جنرال تحت ضغط الأحداث
طفت على السطح في الباكستان في الأشهر الأخيرة المرة تلو الأخرى مقولة شريرة تقول: "الدول الأخرى تملك جيشا، أما في الباكستان فان الجيش يملك دولة." هذه المقولة مقتبسة من كتاب "العسكرية المحتوية" الذي تعرض فيه مؤلفته عائشة صديقة كيف أن القوات المسلحة الباكستانيه اليوم تمثل أكبر قوة اقتصادية للبلاد عبر شبكة من المؤسسات والشركات المتحدة، فثلث انتاج الصناعات الثقيلة يقوم به الجيش وثمة حوالي مائة شركة خاصة تقوم بإنتاج كل شيء بداية من رقائق الإفطار حتي اسمنت البناء. كما بيعت مساحات هائلة من أرض الدولة إلي كبار ضباط الجيش المتقاعدين، أقيمت عليها مساكن تعاونية وغيرها لصالحهم .
دولة الجيش والمخابرات
السماح بنشر مثل هذه الدراسة في بلد يحكمه جنرال مثل الرئيس مشرف يعكس ثقة القوات المسلحه بنفسها وبأنها أهم أعمدة الأمة ولهاالحق في الاستفادة من ذلك. إن تجميع القوة الاقتصادية في يدها يستند علي قدرة الجيش على التدخل التعسفي والقسري من خلال المخابرات العسكرية إذا ما صب ذلك في مصلحة الجيش والمصلحة الوطنية للبلاد وهذان المفهومان يتساويان في عقلية الجيش .
عندما ازدادت قوة بنازير بوتو قامت المخابرات العسكرية بتبني نواز شريف وهو شخصية سياسية محلية غير معروفة آنذاك كمنافس لها. وفي انتخابات العام 2002 لم يفلح الرئيس مشرف من وقف تسلم الأحزاب الديمقراطية للسلطة إلا عن طريق تزوير الإنتخابات.
ومثلما كان للجيش اهتمام بالمصالح الاقتصادية والسياسية فإنه ساهم في تأسيس الجماعات الإسلامية السرية. وتم استخدامها بموافقة الغرب لمحاربة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان. بعد ذلك قامت المخابرات العسكرية بأهم أعمالها: شكلت من جيل الشبان الضائع الذي ترعرع في مخيمات اللاجئين حركة طالبان الباكستانية.
الجهاديون ينقلبون ضد مشرف
لكن السيطرة المستمرة للقوات المسلحة على الحياة السياسية للبلاد لم تخل من مقاومة، وبخاصة في أوائل الثمانينات، حيث نمت حركة احتجاج مدنية أجبرت الجيش على التخلي عن السلطة، نحو الخارج علي الأقل.
وعندما أراد مشرف في ربيع هذا العام تمهيد الطريق لنفسه لفترة رئاسية جديدة بإيقاف أحد القضاة المنتقدين عن العمل حتي يتسني له الجمع بطريقة لا دستورية بين منصبه كرئيس للبلاد وكقائد عام للقوات المسلحة نشأت حركة احتجاج واسعة النطاق في البلاد جراء ذلك .
كما بدأ الجهاديون بعملية احتجاج شديدة ضد تضليل المخابرات العسكرية التي كانت قد وافقت علي تأسيسها لأغراض تكتيكية، لكن أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر غيرت من مجري الأمور.
فقد التزم برويز مشرف جانب الولايات المتحدة تماما وهو ماجعله بمثابة الخائن للإسلام في أعين الجماعات الاسلامية وهو أيضا نفس المفهوم الذي تسير عليه القاعدة التي أعلنت الحرب ليس ضد الغرب فقط بل ضد الكثير من المسلمين الذين تعتبرهم متواطئين ويقدمون المساعدة له.
جهاديو المخابرات
الحقيقة هي ان هذه الجماعات ظلت تحت سيطرة وإمرة المخابرات العسكرية حتى وهي ممنوعة تحت ضغط الولايات المتحدة وكان يسمح لها بالنشاط بين وقت وآخر بأسماء أخرى وفي أحسن الأحوال كان زعماؤها قيد الإقامة الجبرية في بيوتهم. الا أن التكلفةالسياسية لهذه اللعبة المزدوجة كانت باهظة، لايتحملها الجانبان اللذان صارا يدفعان ثمنها.
تظهر محاولات اغتيال الرئيس مشرف المستمرة ان الدولة تحولت إلي عدو لهذه الجماعات السرية. وجاءت أزمة المسجد الأحمر الأخيرة لتسقط هذا القناع ولتثبت أن القوة العسكرية لا تزال تفرض إرادتها بكل وضوح في قلب العاصمة.
