارية، كما أنها تتجنب إطلاق الأحكام المطلقة والعبارات الأيديولوجية. إنها تريد بدلاً من ذلك أن تساهم مساهمة بناءة في تشكيل سياسية الدولة.

إن وجود هذه الحركات يبرهن أيضاً على علاقة مباشرة بين استقرار المحيط السياسي الذي لم يعد الإسلامويون فيه يتعرضون للقمع تحت ذريعة الدواعي الأمنية والإقصاء من الحياة السياسية من ناحية، وتحول سريع نسبياً من جانب الإسلامويين تجاه الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية من ناحية أخرى. ومع ذلك، ما زال على هذه الحركات الإسلاموية أن تبرهن على أنها ستظل تحترم النظام التعددي إذا تعارضَ مع تصوراتهم للقيم والأخلاق. من ناحية أخرى ينبغي على الإسلامويين أن يقنعوا ناخبيهم بأهمية المشاركة السياسية السلمية في محيط يغلب عليه التناقض المتنامي ما بين التيارات الإسلاموية الراديكالية ونظم الحكم شبه الاستبدادية.

بلا أرض صلبة

والآن نريد إلقاء الضوء على المجموعة الثالثة التي تشمل مصر والسودان والأردن واليمن. في هذه البلدان استطاعت الحركات الإسلاموية أن تظل على قيد الحياة على الرغم من المحيط السياسي المتقلب والعلاقة الهشة مع النخبة السياسية هناك. صحيح أنه قد تم إفساح مجال معين لمشاركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن في الحياة السياسية، سواء كان ذلك في الانتخابات التشريعية أم في النقابات المهنية أم في مجالات المجتمع المدني الأخرى، غير أن سيف الجهات الأمنية ما زال مسلطاً على رقابهم. أما في اليمن والسودان فإن العواقب الخطيرة للتحالف غير الديمقراطي وشبه العسكري بين الإسلامويين والنخبة الحاكمة ما زالت قيد البحث والملاحظة.

​​إن هؤلاء الإسلامويين قد تبنوا أيضاً استراتيجية المشاركة السلمية، ولكنها في حالتهم ليست سوى استراتيجية فحسب، فدورهم السياسي في مصر والأردن يتأرجح دوماً بين المشاركة والمقاطعة. يفعل الإسلامويون ذلك لأسباب كثيرة، ليس آخرها القمع الذي تمارسه الدولة عليهم. أما في اليمن، وبقدرٍ ما في السودان أيضاً، فإنهم قد تحولوا إلى خصوم لشركائهم في الحكومة الأوتوقراطية. غير أن قادة هذه الحركات وأتباعها ما زالوا في أماكنهم من دون أي جذور راسخة في النظام التعددي، وهناك ما زالوا يرددون المثل الإيديولوجية النظرية، ويسعون إلى تطبيق "السياسة الكبرى" التي تتقلص في عيونهم في مسائل أساسية مثل دور الدين في المجتمع وتطبيق الشريعة الإسلامية، دون أن يطوروا القدرة على الممارسة السياسية البراجماتية البناءة القادرة على الوصول إلى إجماع بين الفرقاء. إن المحيط الاستبدادي الذي ينشط فيه الإسلامويون في البلدان الأربعة يحرمهم من إمكانية المشاركة في السياسة على أرضية صلبة، وأن يتطوروا إلى البراجماتية وإلى قبول المعايير وقواعد اللعبة الديموقراطية.

وفي الختام، علينا أن ننتبه جيداً إلى الفروق بين هذه الأشكال الثلاثة من المشاركة السياسية. فإذا لم نفعل، لن نكون في وضع يسمح لنا بالتعامل بواقعية مع الظاهرة الإسلاموية وما تطرحه من تحديات.

عمرو حمزاوي
ترجمة: صفية مسعود
قنطرة 2008

قنطرة

الخطاب السياسي للحركات الإسلاموية
إشكالية التحول الديموقراطي
لم يعد بوسع المرء تخيُّل الخطاب السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية من دون الحركات الإسلاموية . لكن ماذا يُقصد بالإسلاموية عموماً؟ هل هو تعصّب الخاسرين وحسب؟ وكيف يتوجّب على الغرب أن يتعامل مع "الإسلامويين المعتدلين". سونيا زِكري تجيب عن هذه التساؤلات.

تجارب دول المغرب العربي مع الأحزاب الإسلاموية:
ترويض الإسلامويين من خلال إشراكهم بالحياة السياسية
يمثل الإسلامويون جزءا هاما من مجتمعات بلادهم. إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية، كما تبين إزابيل فيرينفيلس في تحليلها التالي.

حوار مع الباحثة دينا شحاتة ، إحدى مؤسسي جمعية نهضة المحروسة:
تواجد ضعيف للمجتمع المدني في مواجهة التطرف الإسلاموي
بعد الإعتداءات التي شهدتها مصر في الشهور القليلة الماضية ازداد الجدل حول مسؤولية منظمات المجتمع المدني في مواجهة الأفكار الإسلاموية المتطرفة التي تتبنى العنف. حوار مع دينا شحاتة الباحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والعضو في جمعية نهضة المحروسة حول ماهية الدور الذي يجب أن يلعبه المجتمع المدني لمواجهة ظاهرة العنف والتطرف الإسلاموي.