شعب تحت بطش نيران جيش بلاده المدجج بالسلاح
الرجوع إلى مطبعجي لر (مدينة المطابع في تركيا): سافرت إلى ألمانيا بعد أن اتفقت مع الأخ طلال بالمطبعة وعدت بعد أسبوع إلى إسطنبول لإكمال ترتيبات طباعة الكتب. كانت اللقيا في هذه المرّة أكثر حميمية وحفتها نفحة من صداقة واحترام متبادل، أيّ أنها لم تكن كما كانت عليه في المرّة الأولى.
جئت مع صديقي الجميل وشريكي الأستَاذ علاء الدين فوزي الباريسيّ الذي يشاركنا العمل في مدينتنا الجديدة إسطنبول. جلست وقضيت كل فرائض ونوافل الاتفاق كبيرها وصغيرها وعندما أردت الذهاب وجدت كتاب سارة سيدة الخنادق في نفس الركن الذي رأيته به نسختي التي أخذتها من الصديق طلال المرّة السابقة.
تفتحت أسارير وجهي، وكنت أعلم أنّه قرأ المقال الأول وأثنى عليه. ضحكت وقلت له: هل سلطنت على الرواية بعد أن قرأت مقالي؟ فأجابني بابتسامة هادئة لطيفة كعادته. أومأ إليّ بإجابة لم أستطع أن أفسرها. إن كان الإيجاب أم النفي.
على كل وجدت سارة التي صارت تتبعني في كل لمحة ونفس مرّة أخرى تتوسط الموائد وتراقب العمال بالمطبعة وكأنها اعتلت عرشها هناك وصارت جزءًا لا يتجزأ منه.
في ختام اللقاء قلت للأخ طلال، فرّحنا بهدية منكم! فنظر إليّ باستعجاب، وبادرني برده السريع، "تكرم عينك". نظر يمناه ويسراه في تفحص لما يمكن أن يجدّه لكي ليهديه لهذا الرجل المصرّ. باغته فورها وقلت: لا أريد شيئًا ... هبني سارة والسلام.
فأجاب: عندك سلفًا، قلت له، هي وحيدة في الفندق، لابد من سارة أخرى تؤنس وحدتها. ضحك وقهقه في بهائه ذاك وسلمني سارة وخرجت من المطبعة "ظفورًا مبسومًا". قلت أحادث سارة، شفتي سوف تذهبين لأختك بالهوتيل وسوف تفعلان بي ما فعلتما بصديقي عبد الله!
نمطية الحروب القومية
الشكل النمطي للحروب القومية والإقليمية في عصور ما قبل الميلاد برزت من خلال الإلياذة والأوديسا لهوميروس وطروادة وحتى في فترة ما قبل الحداثة، وأغلب الروايات صيغت بطريقة بطولات وهمية وأسطورية، أو على شكل ملاحم وطنية وشخصيات أسطورية.
ثم تغير هذا النمط عقب الثورة الفرنسية 1789، ثم اتخذ هذا المذهب من الأدب نمطاً واقعياً مناهضاً لأشكال الحرب في الحرب العالمية الأولى والثانية. كما تناول الأديب تولستوي في روايته الجرب والسلام، رواية الدون الهادئ للروائي الروسي ميخائيل شولوخوف، ورواية وداعاً للسلاح لهيمنغواي، ورواية كل شيء هادئ على الجبهة الغربية لإيريك ماريا ريمارك. إلخ
عبد الله مرير يتحدث عن رؤيته بكتابة أدب الحرب
عن رؤيتي وطريقتي بالكتابة في أدب الحرب بمفهومه العام الشامل، فأنا اتخذت مسلكاً واقعياً من حيث الأحداث والشخصيات في الرواية، فرضه عليَّ ما جرى ويجري في الأرض التي عشت بها وهي مسقط رأسي متأثراً بمسلكين، أولهما أن ما حدث ليس بالحرب النمطية بين جيشين يتمتعان بالعتاد والذخيرة، بل هو شعب مدنيٌ أعزل وقع تحت سطوة نيران وبطش جيش بلاده المدجج بالسلاح. ثانيهما، هو أني عشت هذا الواقع بتفاصيله وشجونه وأبعاده.
سارة سيدةُ الخنادق تعكس اتجاهي في أدب الحرب لأتناول الإنسان البسيط المدني الأعزل بأحلامه الغضة، وتفاصيل بيئته وعذوبة أمانيه، أمام آلة البطش والدمار التي تستبيح نمط حياته الوادعة على أرضه وبين جيرانه.
"آنَ لِلْرِيْحِ أَنْ تَدخُلَ الحّيَّ لِتَعبَثَ في عَرائِشِ العِنَبِ المُتَكسِّرَةِ، وتَلهُوَ في السَّعَفِ المُحَطَّمِ وبُكَاءِ النَّخيْلِ، كُلُّ شيءٍ في الجِوارِ ساكِنٌ، النَّهرُ هَادِئُ المَوجَاتِ، وادِعَةٌ أشجارُ الصُّفصافِ الدَّاكِنَةِ. زَوْرَقَانِ يَتَهادَيانِ في اسْتِسْلامٍ بينَ سِيْقَانِ القَصَبِ والبَرْدِي.
تَسكُبُ أُمُّهُ الحساءَ في إناءٍ لِيَذهَبَ بهِ حيثُ الجِدارُ الَّذي يَفصِلُهُ عنْ جيرانِهم؛ مَنزلُ صَديقِهِ عُمرُ، يَصعدُ بضعَ عَتَباتٍ حَجريَّةٍ لِيَطِلَّ على فَنائِهم مُنادياً، يَنتَظِرُ لِبُرهَةٍ ثمَّ يَرمي حَصَىً صَغيرةً نَحوَ بابِ الدَّارِ لِيَخرُجَ إليهِ عُمرُ ويَتناوَلُ منْ يَدَيهِ الإِناءَ، ثمَّ يَتَشَمَّمُ مُحتَوَياتِهُ، فَيُغمِضُ عَينَيْهِ ويَقولُ:
ـــ تَفوحُ رائِحةٌ زَكيَّةٌ منْ هذا الحساءِ، عِناقي لأُمِّكَ أَيُّها الثَّعلبُ!"
