جيرة مُثقلة بالمتاعب

منظر للمدينة محاطة بالصخور.
تُعدّ بلدة معلولا، القريبة من دمشق، واحدة من أقدم البلدات في سوريا. (Photo: Philipp Breu)

تتباين آراء سكان بلدة معلولا ذات الأغلبية المسيحية، حول مدى شعورهم بالآمان تحت إدارة الحكومة الجديدة، فقد سبق وهاجم مقاتلو جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حاليًا) البلدة عام 2013، الأمر الذي رسّخ حالة من انعدام الثقة.

الكاتبة ، الكاتب: فلوريان نوهوف

استدار القسّ فادي البركل في صباح أحد بارد داخل الكنيسة القديمة، مبتعدًا عن المصلين ومتجهًا نحو المذبح، رافعًا ذراعيه. وبصوته العميق بدأ يتلو الدعاء، فيما أضفى ضوء الصباح المتسلل من نافذة في المحراب بريقًا على ردائه المطرز بالخيوط الذهبية.

التفت البركل نحو المقاعد الخشبية بعد تلاوة بعض التراتيل، حيث يجلس عشرات الرجال والنساء والأطفال مرتدين معاطفهم الشتوية، وتمتد جذور هذا المجتمع الصغير إلى فجر المسيحية. تُقام الصلوات دون انقطاع في الكنيسة الحجرية الصغيرة الواقعة على حافة دير القديسين سرجيوس وباخوس منذ القرن الرابع الميلادي، كانت آنذاك تُقام باللغة الآرامية والمعروفة بأنها لغة المسيح، ثم تحولت إلى اللغة العربية عبر العصور. 

تركت الحرب الأهلية في سوريا بصماتها هنا أيضًا، إذ اختفت الرموز الأثرية التي كانت تزيّن المذبح، واستُبدلت اللوحات القديمة بنُسخ مقلدة رخيصة. 

يقف القس أمام الأطفال في الكنيسة.
يُقيم القسّ فادي البركل صلاة في كنيسة دير القديسين سرجيوس وباخوس في مدينة معلولا السورية. (Photo: Philipp Breu)

يقع الدير على حافة وادٍ يشق طريقه عبر سلسلة جبال القلمون، متربعًا فوق بلدة معلولا الصغيرة، التي ترتفع بشكل خلّاب على سفح الجبل. تبعد البلدة ساعة واحدة فقط بالسيارة عن العاصمة دمشق، وتُعدّ موطنًا لواحدة من أقدم المجتمعات المسيحية في سوريا، حيث لا تزال اللغة الآرامية تُستخدم جزئيًا في الحياة اليومية بالبلدة. 

خلال الحرب، امتدت جبهة القتال بين المتمرّدين وقوات الأسد على طول سلسلة جبال القلمون، وكانت بلدة معلولا واقعة في منطقة مكشوفة دون حماية، وهو ما استغلّه مقاتلو جبهة النصرة المتطرفة عام 2013، وهاجموا البلدة ونهبوا الكنائس وأطلقوا النار على العديد من السكان واختطفوا 12 راهبة. لم يتمكّن النظام من استعادة السيطرة على البلاد إلا بعد عدة أشهر، حيث أُفرج عن الراهبات ضمن عملية تبادل مع أسيرات من سجون النظام. 

متمرّدو الماضي يقودون حكومة اليوم

ترك هجوم عام 2013 صدمة عميقة في ذاكرة سكان البلدة، وتجددت مخاوفهم عندما أطاح المتمرّدون بقيادة هيئة تحرير الشام الإسلامية بنظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول عام 2024، وأعلنوا تشكيل حكومة انتقالية. خرجت الهيئة من رحم جبهة النصرة، ولا تزال تُصنّفها الولايات المتحدة الأمريكية كجماعة إرهابية. 

​عُقدت جلسة حوارية بعد العظة في قاعة اجتماعات الدير،​ دارت فيها مناقشات حامية حول مستقبل المسيحية في سوريا الجديدة. أخرجت إحدى النساء الحاضرات هاتفها المحمول، واقتبست عن وسائل التواصل الاجتماعي: "اعتقال بعض أعضاء الكنيسة في حمص بسبب قرع أجراس الصلاة". 

