ارتباط المصير والتاريخ والهجرة

وقف وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، في أكتوبر/تشرين الأول 2009، قبل عامين من بدء الحرب في سوريا، أمام وزراء أتراك وسوريين ووضح رؤيته للوحدة بين البلدين، قائلًا في خطابه: "من الآن فصاعدًا، وباعتبارنا شركاء في المصير والتاريخ والمستقبل، ستواصل تركيا وسوريا السير على نفس المسار. وسنسير جنبًا إلى جنب على هذا المسار. وسنعمل معًا لجعل منطقتنا مركزًا صاعدًا للحضارة مرة أخرى، وتحويلها إلى مركز اقتصادي مشترك وإعادة توحيد غازي عنتاب مع حلب وإسطنبول وأنقرة مع دمشق".
ثم حضر وزراء البلدين اجتماعين مشتركين لمجلس الوزراء، أحدهما في حلب السورية والآخر عبر الحدود في غازي عنتاب، التي كانت جزءًا من ولاية حلب خلال حكم الإمبراطورية العثمانية، وقد تحولت بحلول عام 2009 إلى واحدة من المراكز الصناعية الرئيسية في تركيا، وعندما اندلعت الحرب في سوريا، باتت ثاني مركز تجمع للاجئين السوريين في تركيا.
لقد بدا الأمر وكأن الحرب دمرت أيّ أمل في إقامة علاقات وثيقة بين البلدين، حيث عارضت تركيا بشدة نظام بشار الأسد. واليوم، بعد سقوط الدكتاتور، تبدو رؤية داود أوغلو ملموسة مرة أخرى، إذ عاد تدفق الأشخاص والسلع ورأس المال بين البلدين قويًا كما كان من قبل، بيد أن إعادة بناء العلاقات هذه أشعلت مناقشات شرسة داخل المجتمع التركي.
وبعد خمسة أيام من سقوط الأسد، زار رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالين المسجد الأموي الشهير في دمشق. وبعد الصلاة، جلس قالين في المقعد الأمامي لسيارة يقودها الزعيم السوري الجديد، أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني.
بالنسبة للبعض، كان لقاء الشرع وقالين انتصارًا، حيث كانت تركيا هي أول دولة يزورها مسؤول رسمي في سوريا بعد الأسد. غير أنّ هناك آخرين غضبوا وأصروا على أنّ تأهيل وإعادة تسويق الشرع لن يمحي ماضيه كإسلامي متطرف. ولا يزال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يصنف هيئة تحرير الشام، المجموعة التي قادها الشرع إلى السلطة، كمنظمة إرهابية.
في يناير/كانون الثاني المنصرم، وفي لفتة حسن نية، تعهدت رئيسة بلدية غازي عنتاب فاطمة شاهين بأنّ بلديتها ستوفر سجادًا جديدًا من الصوف باللون الأحمر الداكن للمسجد الأموي، الذي اختاره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه. وقد أثار هذا القرار غضب المنتقدين، الذين جادلوا بأنّ هذه البادرة غير ملائمة حيث يعاني الكثير من الأتراك من ارتفاع مزمن في تكاليف المعيشة.
فيما ترى تركيا العلمانية أنّ الانحياز إلى سوريا التي يقودها الشرع يهدد المبادئ الأساسية للبلاد، ويشجع العناصر المتطرفة ويورط البلاد بشكل خطير مع الحركات الإسلامية.
وعلى الرغم من مخاوف المعارضة، تعهد الزعيمان خلال زيارة الشرع إلى أنقرة في الرابع من فبراير/شباط الحالي بتعزيز العلاقة، وأعلنا في مؤتمر صحفي مشترك عن بداية صداقة دائمة وتعاون فيما بينهما.
محرمات السياسة الخارجية التركية
يعيش المشهد السياسي التركي حالة من الاستقطاب، ليس فقط بسبب تكلفة السجاد أو اسم الزعيم الجديد، بل وأيضًا بسبب كل قضية تقريبًا تشكّل علاقات تركيا مع سوريا.
يمس هذا الانقسام جوهر الكيفية التي ترى بها تركيا نفسها كأمة، فعندما صعد حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة عام 2002، تم تأطير ذلك باعتباره ميلادّا لـ"تركيا الجديدة". وفي إطار هذا التحول كان هناك رفض لأحد الركائز الرئيسية للسياسة الخارجية في "تركيا القديمة"، التي تجنبت التورط في الشؤون العربية. واليوم، لا يزال حزب العدالة والتنمية ينظر إلى تركيا باعتبارها قوة إقليمية كبرى؛ "الأخ الأكبر" لجيرانها وزعيمة في العالم الإسلامي.
ولكن معارضي الحزب الحاكم لديهم رؤية مختلفة؛ تركيا علمانية ذات توجه غربي، وبعيدة عن الصراعات الإقليمية، إذ يدعو حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، باستمرار إلى فك الارتباط بصراعات الشرق الأوسط.