تناوُل تساؤلات المعذبين على لسان الطفل
كما هو في حال الطفل إلياس في حواره إلى الجد برنارد، حيث يتساءل بفطرة الأطفال وسلام نواياه التي تغفو دوماً إلى وسادته مثل خيالٍ لأماني يتوقع أن يحملها له غده، ولكن الخذلان والانكسار ينالان من فطرته، ويستبيح جند الجنوب آماله ويأتيان على إنهاء حياة أخته الصغرى ويتسببان في رحيل أبيه:
"لِماذا لَمْ يستجبْ رَبُّنَا لِدُعائِي وتوسُّلاتِي حِينَها؟ لِماذَا يُترَكُ الأشرارُ يَسلبُونَ مِنَّا مَنْ نُحِبُّ؟ لِماذَا يكونُ هناكَ شَرٌّ فِي الحياةِ؟ على أحدِهِمْ أنْ يضعَ حَدَّاً لِكُلِّ هذا الألمِ الّذي يعبَثُ فِي سماءِ الجنوبِ. أمَّا أنا فَمَا يزالُ صُراخُ النِّسوةِ والأطفالِ الخَائفينَ يتردَّدُ صَداهُ في صَحوِي ونَومِي، وها أنا وأمِّي أَمسيْنَا وَحيْدَيْنِ نهيمُ فِي الِقفَارِ والفَيافِي."
عن الأمل المسلوب على لسان الفتية
دائماً ما تتردد العبارة النمطية: الحب في زمن الحرب. ولكن في تلك العلاقة الفتية الخجولة بين الفتى آدم، ورفيقة صباه ناديا، كانت الحرب هي الدخيلة عليهم مثل كابوسٍ فظٍ، أمعَنَ في دمار المهج الغضة، ليتحول الفتى من آدم من عاشقٍ خجول، إلى كائنٍ تستعر جذوة الانتقام في قلبه لمقتل أبيه، حيث يتخذ الكاتب هنا مجازاً "الحرب في زمن الحب" كما في الحوار التالي بين آدم وناديا:
ـــ اِنقَضَى عامٌ وأنا أَرسُمُكَ كَفَتاةٍ مُدَلَّلَةٍ؟ لم أُدرِكْ بأنَّ يَدَيْكَ قد اِخْشَوشَنَتْ؟
ـــ في بلادِ الجَنوبِ كُلُّ شَيْءٍ يَنمو قَبلَ أوانِهِ! خَوفُنا ورَحيلُنا!
ـــ سَأقومُ بِرَسْمِكَ مُجَدَّداً، لقـد اِمتَـدَّتْ مَسـافـاتُ الـرِّمـشِ والأهدابِ كثيراً! واتَّسَعَتْ هُنا يَنابيعُ العُيونِ!
ـــ لقد اِشْتَقتُ لِلغِناءِ أيُّها العابِثُ، لقد كِدْتُ أَنساهُ.
ـــ على أيَّةِ حالٍ؛ لم يَحتَمِلْ أحَدٌ غِنائَك سواي أنا!
ـــ هلْ نحنُ مُتَماسِكون حقَّاً؟! أَمْ لا نَمْلِكُ إلَّا الاِدِّعاءَ بِذلكَ!
ـــ بَلْ نحنُ نَدَّعي؛ لقد أَتَى عَلَيَّ ومَزَّقَني الجَنوبُ! لا أَعلَمُ إنْ كنْتُ أَقوَى على أنْ أَعودَ طِفلاً ذاتَ مَساءٍ؟
وهنا على لسان الأمهات الثكلى وصبرهن على ما ألَمَّ بهم من فقدانٍ وحرمان.
كما عبَّرَ عنه الكاتب في / مونولوغ / حوارٍ ذاتي لـ سارة، وهي مثل جميع الأمهات، والفتيات إذا ما تأملنَّ مرآة المساء، وبعثرن الأقراط على شرفة حلم آت. أو ربما هي البلاد، أو زورقان من عشقٍ، يتثاءبان في غنجٍ بين ضفتين، ولكن كان لآلام الجنوب وأشجانه شأن آخر، حيث فعل ما فعل، واستباح مرآة سارة:
سارة تحدِّثُ نفسَهَا قائلةً: «سارة؛ سارة؛ المعذرةُ مِنْكِ يا سارة! أيَّةُ نادمةٍ أنا على ما اقترفَتْ يداي يا سارة! آهِ كَمْ مَزَّقْتُ فِيكِ حُلُمَ الوصولِ يا سارة! فَلْتَغفرِي لي فأنا لا أملكُ على عذاباتِي شيئاً، ولا الأقدارَ. لَمْ يتبقَّ مِنِّي سِوى بِضعةِ صَلواتٍ تُؤنِسُ ما تمزَّقَ بِي مِنْ مُهَجٍ. لقدْ مَرَّغْتُ ضَفائِرَكِ بالدَّمعِ؛ بالنَّشيجِ. فَلْتَغْفِرِي لِي سارة! أجولُ بِكِ القِفارَ والوِهادَ، وعبثاً مِنْ جُحرٍ يرنو إليهِ رأسُكِ الواهنِ ترحالاً لا مُؤنساً لَهُ.
أو كما تخاطب الفتى ألكسي قائلةً:
ألكسي؛ وَلَدِي ألكسي! أنا لَسْتُ سِوى هاربةٍ مني أهرب مِنْ كُلِّ تلكَ الأصواتِ الّتي تلازمُنِي مِثلَ ظِلِّي. أنا يا بُنَيَّ لَسْتُ لِي! أنا لا أملِكُ على ذاتِي شيئاً، أنا لَسْتُ سِوى بقيَّةٍ مِنْ أجزائِي الَّتي نزفْتُها فِي فَيافِي الجَنوبِ، أنا خَيالٌ مِن سارةَ الّتي سافرَتْ يوماً أبداً.
