تغلغل "داعش" في مصر من خلال تغذية الفتن الطائفية
يشن تنظيم داعش هجمات على قوات الجيش والشرطة في شمال سيناء منذ سنوات. لكن هجماته ضد المسيحيين تزايدت في الشهور القليلة الماضية، وأعلن مسؤوليته عن قتل 108 شخصا في هجمات استهدفت المسيحيين منذ ديسمبر/ كانون الأول 2016، متوعدا بمزيد من الهجمات.
أحدث هذه الهجمات، رغم حالة الطوارئ التي تعيشها مصر، كان الجمعة 26 مايو/ أيار 2017 عندما هاجم مسلحون أقباطا، بينهم عدد من الأطفال، كانوا متجهين إلى دير في محافظة المنيا بجنوب مصر بعد 47 يوما فقط من انفجارين استهدفا كنيستين في شمال البلاد، استغلها الرئيس السيسي في إعلان حالة الطوارئ في كافة أنحاء الجمهورية لثلاث أشهر، وهو ما يوضح تسارع وتيرة الهجمات على المسيحيين الذين يمثلون نحو عشرة بالمئة من سكان مصر البالغ عددهم 92 مليون نسمة، مما يجعلهم أكبر طائفة مسيحية تقريبا في الشرق الأوسط.
وعندما أعلن التنظيم مسؤوليته عن هذه الهجمات حمل بيان إعلان المسؤولية اسم "الدولة الإسلامية في مصر"، وليس ولاية سيناء، مما يوضح أن التنظيم مدَّ عملياته إلى أنحاء أخرى من البلاد.
وبدأ استهداف الأقباط مبكرا بعد عزل الرئيس محمد مرسي من قبل الجيش في 3 يوليو/ تموز 2013 بمحاولة الاعتداء على بعض الكنائس في عدد من المحافظات، لكن أول استهداف مباشر بدأ من مدينة سرت الليبية عندما ذبح التنظيم 21 قبطيا في فبراير/ شباط 2015.
كان الاستهداف الثاني في ديسمبر/ كانون الأول 2016 مسفرا عن مقتل ما لا يقل عن 28 شخصا، والذي استهدف المصلين أثناء قداس في الكنيسة البطرسية الملحقة بالكاتدرائية التي تتمتع بتأمين مكثف في حي العباسية في القاهرة.
بعدها بشهرين أصدر التنظيم فيديو تحريضياً ضد عموم الأقباط في مصر وحث أنصاره على مهاجمة الأقباط.
وبالتزامن مع إصدار الفيديو كان تنظيم ولاية سيناء –أحد أفرع تنظيم الدولة الإسلامية- يشن حملة على الأقباط في شمال سيناء، ويوزع منشورات بأسماء مسيحيين خيرهم التنظيم بين مغادرة مدينة العريش المصرية التي يقيمون بها أو القتل.
وبعدما كان التنظيم ينشط في مدينتي رفح والشيخ زويد المتطرفتين على الحدود مع قطاع غزة، كانت هذه الحملة في قلب مدينة العريش التي ترتكز فيها عشرات الأكمنة ضد الجيش والشرطة.
ونشر التنظيم حينها مشاهد لكمين للتنظيم في شارع أسيوط في مدينة العريش ثم اشتباك مع قوات الأمن.
وخلال شهر واحد قتل أربعة مسيحيين آخرين في المدينة رميا بالرصاص وقُطع رأس آخر وقتل سادسا حرقا. وبعد مقتل السابع، بدأت بعض الأسر القبطية في مغادرة شمال سيناء بعضهم لا يعتزم الرجوع إليها مرة أخرى.
وفرت نحو 145 أسرة من شمال سيناء إلى مدينة الإسماعيلية المطلة على قناة السويس والتي تشكل الحدود الغربية لسيناء كما انتقلت نحو 30 أسرة إلى القاهرة. ويقول مسؤولون بكنائس وجماعات مدافعة عن حقوق الإنسان إن آخرين لاذوا بمحافظات أخرى.
وبعد هذه الحملة، وأثناء احتفالات المسيحيين بأحد السعف، هاجم التنظيم من جديد كنيسة مارجرجس بطنطا من خلال تفجير انتحاري بسترة ناسفة في عمق الكنيسة، والذي خلّف مقتل 28 قبطيا، وبعده بساعات نجا البابا تواضروس الثاني -بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر- من هجوم ثانٍ نفّذه انتحاري وسط الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية؛ إذ كان يقيم قدّاسًا وسط حضور جماهيري كبير، لكن الهجوم أسفر عن مقتل 17 شخصا منهم 7 من رجال الشرطة.
العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في مصر يسودها الوئام بشكل عام، لكن تندلع أعمال عنف بدوافع طائفية بين الحين والآخر. وعادةً ما يحدث ذلك بسبب نزاعات على بناء كنائس أو تغيير الديانة أو العلاقات العاطفية، ويحاول التنظيم إيجاد ثغرات حتى يتغلغل من خلال تغذية الفتن الطائفية، مثلما فعل في سوريا والعراق حيث دمر أقدم وأكبر كنائس الموصل على سبيل المثال.
ومن أجل ذلك يستحضر التنظيم أحداثا تاريخية بقصد التحريض من خلال استخدامه مصطلحات مثل "الصليبيين" وتصويرهم على أنّهم "جزءٌ من "تحالف صليبي عالمي"، تقوده الولايات المتحدة الأميركية، يمثّل المسيحيون المشرقيون، عمومًا، والأقباط، خصوصًا، "رأس الحربة" فيه لمحاربة الإسلام".
ومنذ أن بدأ التنظيم في التركيز على استهداف مسيحيي مصر وهو يحاول تأليب المسلمين على المسيحيين حيث ذكرت مجلة دابق -الصادرة عن التنظيم باللغة الإنجليزية- في عددها السابع "جنود الخلافة بولاية طرابلس تمكنوا من أسر 21 قبطياً صليبياً، بعد مضى قرابة 5 سنوات من العملية المباركة ضد كنيسة بغداد، التى نفذّت للثأر لوفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة والأخريات من الأخوات اللاتى تم تعذيبهن وقتلهن بواسطة الكنيسة القبطية بمصر". وتابع التنظيم: "من المهم أن يعلم المسلمون فى كل مكان أنه لا شك فى أجر عظيم يوم القيامة لمن يسفك دماء هؤلاء الصليبيين الأقباط، أينما وجدوا فى مصر أو خارجها".
ونشر التنظيم، الأحد 19 فبراير/شباط 2017، تسجيلاً مصوراً يهدد فيه المسيحيين في مصر، ويعرض ما يقول إنها الرسالة الأخيرة للانتحاري المسؤول عن تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة في ديسمبر/ كانون الأول 2016، الذي راح ضحيته العشرات.
وبدا أن الإصدار سعى لتحريض المسلمين على المسيحيين، من خلال نشر كلام لقساوسة ونشطاء مسيحيين فيه إساءة للإسلام، كذلك نشر تسجيلات لمظاهرات قبطية، غالباً ما حدثت خلال أزمات بين الجانبين، وحوت بعض الهتافات التي يمكن أن تغضب المسلمين.
[embed:render:embedded:node:24255]
يريد التنظيم في الوقت ذاته أن يستقطب المزيد من أنصار التنظيمات الإسلامية مثل جماعة الإخوان الذين يكنون حقدا تجاه المسيحيين بسبب اعتقادهم بأن معظم الأقباط نزلوا في مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013 والتي أخذها الجيش ذريعة لإزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم، واعتقال عشرات الآلاف منهم.
وكان البابا تواضروس حاضرا أثناء إلقاء وزير الدفاع حينذاك عبد الفتاح السيسي خطاب عزل مرسي، لكن في نفس الوقت كان شيخ الأزهر وأمين عام حزب النور السلفي حاضرين.
كما أن التنظيم يريد من استهداف الأقباط إيصال بث الرعب وزعزعة المعنويات، فأصدر التنظيم بعد تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية، فيديو "صواعق القلوب" يرصد فيه قنص عدد من عناصر الجيش والشرطة في شمال سيناء بالرغم من أن بعضها مشاهد مكررة لإصدار سابق.
لكن ما يؤشر على الخطر، أنه مع تزايد الهجمات بدأ بعض المسيحيين يفقدون معاني تضامن المسلمين معهم، ومما يزيد من الخطورة هو إطلاق بعض نشطاء المسيحيين على مواقع التواصل الاجتماعي وصف الإرهاب على كل المسلمين أو اتهام الدين الإسلامي بتحريضه على العنف، لكن ما يوازن الأمر هو توازن خطاب القيادات المسيحية والإسلامية.
