الكتابة بلغة الشباب المفقود

على الرغم من أنَّ الكاتب الفلسطيني، سمير اليوسف الذي يعيش منذ العام 1990 في لندن، يشعر بأنَّه مواطن بريطاني، لكنه يشعر كذلك بأنَّه فلسطيني؛ إذ إنَّ اللجوء والمنفى ما يزالا جزءًا من هويته. ألكسندرا زينفت التقته وأعدَّت عنه التقرير التالي.

في شهر كانون الثاني/ يناير 2009 وفي ذروة الحرب على غزة، كتب سمير اليوسف في رسالة افتراضية مرسلة إلى صديق إسرائيلي، قامت صحيفة زوددويتشه تسايتونغ الألمانية بنشرها: "مرة أخرى نقف أمام تحدي إيجاد لغة يمكنها أن تنقذنا من عار الصمت وكذلك من تهمة الخيانة؛ لغة يمكنها على الرغم من كلِّ شيء أن تحفظ أملنا في التعايش السلمي".

ومنطقة قطاع غزة تعد واحدة من أكثر المناطق المكتظة بالسكان في العالم؛ حيث يعيش هناك نحو مليون ونصف المليون نسمة على مساحة تبلغ ثلاثمائة وستين كيلومترًا مربعًا. وكذلك تبلغ نسبة البطالة هناك نحو خمسين في المائة، كما أنَّ ثمانين في المائة من الأسر الغزية تعيش تحت خط الفقر. وبالنظر إلى حجم الدمار والمعاناة الإنسانية يعجز الكثيرون من المراقبين عن الكلام. وفي حيرة وارتباك يتساءل المعنيون والمراقبون غير المنحازين، كيف يمكن للمرء هنا أن يتَّخذ موقفًا مناسبًا وأن يفترض افتراضًا بنّاء ويتطلع إلى المستقبل.

إيجاد الحلول في منطقة محمية

وقد كتب سمير اليوسف في صحيفة زوددويتشه تسايتونغ: "لا يجوز لنا الاستسلام قطّ!". ودعا كلا الطرفين إلى التحلي بالحكمة، لكي لا يتم أيضًا دفن الأمل في التوصّل إلى السلام تحت أنقاض غزة. وسمير اليوسف يجد دائمًا كلمات مناسبة؛ وبما أنَّه نشأ كطفل فلسطيني لاجئ في مخيم للاجئين يقع في جنوب لبنان، فقد شاهد شخصيًا ويلات غارات القنابل.

ولكن مَنْ يتمكَّن من التغلب على صدمة الحرب، يستطيع الابتعاد؛ فإيجاد بعد عاطفي عن الأحداث المروِّعة واللجوء إلى منطقة محمية يعتبر ردة فعل دفاعية صحيحة - وفي المنطقة المحمية يمكن للمرء إيجاد حلول منظمة تنظيمًا عقلانيًا ومعكوسة بشكل أفضل.

واللغة تخدم أخيرًا وليس آخرًا عملية المعالجة هذه؛ ولهذا السبب ليس من باب الصدفة أن يدع الكاتب بطل روايته "وهم العودة"، الفلسطيني الذي يعيش مثله في لندن، يقول إنَّه لم يعد يتحدَّث تقريبًا سوى اللغة الإنكليزية ولا يكاد يتحدَّث لغته الأم: "أنا ببساطة أستمتع بالمجهولية وبإخفاء الهوية. وبالإضافة إلى ذلك من الممكن للغة العربية أن تجبرني على تقبّل مبادئ وقيم، لم تعد مبادئي ولا قيمي".

كابوس الرفض

ويقول سمير اليوسف بهدوء وبعقلانية إنَّ "إحدى أكبر المشكلات هي أنَّ كلا الطرفين عنصريان". وهو على علم بالجوانب المظلمة المدفونة في نفوسنا جميعًا، كما أنَّه عرض هذا الموضوع مرارًا وتكرارًا في أعماله. وهو يضيف أنَّ "الخطوة الأولى من أجل حلِّ هذا النزاع هي النقد الذاتي ومعرفة أنَّنا جميعنا نحمل في أنفسنا عناصر عنصرية".

وثم يجرؤ سمير اليوسف على ما هو أبعد من ذلك متجاوزًا الحدود إلى الجانب الآخر ويقول: "يجب أن يكون رفض الإسرائيليين وعزلهم باستمرار من قبل المنطقة المحيطة بهم كابوسًا بالنسبة لهم". وسمير اليوسف يعرف الشعور بالعزلة؛ ففي العام 1975، عندما كان عمره عشرة أعوام، انتقل مع والديه وإخوته الثمانية من مخيم اللاجئين إلى مدينة صيدا الساحلية.