وهنا يتحدث المحارب القديم الجد برنارد، حيث يعود الديار جريحاً، ليحيا جراحات فقدانه لعائلته القروية البسيطة:
"ألقَيتُ عليهم التُّرابَ الرَّطِبَ والصَّلاةَ، ثمَّ تابَعنا المَسيرَ إلى الأمامِ، اُنظُري بُنيَّتي سارة، اُنظُري؛ لقد حَصَلتُ على قِلادَةٍ ذاتِ نجومٍ برَّاقَةٍ! عُدْتُ الدِّيارَ؛ حيثُ إيملي تَحتَضرُ، حَمَلتُهَا إلى حيثُ نورُ شَمسٍ أخيرٍ، وأغلَقتُ عَينَيْها، بالقُربِ منْ شَجرةِ السِّنديانِ هناكَ وارَيتُها الثَّرى.
يا لِهذا العالَمِ المُنافِقِ الفَظِّ! يَستَبيحُ جَذوَةَ آَمالي ويُلقي إليَّ بِقلادَةٍ ذاتِ نجومٍ بَرَّاقَةٍ مَنسيَّةٍ في صُندوقٍ صَدِئٍ."
اللغة التشكيلية، والسجع اللغوي بين إيقاعين صوتيين أولهما رتيب متناغم الوتيرة في وصف المشاعر من خوف وقلق وحب، والأحاسيس والطبيعة، وثانيهما إيقاع مضطرب غير مستقر يعبر عن الأحداث الجارية في بيئة الحرب الصاخبة، حيث استعمله الكاتب في السرد، الحوار، وفي / المونولوغ / الحوار الذاتي.
اعتمد الكاتب في كتابة النص لغة السرد التسلسلية للأحداث على شكل صور حية يتفاعل معها القارئ:
عوامل الوصف والترنيمة
هي عدة عوامل قد أضفت طابع الوصف والترنيمة بقافية في صياغة الحوار والنص في أسلوب كتابتي، منها البيئة التي ترعرعت فيها وكانت على ضفاف نهر الفرات التي تمتد من مسقط رأسي مدينة الميادين إلى ديرالزور المحافظة.
منذ الطفولة مع الرفقة نقضي يومنا على الطوف الخشبي في النهر وبين أشجار الرمان، كان من المعتاد سماع أغاني الصيادين وهم يرمون شباكهم في النهر من على زوارق المساء عند المغيب حيث يعبث النسيم بأشجار الصفصاف ويتمايل البردي في موجات النهر ويلهو البط بين سيقان القصب، لغة الوصف تلك وجدتها ملائمة لنقل صورة للقارئ لما يعتري الأحاسيس من تقلبات ما بين أوقاتٍ من أسىً تارةً، وفرح تارة أخرى بإيقاعٍ متناغم سهل الوتيرة:
"أنا أُحبُّها؛ حيثُ في عَينَيْهَا قَبَسٌ مِنْ فَوانيسِ المساءِ، حيثُ السَّعَفُ ترانيمُ صَلَواتٍ تتدلَّى مِنْ النَّخيلِ، هُناكَ للصِّفصافِ عَبَقٌ هَائِمٌ على ضِفَافِ النَّهرِ الفُراتِيِّ المُهَجِ.
// هِيَ سَارةُ دُونَ سِواهَا، وَالمسيرُ نَحوَ جِسرِ المدينةِ حَيثُ شارعُ النَّهرِ الفُراتِيِّ تغفُو عَلى جَنَبَاتِهِ فَوانيسُ لَيْلٍ خَريفِيٍّ نَاعِسَةُ الهَوى. الرِّيحُ طِفلةٌ شَقيَّةٌ تَأبَى إِلَّا أَنْ تَلهوَ بِخِمارِ سارةَ مُتمرِّدِ النَّشوةِ. هُناكَ النَّخيلُ قَوافلُ مِنْ أغانِي المَساءِ، والسَّعفُ صَدىً لِترانيمَ مِنْ صلواتِ سارةَ تَتبعُنَا نحوَ جِسرِ المدينةِ".
أو ما تشدو به الحاصدات بين السنابل وأحاديث القرويين في جلسات السمر. فكل ما يدور من حكمٍ وأمثال في تلك الأمسيات يأخذ شكلاً من قصيدة سجع وقافية، فالمفردات في تلك البيئة غالباً ما تكون فصيحةً خالية من الشوائب اللغوية المستحدثة، وتتمتع أيضاً بموسيقى عفوية يتلقاها السامع بعذوبة وسلاسة.
"فِي الأُمسياتِ يلفَحُ النّسيمُ عرائشَ الكُرومِ ومصابيحَ السَّمَرِ. فِي مَزرعةِ الجَدِّ برنارد يطيبُ للسُمَّارِ أنْ يَتلُوا دُعاءَ شُكرٍ وامتنانٍ للهِ تعالى. هُنَا الإنسانُ والفُرسانُ، هُنَا لِلصَّباحِ عَبَقٌ، والغِلالُ الكريمةُ؛ فَمَا أَنْ حَلَّتْ أعيادُ الرَّبيعِ حتّى تزيَّنَتِ القَريةُ بالزّهورِ وبِالمصابيحِ الّتي تتدلَّى فِي زَوايا الطُّرقاتِ. عَبَقٌ مِنْ حُقولِ البَنَفسجِ يهيمُ ثَمَلاً فِي ساحةِ القَريةِ، بينَما يَختالُ الأولادُ والفتياتُ بالثِّيابِ المزركشَةِ. ما السِّحرُ الّذي تختالُ بِهِ تِلالُ الشَّمالِ النّائيةُ؟ وأيُّ فِتْنَةٍ للسُّهوبِ وأغاني الحَصادِ بِلا حضورٍ لِسَيِّدةِ المساءِ!؟ فَلْتذهَبِ المدينةُ ونِفاقُهَا إلى الجحيمِ. كانَ بإمكانِكِ أنْ تكونِي مثلَ جميعِ العابرِينَ، يقضُونَ ليلَتَهُمْ فِي كوخِنَا العتيقِ، وصباحاً بِلا صَخَبٍ يرحلُونَ. لا يوقدُونَ فِي ليلِنَا سِراجَ مُهَجٍ، لا يتركُونَ أسماءَهُمْ بينَنَا، لا صدىً يتركُونَ".