انحدار حكم الإسلام السياسي في تركيا
على الرغم من تصنيفها كحركة متفردة، إلا أن أفكار وتعاليم حركة غولن تتماشى بشكل عام مع التيار السني السائد في تركيا. بيد أن صدام الحركة مع حزب أردوغان كشف عن توترات عميقة داخل تيار الإسلام السياسي في البلاد.
وبحسب البروفيسور إمري أردوغان، من جامعة بيلجي التركية، فإن النقاش المفتوح حول السياسة الخارجية التركية يُعدّ أمرًا محظورًا بشدة في الثقافة السياسية التركية، وغالبًا ما يتم تأطير انتهاك هذا المحظور باعتباره قضية أمن قومي.
ويضيف لقنطرة: "تتحدث الحكومة باستمرار عن مصالح تركيا دون تحديدها بوضوح وتطالب بالوحدة الوطنية. وإذا تساءلت عمّا إن كان هناك تهديد خارجي أو غيره، فإنك تُوصَم على الفور بالخيانة"، ويعزو ذلك إلى غياب مراكز الفكر المستقلة، والصحافة النقدية، وإلى وجود الأكاديميين الذين يأخذون الجدل إلى منطقة الوحدة الوطنية بدلاً من التحليل الموضوعي للأمور.
ووفقًا للبروفيسور أردوغان، فإنّ إحدى نقاط الضعف الرئيسية للمعارضة هو فشلها في اقتراح سياسة خارجية بديلة. فعلى الرغم من عضوية حزب الشعب الجمهوري في الاشتراكية الدولية، إلا أنه لم يطور قط نهجًا أمميًا أو نهجًا يميل للطبقة العاملة في التعامل مع العلاقات مع سوريا.
وبالنسبة لكثير من أصوات المعارضة، فإنّ أيّ تحرك تقوم به الحكومة التركية خاطئ بشكل تلقائي. ويزعم البروفيسور أردوغان أنّ هذا الانتقاد يتجاهل تعقيدات السياسة الخارجية، ويختزلها في ثنائية بسيطة مفادها أنّ "الحكومة تساوي السوء".
سوريا من منظور تركي
عندما يناقش المجتمع التركي المسألة السورية، فإنه يُسقط عليها انقساماته الداخلية، كما يقول البروفيسور أردوغان: "نحن نحاول أن نفهم سوريا على أساس انقساماتنا الداخلية،" أي على أساس الخطوط الإسلامية-العلمانية، والعلوية-السنية، والكردية-التركية.

متحدون لا متجانسون
يستخدم أنصار الأسد مصطلح العلمانية لتشويه الثورة، وفي المقابل يسعى المعارضون لإعادة تعريفه. فيما تجادل الكاتبة ليلى الشامي، في مقالها بأن المجتمع العلماني أفضل من يمثل النسيج الاجتماعي المتنوع في سوريا.
وقد اندلعت خلافات بين الفصائل العلمانية والدينية بسبب مقطع فيديو انتشر مؤخرًا يطلب فيه الزعيم السوري الجديد من امرأة شابة تغطية شعرها قبل التقاط صورة معه. ووصفت وسائل الإعلام المعارضة هذا الفيديو بأنه إشارة تحذيرية إلى أنّ سوريا تتجه نحو مستقبل أشبه بأفغانستان تحت حكم طالبان، في حين دافعت وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة عن الشرع، مستشهدة ببيان المرأة، الذي شكرته فيه على "تحرير البلاد".
وعلى نحو مماثل، أدى انتصار المعارضة السُنية السورية على الأسد العلوي إلى بروز التوترات السُنية العلوية في تركيا، ورغم أنّ العلويين الأتراك لديهم القليل من الأمور المشتركة مع العلويين السوريين، إلا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ضجت باتهامات للجهات السياسية العلوية وعموم العلويين في تركيا وسوريا بالتآمر ضد الثورة بأوامر من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. وأدانت المنظمات العلوية التركية مثل هذا الخطاب باعتباره تحريضًا.
بعد ذلك يأتي الأكراد؛ فمنذ عام 2016، حافظت تركيا على وجود عسكري في شمال سوريا، مستشهدة بأمن الحدود ومكافحة الإرهاب، واستهدفت عملياتها في المقام الأول حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي صنفته أنقرة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، بالإضافة إلى فرعه السوري، وحدات حماية الشعب (YPG).