حاول البركل تهدئة الأجواء وطمأنة المرأة بقوله: "سنجد طريقة للعيش معًا في سلام"، إذ يشعر بالمسؤولية تجاه رعيته التي تضم نحو 250 عائلة مسيحية تقطن معلولا، و​يريد إقناعهم بعدم الفرار من سوريا، تمامًا كما فعل كثير من المسيحيين منذ اندلاع الحرب. 

كان يعيش حوالي 1.5 مليون مسيحي في سوريا قبل عام 2011، ولكن لم يتبق في البلاد سوى خُمس هذا العدد بسبب الخوف من الجماعات المتشددة في صفوف المتمرّدين، بحسب تقرير صادر عن منظمة "مساعدة الكنيسة المحتاجة" غير الحكومية (ACN). والآن، ينظر أعضاء الجماعة المسيحية المتبقية بتوجس إلى الحكام الجدد. 

تقول تمار سركيس، وهي معلمة في روضة أطفال تعيش مع زوجها وأطفالها الثلاثة في معلولا: "نريد أن نبقى، فهذا وطننا. لكننا نخشى أن نضطر يومًا ما إلى مغادرة سوريا". 

إشارات إيجابية من النظام الجديد

لكن البركل، يقلّل من تلك المخاوف، وقال لـ "قنطرة": "يخشى أهالي معلولا من أن تكون هيئة تحرير الشام مجرد جبهة النصرة باسم جديد، لكن هذا غير صحيح". 

ويرى أنّ الحكومة الجديدة تحاول حماية المسيحيين وتهدئة مخاوفهم، إذ جرى سحب لواء "السلطان سليمان شاه" المخيف من معلولا، وهو الفيصل المتطرف الذي تمركز في البلدة بعد تقدم المتمرّدين نحو دمشق، ويتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في شمال سوريا، ولديه صلات وثيقة بتركيا. 

بدلاً من ذلك، أصبح رجال من المناطق المحيطة موجودين الآن عند نقاط التفتيش خارج البلدة، ومع أنّ هذه الخطوة تهدف لبناء الثقة، سرعان ما تبين أنها كانت قرارًا خاطئًا، حسبما يقول سكان بالبلدة. 

تحيد قرى مسلمة، ببلدة معلولا، ومنذ عام 2013، توترت العلاقة بين البلدة والمناطق الريفية المجاورة؛ إذ يشتبه سكان معلولا بأنّ بعض سكان الحي المسلم يدعمون جبهة النصرة

وكان النظام الأسدي قد طرد المساعدين المزعومين من المنطقة، إلا أنّهم عادوا بعد سقوطه. وهؤلاء هم بالضبط الرجال الذين يتم نشرهم الآن كقوات أمنية من قبل الحكومة الجديدة، كما يدعي المجتمع المسيحي في معلولا.  

تستنكر سركيس: "نفس الأشخاص الذين ساعدوا الإرهابيين في الماضي أصبحوا هم الشرطة، لا يمكننا أن نثق بهم، فهم من نهبوا الكنائس حينها". 

ثقة منعدمة

تقع كنيسة القديس جورج في وسط بلدة معلولا، وهي أكبر من الكنيسة الموجودة على الجبل، إذ تتسع لعدة مئات من المصلين. وكما في غيرها، فإن أثاث الكنسية متواضع، وخال من الزينة، ولم يتبق عند المدخل سوى عدد قليل من الألواح الخشبية، حيث تم خدش الوجوه المرسومة عليها على يد الجهاديين الذين قاموا بالنهب.

يوجد في ساحة الكنسية، قاعدة تمثال يظهر عليها القديس جورج وهو يمتطي جواده، ويغرز رمحًا في التنين الملقى على الأرض، ويجلس القسّ جلال غزال على كرسي بجانب التمثال، ويتحدث عن الأيام التي تلت سقوط الأسد، عندما أطلق المسلمون في البلدة النار في الهواء احتفالاً بنهاية الديكتاتور. 