وأحد أهم العوامل أيضاً القراءة التي هي زاد الكاتب، حيث حرص والدي وإخوتي على توفر الكتاب بين أيدينا، وغالباً ما كنا نتهافت على الحصول على وقتنا المخصص للإبحار في صفحات مجلة العربي الكويتية، وكنت شغوفاً بقراءة القصص المترجمة، وقادني هذا الأمر على دراسة الأدب الإنكليزي بشكل عام وخصوصاً العصر الفكتوري ومن ثم كان للكاتب تشارلز ديكنز تأثيراً جامحاً في مخيلتي من حيث لغته في التوصيف وما تناوله من مواضيع في رواياته التي لامست حياة الفقراء مثل أوليفر تويست، ديفيد كوبر فيلد إلخ - حيث يسودها عاطفة من أسىً ومعاناة.
إيقاع اللغة
كان لتلك اللغة إيقاع أعلى ومضطرب عندما يتعلق الأمر في نقل صورةٍ ملموسة أو مادية، حيث أمشي في الأزقة الشاحبة فوق الركام وحطام بيوت الطين. هنا أشتم رائحة البارود الحامض، ويتمرغ جبيني بكل ذلك الرماد الذي يجوب المكان:
"عَبْرَ الزُّقاقِ تُقْبِلُ سارَة تَحْمِلُ على ظَهرِها أَباها الكَهْلَ الَّذي فَقَدَ سَمْعَهُ ولم يَعُدْ يَقْوَى على المَسيْرِ، بَيْنَما تَمشي أُمُّهَا إلى جانِبِها تَتْلُو صَلَواتٍ وآهاتٍ، وبِالكَادِ تَلْتَمِسُ سارَة طَريْقَهَا فَوقَ الحِجَارَةِ النَّخِرَةِ، تَكَادُ تَقَعُ أَرضَاً وَهيَ تَشُقُّ طَريْقَهَا حَافِيَةً، حَيْثُ لم يَتَسَنَّ لَها البَحْثُ عَنْ نَعلِها الَّذي عَلِقَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، تَحُثُّ الخُطَى على جَنَبَاتِ الزُّقَاقِ، وَتَلُوذُ تَارَةً خَلْفَ بَقَايَا حُطَامِ الجُدرانِ العَتِيْقَةِ لِتَحْتَمِي مِنْ رَشَقَاتِ الرَّصَاصِ... سارة على وَشَكِ الوُصُولِ إلى بَيْتِها الَّذي يَقعُ في زاويةِ الزُّقاقِ. تَجُرُّ سارَة جَسَدَي والِدَيْهَا إلى فَناءِ المَزرَعَةِ المَهجورَةِ لِتَحمِلَهُم عَرباتُ المَوتِ إلى فُراقٍ طَويلٍ، ومَا أَنْ وارَتِ التُّرابَ عَلَيهِما وعَلى اِبْنَتِها الصَّغيرَةِ حتّى عادت مَساءً تَحمِلُ صَلاةً منْ نَشيجٍ وكِسَرَاً من الخُبزِ."
بينما في زنازين المعبد الجنوبي، تأبى تلك اللغة إلا أن تتحدث مضطربة بتوصيفٍ مباشر لتستكين إلى استعارة:
"يُقبِلُ جُندي المَعبَدُ، يَفتحُ بابَ الدِّهليزِ ثمَّ يَخرُجُ وهو يَسْحَلُ مِنْ خَلفِهِ جَسَدَ آَدَمَيٍّ ما يَزالُ بِإمكانِهِ الرَّفسُ والاِرتِعاشُ! إنَّهُ مُعلَّقٌ ما بَينَ ظِلِّ حَيَاةٍ واحتِضارٍ مُمِلٍّ طَويلٍ، يَستَمرُّ الجُنديُّ في سَحلِهِ على طولِ المَمَرِّ المُظلِمِ العَفِنِ! الجَسَدُ الآَدَميُّ يَخُطُّ وَراءَهُ سَيْلاً مِنْ دَمٍ وديدانٍ، كُلُّ ما فيهِ مُهَشَّمٌ، لا تَكادُ تَتَميَّزُ مَلامِحُهُ، هو ليسَ سِوى ما تَبَقَّى مِنْ ظِلِّ روحٍ مُتَأرجِحَةٍ، هو ما تَبَقَّى مِنَ الصَّرخَةِ الأولى والأخيرةِ، هو اِنكِسارٌ في خاصِرَةِ الجَنوبِ".
غالباً ما تقوم السجون في إلقاء جثث من يقضون تحت التعذيب في حفر جماعية:
"عمر وبلال يَنظُرونَ إلى الحُفرَةِ الشَّاسِعَةِ العَميقَةِ الَّتي تَطوفُ فَوقَها أسْرابُ الذُّبابِ وتَقفِزُ فَوقَها الكِلابُ الشَّارِدَةُ. يَتَقيَّؤونَ على غَفْلَةٍ، ثمَّ يَقِفونَ يُحَدِّقونَ فيها دُونَ حِرَاك،
يُباشِرونَ بِتَفريغِ العَربةِ في هَلَعٍ وخَوفٍ، وهم يَنظُرونَ إلى آدم خِلْسَةً حيثُ يَبدُو بِلا مَلامِحَ تكادُ تُذكَرُ وهو يُلقي بالأكياسِ في الحُفرَةِ! وقد أصابَهُم الذُّعرَ، حيثُ لم يكنْ يَترَدَّدُ في شَتْمِهِم إذا ما قامَ أحدُهُم بالبُكاءِ والعَويلِ، ها هو يَرْكُلُ الجُرذانَ إذا ما اِقتَرَبَتْ مِنْ البنطلون ويُطلِقُ عَليها سَيْلاً مِنَ السِّبابِ والشَّتائِمِ، ويَبْصُقُ على الذُّبابِ الَّذي يَحومُ حَولَهُ".