"أملي ضعيف في حكام سوريا الجدد"
يتمسك السياسي والناشط السوري الكردي سيامند حاجو، في حواره مع قنطرة، برؤيته لحكومة لامركزية في سوريا بعد سقوط الأسد، منتقدًا في الوقت نفسه، هرولة الأمم المتحدة والغرب للتعامل مع الحكام الجدد.
ولأنّ السياسة الخارجية في تركيا غالبًا ما تُصاغ في إطار الأمن ومكافحة الإرهاب، فإنّ هذا السرد يهيمن على النقاشات حول سوريا. ففي أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، تصاعدت التوترات داخل تركيا عندما حُكِم على الرئيسة المشاركة لبلدية سيرت، صوفيا ألاغاش، من حزب المساواة والديمقراطية الشعبية، المؤيد للأكراد، بالسجن لمدة 6 سنوات وثلاثة أشهر بتهمة "الانتماء إلى منظمة إرهابية".
وبعد صدور الحكم، استبدلت الحكومة الرئيسة المشاركة المنتخبة بشخص آخر موثوق به.
وليس من المستغرب أن يكون الأمن موضوعًا رئيسيًا للمناقشة خلال زيارة الشرع لأنقرة هذا الشهر، فقد صرّح بأنّ الزعيمين ناقشا تهديدات مختلفة، في حين أكد أردوغان أنّ تركيا مستعدة لتقديم الدعم الكامل لسوريا في حربها ضد "المنظمات الإرهابية".
إعادة الإعمار وعودة اللاجئين
أثار سقوط الأسد التفاؤل في تركيا بشأن الفوائد الاقتصادية المترتبة على تجدد العلاقات مع سوريا. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، سلّط وزير الطاقة ألب أرسلان بيرقدار الضوء في مؤتمر صحفي على احتياطيات سوريا من النفط والغاز، مشيرًا إلى أنّ تركيا قد تستفيد من هذه الموارد. ويعتقد كثيرون أن تركيا قد تلعب دورًا رائدًا في إعادة بناء سوريا، الذي أدى إلى رفع أسعار أسهم شركات البناء التركية.
ويرفض آخرون هذه التطلعات باعتبارها غير واقعية، ويتوقعون أن تقف القوى الغربية والإقليمية أمام نفوذ تركيا أو تحاول كبح جماحه. وسارعت وسائل الإعلام المعارضة إلى تسليط الضوء على اجتماع عقد في التاسع من يناير/كانون الثاني في روما بين إيطاليا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة حول مستقبل سوريا، الذي لم تتم دعوة تركيا إليه.
وفي ظلّ المناخ شديد الاستقطاب في تركيا، تبرز قضية اللاجئين السوريين كواحدة من القضايا القليلة التي تحظى بالإجماع. ويعتقد العديد من الأتراك أن الوجود طويل الأمد لملايين السوريين قد أرهق اقتصاد البلاد ومجتمعها.

الحرية الغامضة
بين زيارة إلى أحد سراديب التعذيب لنظام الأسد ونقطة حراسة لمقاتلي المعارضة الإسلاميين، ولقاء مع رئيس أساقفة يتملكه القلق، ينقل كريم الجوهري من دمشق انطباعاته عن "سوريا الجديدة" في لحظة تاريخية فارقة.
وأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال زيارتها لأنقرة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن تمويل إضافي بقيمة مليار يورو، يضاف إلى 10 مليارات يورو التي قدمها الاتحاد الأوروبي بالفعل لتركيا لدعم اللاجئين السوريين منذ عام 2011. ومع ذلك، رأى كثيرون أن هذا التمويل غير كافٍ. وجادل زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل بأنّ البلاد خسرت ما مجموعه 200 مليار يورو بسبب عبء استضافة اللاجئين السوريين.
وتابعت وسائل الإعلام التركية عن كثب عدد السوريين العائدين إلى بلادهم منذ ديسمبر/كانون الأول. وتريد كل من الحكومة والمعارضة أن يغادر السوريون، فقد دعت الحكومة إلى عودة "مشرفة"، في حين تريد المعارضة خروجهم في أقرب وقت ممكن.
وقد لا يكون هذا الأمر بهذه البساطة، إذ تشير البيانات الرسمية إلى أنّ ما يقرب من 2.9 مليون سوري إما اندمجوا في المجتمع التركي أو من المرجح أن يظلوا في حالة انتظار وترقب، غير متيقنين من العودة إلى سوريا غير المستقرة.
وسوف يعود الكثير من السوريين، ويشكلون مستقبلًا جسرًا مهمًا بين البلدين، لكن أغلبية كبيرة منهم بنوا حياة جديدة في تركيا حيث ولد أطفالهم ونشأوا في تركيا، ويذهبون إلى المدارس التركية وقد لا يتحدثون اللغة العربية.
وأكد أردوغان، خلال زيارة الشرع، اعتقاده بأن العودة الطوعية للسوريين سوف تتسارع مع استقرار البلاد. وشدد على أن كل دولة، وخاصة الدول العربية والإسلامية الأخرى، يجب أن تقوم بدورها لدعم إعادة إعمار سوريا.
وبغض النظر عما يحمله المستقبل، فإن الكثير من رؤية داود أوغلو قد تحققت بالفعل: فتركيا وسوريا مرتبطتان ببعضهما البعض بالمصير والتاريخ والهجرة. لكن أن يصبحا مرة أخرى قلب حضارة مزدهرة، كما تصور داود أوغلو، يظل سؤالاً مفتوحًا.
قنطرة ©