يتحدث الرجل البالغ من العمر 59 عامًا ببطء وتأنّ: "شعر السكان المسيحيون بالخوف، فهربت العديد من العائلات إلى العاصمة دمشق، ولكن بعد أسبوع واحد فقط عاد معظمهم إلى هنا"، ولكن بعد عودة بعض السكان المسلمين إلى المنطقة من المنفى، سرعان ما نشبت الخلافات بين العائلات المسيحية والمسلمة، حسبما يقول غزال. 

رجل مسن وامرأة يجلسان على مقعد أمام كنيسة في سوريا.
يجلس القسّ جلال غزال مع أحد المسيحيين من جماعته بعد قداس الأحد أمام كنيسة القديس جورج في وسط مدينة معلولا. (Photo: Philipp Breu)

 حاول عبد السلام دياب، أحد العائدين، سرقة محصول المسيحي غسّان زخم، فأطلق الأخير عليه النار وأرداه قتيلاً، وكاد هذا الحادث أن يُشعل فتنة عشائرية بين العائلتين، ويتطور سريعًا إلى صراع دموي بين الطائفتين المسيحية والمسلمة. 

وقد أدركت الحكومة في دمشق خطورة الموقف أيضًا، وأرسلت مبعوثًا إلى بلدة معلولا للتوسط بين العائلتين، لكنّ جهود الوساطة لم تسر كما كان مأمولاً. 

يقول القسّ غزال: "وقف أحد أشقاء دياب في الاجتماع، وصرخ بأنه سيقتل المسيحيين المسؤولين عن مقتل عبد السلام"، وأثارت نوبة الغضب هذه قلق القسّ، الذي يعرف موازين القوى في المنطقة، مضيًفا: "عائلة دياب تسيطر الآن على نقاط التفتيش". 

هل لا يزال هناك سبب يدعو للتفاؤل؟

يؤكد القسّ البركل رواية زميله، إذ يسعى أيضًا كالحكومة الجديدة، جاهدًا للحوار والمصالحة. فقد أقنع القسّ زخم بتسليم نفسه للسلطات بعد الحادث، كما أنه بادر بعد سقوط الأسد بإطلاق حوار بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة، ولا يزال مؤمنًا بأن التعايش السلمي ممكن. 

يبدي أيضًا خبراء مستقلون تفاؤلهم، إذ كتب جريجوري ووترز من المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث أمريكي، أنّ هيئة تحرير الشام حافظت منذ فترة طويلة على اتصالات جيدة مع الأقلية المسيحية، التي تمكّنت من العيش في مناطق سيطرة المعارضة دون تمييز، كما أنّ الحملة العسكرية التي أسقطت الأسد رافقتها جهود كبيرة لكسب تأييد الشخصيات الدينية المسيحية. 

ينصّب عداء فصائل المعارضة لحدٍ كبير إلى العلويين، وهم أقلية مسلمة ينتمي إليها آل الأسد أيضًا، ونظرًا لأنهم كانوا يشغلون أهم المناصب في النظام القديم، وكانوا جزءًا كبيرًا من الأجهزة الأمنية سيئة السمعة، فإنّ هذه الفئة تخشى الإقصاء من المشاركة السياسية. 

يقول ووترز، إنه "بالنسبة للأقليات الأخرى، هناك مؤشرات إيجابية على أنّها ستكون جزءًا من سوريا ما بعد الأسد"، من بينها هو مجلس الوزراء الذي تم تعيينه في نهاية مارس/آذار، فقد عيّن الرئيس المؤقت وقائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع وزراء من الأقليات السورية بينهم رجل مسيحي ورجل علوي. 

ورغم ذلك، يسود شعور بنفاد الصبر في بلدة معلولا، إذ يتعلق الأمر بالمشاركة السياسية، وطالبت سركيس: "لا يمكننا أن نشعر بالأمان حتى يكون هناك برلمان يمثل الشعب السوري بأكمله بكل تنوعه". 

ترجمة: أحمد محمد

قنطرة ©