النص السردي ولغة الحوار، اقتران الشخصية بالمكان والزمان
حيث أن زمان الرواية افتراضي بين الفترة الممتدة مابين 1850-1900 والمكان هو بلاد الجنوب وبلاد الشمال، اقتضى أن يكون مدلول الرواية رمزي يعكس مضمون عام قد حدث ويحدث الآن في بعض البلاد. فكانت المشاهد تبدو صاخبة لوهلة، ثم ما تلبث أن تستكين كحمم النيران التي تتساقط على الأزقة، ثم تنبلج عن هدوء يغشاه الدخان، والبارود الممزوج بالغبار والأنين.
هذا هو الإيقاع الغالب على النص، والحوار، والمونولوغ الداخلي. ويبدو ذلك جلياً في كل أطوار مراحل الرواية، حيث هذا الإيقاع يكسر رتابة الاسترسال الممل، ويجعل القارئ يسير في غمار اضطراب رحلة الحرب:
"حِمَمُ النِّيْرَانِ تَتَسَاقَطُ فَوْقَ البُيوتِ الطِّيْنِيَّةِ الهَشَّةِ، ثُمَّ تَتَّبِعُها أَعَاصِيْرُ مِنَ الدُّخَانِ وَالتُّرَابِ الشَّاحِبِ، ولا يَكادُ يُسْمَعُ سِوَى صُراخٍ يَتَداعَى بَينَ الحُطَامِ لصِبْيَةٍ هَلِعين أو نَشيجُ ثَكْلَى تُزيْلُ الحِجارَةَ مِنَ فوقِ بَقايا أَجسادِ عَائِلَتِها. عَبْرَ الزُّقاقِ تُقْبِلُ سارَة تَحْمِلُ على ظَهرِها أَباها الكَهْلَ الَّذي فَقَدَ سَمْعَهُ ولم يَعُدْ يَقْوَى على المَسيْرِ، بَيْنَما تَمشي أُمُّهَا إلى جانِبِها تَتْلُو صَلَواتٍ وآهاتٍ، وبِالكَادِ تَلْتَمِسُ سارَة طَريْقَهَا فَوقَ الحِجَارَةِ النَّخِرَةِ، تَكَادُ تَقَعُ أَرضَاً وَهيَ تَشُقُّ طَريْقَهَا حَافِيَةً، حَيْثُ لم يَتَسَنَّ لَها البَحْثُ عَنْ نَعلِها الَّذي عَلِقَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، تَحُثُّ الخُطَى على جَنَبَاتِ الزُّقَاقِ، وَتَلُوذُ تَارَةً خَلْفَ بَقَايَا حُطَامِ الجُدرانِ العَتِيْقَةِ لِتَحْتَمِي مِنْ رَشَقَاتِ الرَّصَاصِ... سارة على وَشَكِ الوُصُولِ إلى بَيْتِها الَّذي يَقعُ في زاويةِ الزُّقاقِ".
اعتمد الكاتب صيغة الحوار المسرحي التفاعلي، كما الحوار بين آدم وآمر المعبد يشوبه الاضطراب والتلميح:
"يَقتَربُ آدم مِنْ آَمِرِ المَعبَدِ ويَتفَحصُّهُ مِنْ رَأسِهِ إلى أَخمَصِ قَدَمَيْهِ، ثمَّ يَدورُ مِنْ حَولِهِ لِيَعودَ أَدراجَهُ ويَقِفُ.
ـــ حسناً سيِّدي؛ حَظيتُ الآنَ بِمَقاسِ جِسمِكَ، هيَّا بِنا.
ـــ آدم؛ ماذا تَعملُ في القَريةِ الشَّرقيَّةِ لِكَسْبِ العَيشِ؟
ـــ «صانِعُ التَّوابيتِ» في وَرشَةِ خالي نَجَّارِ القَريةِ.
ـــ أنتم لا تَدفِنونَ مَوتاكُم في نَعشٍ!
ـــ نادِراً ما نَقومُ بِذلكَ، بلْ غالباً ما تَسْأَلُنَا الثَّكنةُ العَسكريَّةُ بأنْ نَصنَعَ التَّوابيتَ لِمَوتاهُم مِنَ الجُنودِ.
ـــ وهلْ كنتَ تَتَفحصُّ بي لِتَحظَى بِمَقاسٍ يُلائِمُ تابوتاً سَتقومُ بِصُنْعِهِ لي؟
يَرتَعدُ آدمُ خَوفاً:
ـــ سيِّدي؛ التَّوابيتُ لِلأمواتِ، بينَما أنتَ فَجَسدُكَ ما يَزالُ يَنبِضُ بالحَياةِ والقوَّةِ.
يَبتسمُ آَمرُ المَعبَدِ حتَّى تَتوسَّعَ حَدَقتَي عَينَيْهِ وهو يُحدِّقُ في آدم:
ـــ إذن؛ جَسَدي هو مَنْ يَنبِضُ بالحَياةِ! دَعني أقولُ بِأنَّكَ ماهرٌ في حِرفَةِ الفَنِّ وحِرفَةِ المَوتِ!
ـــ أمَّا بِشأنِ المَوتِ؛ فأنا لا أَقوَى على صِناعتِهِ، ربَّما أُجيدُ طُقوسَ الوَداعِ؟ هذا كُلُّ ما في الأمرِ."