وكانت أسرته تعيش من المساعدات التي كانت تقدِّمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتَّحدة، ومن أجرة والده الذي كان يعمل في البناء والزراعة. وكانت والدته حريصة على توفير المال، بحيث أنَّ أسرة اليوسف كانت وعلى الرغم من الضائقة الاجتماعية تسد احتياجاتها بما لديها من مال. ومنذ نعومة أظافره وجد سمير نفسه بدون وطن، وقد أدرك أنَّ الحياة مليئة بالإشكالات والتناقضات.

ووالدته مسلمة شيعية، أمَّا والده فهو سُنِّي المذهب. وصحيح أنَّ ذلك لم يكن سبب المشاجرات التي كانت تحدث باستمرار بين والديه في فترة طفولته، ولكن على الأرجح أنَّهما علماه أن يدمج في ذاته وجهات نظر ومفاهيم متباينة. وعندما اجتاح الجيش الإسرائيلي في العام 1982 لبنان، من أجل القيام بعمل عسكري ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية، كان عمره سبعة عشر عامًا. وفي بعض الأحيان كان يسعى من أجل حياته. وفي العام 1985 بدأت في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية حرب المخيمات التي هاجمت فيها ميليشيا حركة أمل الشيعية الفلسطينيين، وذلك لأنَّهم كانوا يريدون كسب السيطرة.

"كان لبنان في الثمانينيات بلدًا فظيعًا - دولة كان يريد فيها كلّ شخص محاسبة الآخر. وفي نهاية هذا العقد كان وضع الفلسطينيين ميؤوسًا منه، وفي غاية اليأس"، مثلما قال سمير اليوسف لصحيفة الإندبندنت البريطانية قبل عامين. وقد كتب إبَّان الحرب الأهلية قصصًا قصيرة ومقالات؛ وكان لا يريد شيئًا سوى الرحيل. ويقول: "في ذلك الوقت لم يكن هناك أي فلسطيني يريد البقاء"، ثم يضيف قائلاً: "كان الجميع يحلمون بمغادرة لبنان، ولكن لم يكن أحد يعلم إلى أين ينبغي له الذهاب".

السفر إلى مجهول كبير

ومعظم الناس يحلمون طيلة حياتهم، ولكن البعض يتحمَّلون بأنفسهم المسؤولية عن مصيرهم؛ إذ إنَّ سمير اليوسف أقدم على السفر وهو في سن الخامسة والعشرين. فقد ترك في نهاية الثمانينيات عائلته وأصدقاءه وجيرانه، من أجل السفر إلى الخارج - ليواصل السفر إلى المجهول الكبير. وفي البدء سافر إلى قبرص، وهناك كان يكسب قوته طيلة عام من خلال العمل في الكتابة، في حين كان يبذل ما في وسعه من أجل الحصول على تأشيرة سفر تمكِّنه من مواصلة رحلته.

وفي الأصل كان سمير اليوسف يريد الذهاب إلى ألمانيا، بيد أنَّ حدودها بقيت مغلقة في وجهه. ولكن البريطانيون استقبلوه وساعدوه في فترة البداية الصعبة، فقد كان عاطلاً عن العمل في المنفى. ولذلك يقول: "سوف أبقى دائمًا ممنونًا لهم على ذلك". وهو يعيش منذ العام 1990 في لندن، حيث درس هناك الفلسفة السياسية ويعمل الآن كاتبًا.

وهنا ثمة تناقض آخر، فهو يشعر بأنَّه مواطن بريطاني، لكنه يشعر كذلك بأنَّه فلسطيني، ما يزال اللجوء والمنفى يشكِّلان جزءًا من هويته. فمفهوم "الوطن" يعتبر بالنسبة له مفهومًا غريبًا لا يعرف عنه الشيء الكثير - فهو لم يشعر أبدًا بأنَّه مرتبط بمكان محدَّد؛ ليس بلبنان الذي لم يكن بلده قطّ، وكذلك بفلسطين، أو بما كان موجودًا في السابق من تصوّرات خاصة بالأسلاف.

قصة حبّ إسرائيلية فلسطينية

وفي روايته الجديدة "معاهدة حبّ" (A Treaty of Love) يصف سمير اليوسف علاقة فلسطيني مع إسرائيلية يلتقيان في لندن. ومن يقرأ هذه الرواية يشعر في وقت مبكِّر أنَّ هذا الحبّ الصعب لا يمكن أن يتحقَّق وأنَّه مطابق لمفاوضات السلام السياسية الفاشلة. وفي هذه الرواية يقول الراوي الذي يروي قصته بصيغة الأنا: "علاقتنا مبنية على معاهدة غير معلنة، معاهدة على أنَّنا نعشق بعضنا بعضًا، أو بتعبير أكثر دقة أن نفعل كأنَّنا نعشق بعضنا".

