نص ساخر وصريح ومليء بالتهكم

"رغبة" ابن الرابع والثلاثين من العمر هاينريش فرايهر فون مالتسان "في التقصي بعمق وعناية في حياة الشعوب الشرقية وبالأخص العربية" دفعته في عام 1860 إلى الرحلة الشاقة نحو مكة، المدينة التي "لم يرها إلا إثنا عشر أوروبي مذ كانت".

كتب مالتسان تقريراً طريفاً ومسلياً ومثيراً حقاً للضحك في العديد من مقاطعه، ولازال التقرير يدفع المرء اليوم أيضاً لقراءته بسرور، على الرغم، ومن المحتمل لكونه لم يكن بعد يعرف شيئاً عن لغة السياسة الصائبة political correctness.

زواج المتعة والأفيون

المؤلف مراقب يقظ وروائي جيد، فتقرير رحلته الذي يضم 750 صفحة يفاجئ بسلاسته، رغم تغلب الثرثرة عليه من حين إلى آخر، لكنه يعاود شد القارئ اليه كرواية مغامرات.

المحتويات متعددة الأشكال للغاية. من ضمن الأشياء التي يتحدث عنها تاريخ الجمل، ويصف بالتفصيل مراسم الصلاة، ويعرض أفكاراً فيما يخص القرآن ويسترسل في الكلام عن تعاطي الأفيون والحشيش. وهو ملم بأمور زواج المتعة، "الذي يساعد الحاج على تخفيف ملل أعمال الورع".

سكر وغربة روحية

ويتحدث أيضاً عن استهلاك الكحول المحلي الجدير بالإهتمام:

"رأيت هناك عددا كبيرا من السكارى أكثر مما يستطيع المرء مصادفتهم في انكلترا وأمريكا تقريباً، حيث أكبر عدد من السكيرين على الإطلاق."

مراسم الحج ذاتها كانت ثقيلة بالنسبة لمالتسان. فحسب وصفه "يتزاحم الناس كالسمك المكبوس". يقوم هنا بواجبه كمؤرخ أخباري بدقة ولكن بدون حماس. الكعبة تبدو له "ككتلة كالحة كئيبة" ويترك المؤمنون لديه "انطباعاً عظيماً في غرابته، بل أود أن أقول رهيباً".

أسلوب نثري أنيق

يظهر مالتسان رومانسيته وملله من أوروبا عندما يَتذمّر غاضباً معترضاً على السكك الحديدية في مصر، لاعناً "هذا الازدراء لكل ذوق فني، ولكل شكل شاعري". ويتابع شتمه لوسيلة النقل الحديثة "صنيعة العفاريت" التي لا يتجرأ "شيخ الإسلام اليوم" على حظرها "بواسطة فتوى"، متألماً ل "إنزلاق المسلمين والكفار وحتى الحجاج الورعين على طريق سكة الحديد المهول من الاسكندرية إلى القاهرة".

ويتقن ببلاغة وصف منغصات أخرى في الرحلة أيضاً:

"سيوافقني الجميع على أن تعرُّقَ كل هؤلاء الحجاج المتزاحمين قد وصل مع بلوغ درجة الحرارة 30 رومور (حوالي 37.5 درجة مئوية) حداً لا يطاق، ولا أخال أن أحداً سيحسدني عما تلاقيه حاسة الشم المرهفة جداً عندي".

أسلوب مالتسان النثري الأنيق، إضافة إلى وجهة نظره المقتضبة يجعلان النص مُسَلٍّ للغاية. فيكتب مثلاً "الخبر الجديد المهم القائل بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله، أُخْبِرْتُ به في الرحلة بين الاسكندرية والقاهرة مئة مرة على الأقل".

حارس المقبرة

أثناء وصفه لحارس أحد القبور، كان قد لفت نظره بسبب أنفه، تبلغ قريحته مدىً تعبيرياً أوسع:

"هذا العضو يطغي بشكل كبير على كل الأعضاء الأخرى، بحيث ينحسردورها إلى مجرد كومبارس في هذا المشهد". ولم يكن حال الفم أفضل بكثير: "الأسنان كانت فيه معدومة، اللهم ما عدا سناً وحيداً، يبدو مطلاً بفخر وشجاعة على مشهد الخراب من حوله".

موهبة الكاتب الهزلية تُظهرُ نفسها أيضاً عند وصفه لزيارته لقبر حواء، أحد المقاطع المميزة للكتاب. المتوارد عن طول جسم "الأم الأولى" يكاد يبلغ مقاييس خيالية. ووفقاً لهذا تتناسب ضخامة صرتها. مالتسان يدعو بلا تردد، أن "على علماء الفسيولوجيا أن يقرروا، بأن شخصاً بلغ طوله خمسمائة قدم، ممكن أن يصل عمق تقعر صرته إلى قدم ونصف".

يقابل المسافر إيهام المكان التذكاري بالتهكم. "بعد أن وهبت صرة الأم حواء تعبيري التعبدي جاء الآن الدور للقيام بالصلوات لأعضائها الأخرى". وعلى ما توارد بأن هاجر حملت من ابراهيم بإبنهما إسماعيل على الحجر الأسود، يعلق بإسلوب مشابه ومقتضب: "علينا أن نعترف بأن الأب لم يكن يملك أي فكرة عن وسائل الراحة الحديثة".

صراحة مفتقدة

يستغرب المرء كثيراً من الصراحة المريحة لهذا التقرير، إلى أن يتضح، أنه بالرغم من الجهد الكبير الذي يُبذل لمحاصرة الأحقاد والضغائن في هذه الأيام عبر سلوكيات السياسة الصائبة political correctness، ولكن دون التمكن من إزالتها بحال من الأحوال. وربما أن غياب الجدية عند الكاتب في تعاطيه مع ملاحظاته، لها وقع خفيف الظل علينا نحن قراء اليوم، إذ يبدو أننا قد فقدنا هذه القدرة على الإنفتاح.

بقلم أندرياس فليتش
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2005

هاينرش فرايهر فون مالتسان: رحلتي إلى الحج في مكة. رحلة في المناطق الساحلية والداخلية للحجاز، المجلد الثاني، لايبزيغ 1865 (طبعة معادة: هيلدسهايم 2004).

قنطرة

برنهارد فون برايدنباخ: رحلة حج إلى الشرق
نشأ فى العصور الوسطى المتأخرة نوع من السياحة الدينية المسيحية، واتجه المتدينون والمجازفون نحو الشرق لزيارة المواقع المقدسة والأماكن الغريبة. وكان برنهارد فون برايدن باخ هو أحد هؤلاء، وقد سجل مشاهد رحلاته، التي تعطينا انطباعا عن رؤيته للشرق فى ذلك الوقت.