غالباً ما يبدو المونولوغ فيه تساؤلاتٍ عن معنى العدل والفضيلة، واليأس من نفاق هذا العالم المبتذل، كما يبدو في حوار سارة مع ذاتها:
"بِالكَادِ بِضعَةُ فَراسِخٍ منْ هُنَا، يوجَدُ هُناكَ فَضاءاتٌ منْ حَدائِقَ وأَنهارٍ، أَحاديثُ لِأُناسٍ يُشبِهُونَنَا تَحتَ فَوانِيسِ زَوايَا الطُّرُقَاتِ، وابْتِسامٌ على مَوائِدِ الأُمسيَاتِ، ليسَ بالبَعيدِ مِنْ هُنا فَتَياتٌ يَخْتَلِسْنَ النَّظَرَ إلى فِسْتانٍ يَختَالُ أَلوانَاً، يَغويْهُنَّ على جَادَّةِ الأَسواقِ ويَغمُرْنَ الطَّريقَ بالضَّحِكِ المُتَمَرِّدِ المُبهِجِ، كيفَ يحدُثُ أنْ يَكونَ هُناكَ صَوتٌ لِموسيقى يَتَسَلَّلُ مِنَ النَّوافِذِ المُتَأَلِّقَةِ نُوراً وَأَغانٍ في لَيلٍ رَخيمِ الأُمنياتِ، وكيفَ يَحدُثُ أنْ نَكونَ نَحنُ داخِلَ فُقاعَةٍ مِلؤُها غَيوم مِنْ بارودٍ آَسِنٍ وحِمَمٌ مِنْ خَوفٍ مُقيمٍ! كيفَ يَحدُثُ أَنْ تَكونَ غايَةُ أُمنياتِنا هيَ الرَّحيلُ قَبلَ الوُصولِ؟".
لم يفوِّت الكاتب الإشارة إلى تلك الفئة الرمادية، أو من يدَّعون الحيادية في زمن الحرب. تلك الفئة لطالما كانت تظهر بشكلٍ جلي، حيث تقتات على مآسي الضحايا والمعذَّبين، وغالباً ما يدورون حول فلكهم الأناني السمج على هيئة قطيعٍ، حيث غالباً ما يكونون منبوذين من الآدمية. يظهر ذلك في شخصية نوال وهي المرأة المتبجحة بهيئة ما تضعه من حليٍ وثيابٍ. أو حديثها الوضيع عن المدينة والريف. مثال ذلك في الحوار بين نوال الرمادية، وسارة:
"أنا لم تحملْنِي عرباتٌ مخمليَّةٌ ولا مُزركشةٌ، فأنا لا يليقُ بي يا نوالُ! أنا الّتي اعتدْتُ النَّحيبَ والصَّلاةَ خلفَ عرباتِ الموتِ. أنا الّتي لمْ أحظى بعدُ بِطِلاءِ الأظافرِ، فأصابعِي ليسَتْ سِوى حفَّارةَ القبورِ".
تجيبُها نوال قائلةً:
"ـــ ولكنّنِي لم أكنْ وعائلتِي نحتاجُ كلَّ هذا الجنونِ في الجنوبِ. لماذا تُرغمُونا على أنْ نشاركَكُم جنونَكم؟ لماذا تُرغمُونا عمْداً على خوضِ مغامراتِكم، وتحدّياتِكم الغبيَّةِ في وجهِ العناكبِ؟ انظرِي ماذا حلَّ بالجنوبِ أيَّتُها المكابِرَةُ! كنْتُ أنْعَمُ هناكَ، كنْتُ هناك، ولم تكنْ مدنُ الشَّمالِ يوماً لي أُمنيةً.
ـــ أنتم كما أنتم، تنعَمونَ في لعقِ فُتاتِ الطُّغاةِ وتلعنُونَ المسحوقينَ. أنتم كما أنتم، أيُّها الرَّماديُّونَ المتطفّلونَ! تبتزُّونَ الشّمالَ باسمِ الجنوبِ، وتلعنُونَ ضعفاءَ الجنوبِ إذا ما اشتدَّ نحيبُ آلامِهم. تنعَمونَ بمدنِ الشَّمالِ باسمِ أوجاعِ الجنوبِ.
ـــ فَلْتُصغِي لي أيَّتُها المتحذلقة! فَلْتختارُوا ما تشاؤونَ ولا تُرغِمُونا على أمانِيكُم الغبيّةِ، فلا يعنيْنَا مرتزقةُ الجنوبِ، ولا جنونُكم يعنينا.
ـــ بالتّأكيدِ نوال، ما يعنيكُم هوَ أنتمْ، وليسَ سوى أنتمْ. ما يعنيكُم هوَ ذاكَ الجشعُ المقيمُ أبداً في أنفاسِكم، وأنْ تنتشُوا والجنودَ نخبَ أحزانِنا".
عن الشخصيات في الرواية. الشخصيات الرئيسية والثانوية في الرواية، بالمحصلة هم بشر يصيبون ويخطئون، ابتعد الكاتب عن تقديم الشخصيات كأبطال أسطوريين، خارقين في القوة والاقناع، بل هي شخصيات منا، وبيننا:
سارة، أول الكلمات.. فيها اختزلت كل السيدات.. في صبرهن وسمرتهن. في محياها صباحات أم يبلل وجهها ماء الوضوء، وعلى التنور تشدو بترانيمٍ وصلوات.. وهي الثكلى إذا ما ودعت فلذة كبدها وهي تواري عليه التراب..
أو ربما فيها تضاريس وطن ولون الحقول.. أو ربما عبق السهل إذا ما استباح عشبه المطر.
«هِيَ بِالكَادِ تَلتَمِسُ طَريقَهَا فَوقَ الحِجارَةِ النَّخِرَةِ، وَتارَةً تَقَعُ أَرْضَاً وهي تَشُقُّ هذا الطَّريق حَافيَةَ القَدَمَيْنِ، حَيْثُ لَمْ يَتَسَنَّ لَها البَحثُ عَنْ نَعلِها الَّذي قَد عَلِقَ بَينَ حَجَرَيْنِ، بَيْنَمَا زوجها يَبْدو مِثلَ جُندِيٍّ مَحشُورٍ في خَندَقِهِ يَتَنَفَّسُ البَارودَ الرَّطِبَ، وصَدَى اِنهِزامَاتِهِ تَعبَثُ في رَأسِهِ»
في الرواية، سارة هي الزوجة المحبة الصابرة على تقلبات مزاج زوجها كمال الذي شوهت إدراكه الزنزانة العفنة التي قد زج في ظلماتها لما يزيد عن عام.. تحت الركام قد فارقها والديها وابنتها الغضة الرضيعة.