ربما كانت هذه هي الرسالة الأبرز من استهداف الكنائس أو الأقباط، لأنهم الحلقة الأضعف في مصر، حيث يحاول التنظيم تشتيت تركيز الحصار الأمني عليه في شمال سيناء، من خلال مد العمليات إلى أماكن أخرى غير شمال سيناء، وتمرير رسائل إلى الأقباط بأن الحكومة غير قادرة على حمايتهم، وتأكيد على قدرته على الوصول إلى الأماكن المحصنة رغم حالة الطوارئ التي تعيشها مصر والتي قالت الحكومة في أكثر من مناسبة إنها أتاحت الفرصة أكثر لمواجهة الإرهاب واقتحام الأماكن التي من المتوقع أن يكون فيها متهمون بالإرهاب.
وكانت التنظيم قد أعلن مسؤوليته عن سبعة هجمات في القاهرة العام الماضي بعد أن شن أربعة هجمات فيها عام 2015.
فرغم الهجمات الخاطفة على أكمنة صغيرة والاستهداف شبه اليومي لعناصر الأمن في شمال سيناء، فإن التنظيم يعاني في شمال سيناء من الحصار الأمني وتضييق الخناق عليه بعد تهجير الأمن للأسر في مدينة رفح الحدودية تحت مبرر تدمير شبكة الأنفاق التي تربط رفح المصرية برفح الفلسطينية.
وكشف الرئيس السيسي عن أن 41 كتيبة، يقدر قوامها بـ25 ألف فرد تواجه الجماعات الإرهابية في سيناء.
وأصبح التنظيم منذ نحو عامين يعتمد على عمليات القنص والألغام، والاغتيالات في العريش، أو هجمات خاطفة على أكمنة صغيرة، بالاضافة لإرهاب بعض الأسر مثل تهجير المسيحيين، حيث كان آخر هجوم مباشر كبير للتنظيم في شمال سيناء في يوليو 2015 عندما هاجم 5 كمائن في الشيخ زويد، بالإضافة إلى قسم الشرطة إلا أنهم فشلو في السيطرة عليها.
واعترف التنظيم ضمنيا في بيان إعلان مسئوليته عن تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية بأن فاتورته التي دفعها كبيرة حيث قال في معرض تهديده للأقباط "وليعلم الصليبيون وأذنابهم من المرتدين بأن الفاتورة بيننا وبينهم كبيرة جدا وسيدفعونها من دماء أبناءهم أنهارا".
وأتى تفجير كنيتستي طنطا والإسكندرية بعد إعلان الجيش في ٢٢ أبريل تصفيته لأبو أنس الأنصاري، وهو قيادي في تنظيم الدولة فرع سيناء مما دعا التنظيم لإصدار مقال في مجلة "النبأ" الأسبوعية توعد فيه بالانتقام.
وتشير بيانات للجيش إلى أن قواته قتلت ما لا يقل عن 2000 عضو في جماعة ولاية سيناء منذ أن بايعت الجماعة تنظيم الدولة الإسلامية في نوفمبر تشرين الثاني.
ويبدو أنه لا نهاية للتطرف الديني والقضاء على الإرهاب في مصر من دون القضاء على أشكال الظلم واللا عدالة، وفتح المجال العام للمعارضين المسالمين للتعبير عن آرائهم بحرية، بدلا من محاولات حجب أي لسان معارض في الوقت الذي يتواجد فيه فضاء إلكتروني يتيح اطلاع البعض على بيانات الإرهابيين وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقبل يومين من حادث المنيا، أعلنت مصر حجب 21 موقعا إلكترونيا –لأول مرة- من بينها مواقع مشهود لها بالمهنية والموضوعية مثل موقع مدى مصر، واستشهدت جهات سيادية بدول مثل كوريا الشمالية وكوبا في دفاعها عن قرار الحجب في مقال نشر في جريدة "المصري اليوم".
إن منع الأصوات الموضوعية وحتى المعارضة من شأنها إفساح المجال وإعطاء مساحة للإرهابيين والتنظيمات المتطرفة كي تتغلغل وسط المعارضين والمظلومين والمقهورين في ظل غياب الثقة في وسائل الإعلام المؤيدة للنظام.
مصطفى هاشم
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017