ويضيف الراوي: "هذا هو بالضبط - معاهدة حبّ بين فلسطيني وإسرائيلية". وتمامًا مثل المعاهدات الكثيرة التي تم توقيعها من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين، كذلك كانت هذه المعاهدة بائسة ضعيفة وهشة، وجاءت مبكِّرة جدًا أو متأخرة جدًا - متأخرة لتمثِّل سابقة من نوعها وكسرًا للمحرَّمات، ومبكِّرة جدًا لتكوِّن مجرَّد علاقة عادية جدًا بين شخصين من أصول مختلفة".

"طبقات الحقيقة الإنسانية العميقة"

"سمير لا يعتبر مجرَّد كاتب فريد من نوعه، بل يعتبر كذلك شخصًا فريدًا من نوعه"، مثلما كتب الكاتب الإسرائيلي إتغار كيريت من تل أبيب: "وهو يستطيع في رواياته وقصصه كسر الكليشيهات المنتشرة حول هذا النزاع، وكذلك اختراق طبقات الحقائق الإنسانية العميقة". ويضيف كيريت بالقول: "وبإنسانيته، وبصدقه وبوضوحه، وكذلك - أرجو أن تعذروني على نزعتي ما بعد الاستعمارية - بظرافته اليهودية الرائعة، يعتبر بالنسبة لي الكاتب المعاصر الأكثر إثارة للاهتمام، والذي تناول موضوع النزاع الفلسطيني الإسرائيلي".

ولا عجب من أنَّ سمير اليوسف يجد بمثل هذا الكم الكبير من الثناء والمديح الذي يلقاه من قبل "العدو" صعوبات لدى الكثيرين من الفلسطينيين. ولكنه يتعامل مع ذلك بصراحة وبصورة هجومية، وذلك عندما يقول إنَّ الإسرائيليين الذين ينشطون في حركة السلام أقرب إليه من نشطاء حركة حماس أو غيرهم من العقائديين ضيِّقي الأفق.

وهو يغضب خاصة من أولئك الذين يوردون أدلة وحججًا ضدَّ تطبيع العلاقات مع إسرائيل ولا يقبلون بالاتِّصالات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وكذلك اليهود - وبالنسبة له تعتبر هذه شعارات فارغة وغير مسؤولة، ولا علاقة لها بالواقع. ويقول اليوسف: "لا يتعلَّق الأمر باختيار إسرائيل أو فلسطين، بل بمسألة الحرب أو السلام". ويضيف أنَّ مَنْ يختار جانبًا واحدًا فقط، يبرِّر الحرب.

ألكسندرا زينفت
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

ألكسندرا زينفت باحثة في العلوم الإسلامية، عاشت وعملت في فلسطين وإسرائيل. صدر لها قبل فترة قريبة كتاب بعنوان "عدو غريب وقريب جدًا - لقاءات مع فلسطينيين وإسرائيليين" Fremder Feind, so nah. Begegnungen mit Palästinensern und Israelis عن دار نشر Edition Körber-
Stiftung.

قنطرة
رواية "وهم العودة" للكاتب سمير اليوسف:
لوحة فلسطينية من ثلاثة أجزاء

وهم العودة" رواية من تأليف الكاتب الفلسطيني سمير اليوسف، الذي يعيش في لندن، مبنية بناءً فنيًا رائعًا، تتمحور بشكل فلسفي حول مصطلحي المنفى والعودة. فولكر كامينسكي قرأ هذه الرواية التي ترجمت الآن الى الألمانية وكتب عنها.

فلسطيني وإسرائيلي في كتاب مشترك:
التحرر من الهوية الجمعية

بغية إنقاذ الخاص من ولوج الإيديولوجية كتب كل من الإسرائيلي إدغار كيريت والفلسطيني سمير اليوسف نصوصًا تناهض تسييس مجتمعيهما. صدر مؤخرًا كتاب يجمع قصصًا قصيرة للكاتبين. تقرير من إعداد لويس غروب.

المهاجرون في الأدب الألماني المعاصر:
الغربة والاغتراب وحدود الحضور والغياب

لعب المهاجرون في الأدب الألماني حتى الآن دورًا أقرب إلى الثانوي. وتتساءل الباحثة المختصة في الأبحاث والدراسات الأدبية، كاتي ديربيشاير إلى أي حدّ يعكس هذا الدور الواقع الاجتماعي في البلاد مع إلقائها نظرة مقارنة على المشهد الأدبي لدى المهاجرين في بريطانيا.