الازمة حول "المسجد الاحمر" أدت الى ظهور الصدع. فقد جرى تحدي القوة العسكرية في قلب العاصمة. فطوال ثلاثة اشهر ظلت اللعبة المزدوجة قائمة إذ كانت خطة اقتحام المسجد جاهزة منذ العاشر من شباط/فراير ومع ذلك سمح من منافذ المراكز العامة للمخابرات العسكرية بمواصلة إدخال الأسلحة والمتفجرات الى داخل المسجد.
وتجاهلت الحكومة نداءات الإعلام بقطع الماء والكهرباء على الأقل. ومع ذلك لم يلتزم الراديكالي الإسلامي رشيد غازي لأول مرة بتوجيهات ضباطه في قيادات المخابرات. ولم يستسلم حتى يكون قادرا على العودة في المرة القادمة من الباب الخلفي.
فقد أدى "استشهاده" الى إرغام مشرف والقوات المسلحة على الكشف عن حقيقتهم. لقد أدى اقتحام المسجد الأحمر قبل اسبوعين الى قطع كل أواصر الروابط فجأة بين المخابرات العسكرية والإسلاميين. وكما الحال بالنسبة للمجتمع المدني الباكستاني في إحدى نهايات المشهد صار الجهاديون أيضا يرفضون إسناد دور الحكم الى الجيش.
عزلة مشرف
وهنا يقف الرئيس مشرف معزولا، حيث أظهرت المظاهرات أن المجتمع الباكستاني يساند كبير القضاة افتخار تشودري، رافضا شرعية الجيش القائمة على أداء دور المنقذ للأمة في الأزمات. كما أثبتت الاعتدءات الأخيرة علي القوافل العسكرية أن الإسلاميين وضعوا الجيش الآن في قائمة أعدائهم.
هذه التركيبة أجبرت مشرف علي صرف النظر عن إعلان الحرب ضد التطرف ،لكنها أيضا فرصة لمشرف ليكون رئيسا طبق الدستور، لا دكتاتورا ويسعي الى إقامة تحالف كبير ضدالقوات الجهادية المناهضة وخاصة أن معظم الجنرالات يؤيدون مثل هذا النهج، إضافة إلي الأحزاب الديمقراطية وتحديدا الحزب الذي تنتمي بنازير بوتو رئيسة الوزراء السابقة اليه والتي يمكن أن تقف إلي جانب الرئيس مشرف في حال تخليه عن البزة العسكرية.
كما أن تحالف الأحزاب الإسلامية نفسها حليف "موضوعي" رغم انها قد لا تعلن عن ذلك. فالجهاديون الراديكاليون مهددون بفقدان قاعدتهم. وفي كل الأحوال فان الرئيس مشرف يمكن أن يعتمد على الموافقة الصامتة للرأي العام في مسعاه لرفض تحويل البلد الى دولة إسلامية.
أهون الشرور
يمكن للرئس مشرف من خلال بعض المشاريع والقضايا الاعتماد علي الغرب وخاصة الولايات المتحدة التي لم تستطع حتي الآن إسقاطه أوالوقوف بجانبه بقوة ،إلا أنها تري فيه شرا هينا وليس خطيرا، وفي الوقت نفسه لا تثق الولايات المتحدة في قدرة الأحزاب الديمقراطية الضعيفة على مواجهة الحركة الإسلامية وبالتالي بطريقة فعالة، كما تشجع الولايات المتحدة مشرف على تشكيل حكومة ائتلاف مع الأحزاب الديمقراطية والتي ستظل على أية حال رهن توجيهات الجيش وتعتمد عليه .
لكن مشرف لم يحرك ساكنا حتى الآن تجاه ذلك وصم أذنيه عن كل ما يتعلق بالسماح لخصومه الديمقراطيين المقيمين في الخارج بالعودة إلي بلادهم، فهو يعتقد أنه يمكن له أن يواجه الجهاديين بطريقة أفضل بدونهم.
يشكل الوضع المتفحر حاليا في الباكستان فرصة للغرب للدفع باتجاه المزيد من الإنفتاح الديمقراطي. ولكن حتى إذا نجح هذا الإنفتاح يظل السؤال قائما عما إذا لم يكن القطار قد انطلق لتوه على نفس سكة العراق.
بقلم برنهارد إمهاسلي
ترجمة شكري عبد الحميد
حقوق الطبع قنطرة/تاغستسايتونغ 2007
قنطرة
ضائع بين كل الجبهات!
يتعرض الرئيس الباكستاني مشرف الآن الى ضغوط من جميع الجهات بعد العملية الدموية التي قادها ضد متطرفي المسجد الأحمر. الإسلاميون يعتبرونه عميلا أميركيا والليبراليون يرونه دكتاتورا لا تهمه سوى السلطة. تعليق كتبه توماس بيرتلاين
"المسجد الأحمر" في إسلام أباد
تدور منذ أيام معارك بين قوات الأمن الباكستانية والمحاربين الإسلامويين حول "المسجد الأحمر" والمدارس الملحقة به في قلب العاصمة الباكستانية