هي الأم التي يتنفس من طيبتها ابنها إلياس الذي تمضي به السنون وهو مازال متشبثاً بطرف إزارها في رحلتهم نحو تلال بلاد الشمال. سارة هي قنديل مساءٍ يتوهج مهجٍ في كوخ الجد برنارد المحارب القديم الذي لم يبقَ لديه سوى حفيده ألكسي الذي يرى فيها طيفاً ساحراً من وجه أمه التي قد فارقته طفلاً صغيراً.
"ـــ بُنَيَّ ألكسي! هَلُمَّ نَسكُبُ بعضاً منَ الشَّاي السَّاخنِ لِضُيوفِنا؛ لا بُدَّ أنَّ رياحَ الخَريفِ البارِدَةَ قد اِستَنزَفَتْ كُلَّ ما هو دافِئٌ في هذهِ الأجسادِ النَّحيلَةِ، فلا شيءَ يَبقى دافئاً في ليالي أيلول سِوَى الحُزنِ المُقيمِ في الذَّاكِرَةِ ومِصباحِ نافذَةِ اِنتِظارِنا العَجوزِ".
ماتزال سارة تجر محراثها في حقول الشمال، ويمثل أمامها وجه الواشي الأعرج خائن الجنوب القاتل، ولا يفارق مسامعها صوت النائحات والمعذبات في أقبية الجنوب.
وآن الأوان أن تغادر سارة كوخ الجد برنارد لتمضي وابنها إلياس نحو مدن الشمال.. بينما الفتى ألكسي تصيبه لوعة على فراقها وهو الذي اعتاد أن يشدو معها إذا ما عادوا من حراثة الحقل والتفوا حول قناديل المساء.
"ماذا لَو كانَ اللِّقاءُ طويلاً؟ فنحنُ نُجيدُ الإصغاءَ إلى بعضِنَا البعضِ في هذا الرُّكنِ البعيدِ.
ما السِّحرُ الّذي تختالُ بِهِ تِلالُ الشَّمالِ النّائيةُ؟ وأيُّ فِتْنَةٍ للسُّهوبِ وأغاني الحَصادِ بِلا حضورٍ لِسَيِّدةِ المساءِ!؟ فَلْتذهَبِ المدينةُ ونِفاقُهَا إلى الجحيمِ. كانَ بإمكانِكِ أنْ تكونِي مثلَ جميعِ العابرِينَ، يقضُونَ ليلَتَهُمْ فِي كوخِنَا العتيقِ، وصباحاً بِلا صَخَبٍ يرحلُونَ. لا يوقدُونَ فِي ليلِنَا سِراجَ مُهَجٍ، لا يتركُونَ أسماءَهُمْ بينَنَا، لا صدىً يتركُونَ".
آدم والشقاوة
آدم .. فيه الكثير من شقاوة ومغامرات فتية حقول القرية النهرية، عنفوان مواسم الحصاد وصخب زوارق المساء مع الرفاق.. ودائماً ما كان يجلس إلى أشجار الصفصاف يحمل فرشاته ويرسم النهر وأحلام عن أسفار سندباد. أو ربما يرسم وجه ناديا التي يعمل في مزرعة عائلتها في المدينة الرمادية. لم يكونوا عاشقين كما يجب أن تكون عليه حكايات المحبين، بل دائماً ما كانوا يتعاركون ويقذفون بعضهم البعض بحزم القش، أو يتصارعون فوق طين الحقول. ولكن لا بأس من استراحةٍ لهم على أرجوحة معلقة في سقف الإسطبل:
"يُقبِلُ الفَتى آدَمُ منْ البَعيدِ يَحمِلُ على كَتِفِهِ كيساً قُماشيَّاً فيهِ بَعضٌ منْ خُضارٍ وعَدَسٍ يَلتَقِطُ أنفاسَهُ بعدَ معرَكةٍ يَخوضُها كُلَّ مَساءٍ معَ كِلابِ القَريَةِ، صَدَىً لأَزيزِ رَشَقاتٍ منْ الرَّصاصِ يَتَهادى منْ بينِ الحُقولِ الجدباءِ، يُفَضِّلُ آدمُ أنْ يَتَوغَّلَ بينَ أشجارِ الصُّفصافِ المُحاذيةِ لِضِفَّةِ النَّهرِ، هيَ لم تَعُدْ أَكمَةٌ كثيفَةً كَسابِقِ عَهدِها، حيثُ يُداوِمُ فِتيَةُ القَريَةِ على تَقطيعِ أغصانِها اليابِسةِ لِتَنتَهيَ حَطباً في مَواقِدِ الشِّتاءِ".
العمل في مشغل الخال
هو اعتاد العمل في مشغل خاله النجار، وأصبح يجيد صناعة التوابيت.. لقد اخشوشنت يداه قبل الأوان منذ رحيل أبيه الذي قضى على أيدي جند الجنوب والواشي الأعرج خائن الجنوب.. وأمسى صريع هواجسه المتلاطمة ما بين غاية الانتقام لمقتل أبيه، وما بين لقاء من أحب ليمضي معها رحلتهم نحو الشمال. يغادر آدم نحو بلاد الشمال برفقة صاحبيه عمر، وبلال الذي فقد ذراعه تحت وابل النيران.. يقع الفتية في أيدي جنود المعبد الجنوبي، ليزج بهم في الزنازين، وليشهدوا ما يكون عليه السجان، وما صار إليه السجين.. يقوم آدم في رسم آمر المعبد، ويدور بينهم حوار طويل عن القوة والجمال، عن الفضيلة أو الهلاك دون القطيع:
"عنْ أيِّ جَمالٍ تَتحدَّثُ أيُّها الفَتى الأحمَقُ؟ ما مِنْ جَمالٍ يُنازعُ عَرشَ القوَّةِ أيُّها الأحمَقُ، نحنُ الآلهةُ! فَلتَنظُرْ إليهم مَليَّاً! اُنظر إلى هؤلاء السجناء! تَمعَّنْ في هذهِ الأجسادِ أيُّها الفَتَى وأخبِرني أينَ الجَمالُ الَّذي تَدَّعي؟! ما الجَمالُ الَّذي بِحوزَتِهِم الآنَ؟! هيَّا أخبِرني، أينَ قَطراتُ المَطَرِ السَّخيفَةِ الَّتي تَتحدَّثُ عنها؟! أينَ هُم مِنْ اِبتِسامَةِ فَتاةٍ حَسناءَ؟! أينَ هُم مِنْ جَمالِ السَّلامِ والطَّمأنينَةِ الغَبيَّةِ الَّتي تُثَرثِرُ بها؟! أيُّها الأبلَهُ؛ لقد كانوا يُجبِرونَكُم على الجُلوسِ والاِستِماعِ كالخِرافِ لِتَصْغوا إلى ذلكَ المُعلِّمِ الأبْلَهِ الَّذي يُحدِّثُكُم عنِ الخَيرِ والجَمالِ والفَضيلَةِ. تُردِّدُونَ كَلماتِ الشِّعرِ وحِكاياتِ الجَدَّاتِ السَّخيفَةِ صَباحَ مساءَ. بينَما نحنُ كُنَّا مُنهَمِكينَ في حَشْوِ بَنادِقِنا بالذَّخيرَةِ، هم كانوا يَحشونَ رُؤوسَكُم بالهُراءِ أيُّها النَّكرَةُ، خَيرُ فَضيلَةٍ تُقدِّمُها في الحياةِ إلى نَفسِكَ هو أنْ يكونَ في جَيبَتِكَ دِرهَماً لَمَّاعاً ورَصاصَةً، وإِلَّا سَوفَ تُسحَقُ بِالأقدامِ كَدودَةِ الأرضِ أيُّها المُغفَّلُ الباحِثُ عنِ الجَمالِ".
مضمون الرواية والواقعية السردية
بين كل ما تحتويه الرواية من مباشرة وواقعية، من شخصيات وأحداث، آثرت أن يكون لشخصية الفتية مارتان وناتانأن يقومان بأدوارٍ تميل للسريالية الخيالية، حيث من يحيا تحت ركام الجنوب، كان يمني النفس ليسمع أحد صدى آلامه، ولو كان خيالاً.
لم أكن أتخيل يوماً بأن تضل طريقها فوهة المدفعية لتستدير نحوي، نحو الجنوب! أي حربٍ تلك! فأنت لديك رصاصة، وأنا لا أملك سوى خيبة وانكسار.. أي حرب تلك! أنا الأن ألهث عبر الأزقة المتهالكة فلا أرى من الفقراء من ينازعك عرشك أو يضاهيك نياشين من بارودٍ ورصاص!
تدوين الأحداث على تذاكر السفر
تمر السنون وأنا أدون بعض الكلمات على تذاكر السفر، أو أبحث عن سطرٍ شاغرٍ في جريدة رخيصة، منسية وهي محشورة بين مقعدين في حافلة مساء.. حتى أرمي على السطر بضع كلماتٍ ضجرت من صحبتها الذاكرة. كانت الشخصيات ماثلة أمامي، والأماكن هي مني وأنا منها، ونعرف مزاج بعضنا البعض منذ صخب الطفولة. بدأ الأمر منذ خمس سنواتٍ خلت تقريباً، لأقوم بدراسة مهارات الكتابة في المسرح والقصة والرواية، ثم لأقوم بتجميع الشخصيات والأماكن على أوراقي. لتبدأ رحلتي مع استحضار "سيدة الخنادق" التي استوحيتها من أحداث وشخصيات واقعية. وأضفت إليها رحلتي مع الأماكن والشخصيات في بلاد الشمال التي عرفتها.
خريطة الرحلة السردية
خريطة الرحلة كانت ماثلة على جدار مكتبي لسنوات، والشخصيات قد اتخذت طابعها ومسارها، حتى أمسى الجدار وكأن حياة قد دبت به، ولم يكن ليهدأ حيث تعتريه الأحداث ويعلوه صخب الأحداث تارة، وأخرى الحوار الذي لا ينتهي بين الشخصيات، ولم يكن لذلك الاضطراب أن ينتهي إلا عندما ينخفض الإيقاع للحديث عن الربيع، والفرات ومواسم الحصاد.
وغالباً إذا ماكنت بين رفقتي، أراني أبتغي العودة باكراً منزلي خشية أن تتصرف الشخصيات على هواها، أو تتصارع على أسبابٍ ليست بذات الاهمية أثناء فترة غيابي عنها.
أدب الحرب - مفردة معجمية
من الواضح بأن صيغة أدب الحرب، هي من تفرض نفسها على نمط كتابتي، حيث أن التجربة وقيمة هذا المحتوى الذي عشت أحداثه، يتطلب مني كواجبٍ أخلاقي إنساني، وأعيش فيه واحتي الغنَّاء بالحزن وآمال النخيل.
ختام مع سارة
سارة سيدة الخنادق، هي لمن لم يحظَ برائحة الدخان الرطب تحت الركام، أو لمن لم يأتِ إلى مسامعه ذلك الأنين اليائس الخجول الذي لم يترك صدىً في كل هذا الصخب من الأنانية المتزلفة في هذا العالم.
هي عن رصاصة مضت باردةً خلسةً في خيال فتىً غض المهج، ومضى نحو الضفة الأخرى أنيقاً، بلا طقوس وداع.
محمد بدوي مصطفى - عن أدب الحرب في مفهوم عبد الله مرير
حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى 2022