صعود سلم النجاح لا يعرف حدود الديانة والإثنية والهوية الثقافية

ينتقد دانييل باكس الأطروحة القائلة بأن نجاح المهاجرين في الولايات المتحدة ينحصر على المنحدرين من شعوب بعينها بخصائص ثقافية معينة. ويصفها، في تحليله التالي لموقع قنطرة، بأنها محاكاة هزيلة لعلم نفس الشعوب، ويدرجها ضمن أطروحات أخرى في الغرب تُلحِق الإرهاب بالإسلام والفشل المدرسي بالمسلمين، وتعزو النجاح الاقتصادي الإسلامي في تركيا وماليزيا إلى عولمة رأسمالية قائمة على البروتستانتية في الأولى وعلى الكونفوشيوسية في الثانية. ويُرجِع رواج مثل هذه الأطروحات في الغرب إلى أحكام مسبقة شائعة غير موضوعية تم عليها إضفاء هالة من التحليل العلمي الزائف.

الكاتبة ، الكاتب: دانيال باكس

لماذا ينجح بعض الوافدين أكثر مما ينجح آخرون؟ سؤالٌ يُطرح بشكلٍ متكررٍ في الولايات المتحدة الأمريكية. قبل أكثر من عشرين سنة، وفي سياق حوادث الشغب في لوس أنجلوس، نُوقِشَ مثلًا موضوع تفوق الوافدين الآسيويين وتخطيهم الشاسع للأمريكيين من أصل أفريقي في وقت قصير، الأمر الذي أدّى إلى نشوء حزازات  بين المجموعتين.

 إيمي تشوا وزوجها جِيد روبنفيلد أستاذان في كلية الحقوق في جامعة ييل، وقد استطاع كل منهما على حدةٍ الوصول للشهرة عبر تأليف كتابٍ من الكتب الأكثر رواجًا، وها هما يقدمان الآن شرحًا تبسيطياً عجيباً لآليات الارتقاء المختلفة لدى مجموعات الوافدين المتباينةـ ويقولان إن "الأمر يتعلق بالثقافة". لكن هذا القول سخيف!

أثارت إيمي تشوا الأمريكية من أصول صينية، (عمرها 52 عاماً)، قبل ثلاث سنوات ضجّة بسبب ما جاء في كتابها "الأم النَّمِرة" (Tigermom). وفي هذا الكتاب الذي نشر باللغة الألمانية تحت العنوان المهذب "أمهات النجاح" تثني إيمي تشوا على تربية الأمهات الصينيات الشديدة والصارمة وتمدح الأمهات اللواتي يمنعن أطفالهن من مشاهدة التلفاز، والنوم عند الأصدقاء، لا بل وحتى من الاحتفال بأعياد ميلادهم، لكي يدفعن بهم بدلًا من ذلك إلى تحقيق أفضل الأداء في المدرسة وإتقان العزف على آلة موسيقية كلاسيكية، وإذا اقتضى الأمر، يفعلن ذلك من خلال التهديد بحرق دمية القماش المحببة للطفل. هذا "المديح للانضباط" المتحقق بالتعنيف، جرى اختصاره بالصيغة الموجزة: الأمهات الصينيات أفضل من الأمهات الأخريات.

تستعين تشوا في كتابها الجديد بزوجها جيد روبنفيلد، (عمره 55 عاماً)، فيتقصَّيا معًا العلاقة بين الثقافة والنجاح، وقد حددا في هذا السياق ثماني مجموعات من "المتفوِّقين في أدائهم" وذلك بالاستناد إلى معايير مثل الدخل المالي، ونتائج الامتحانات، واختبارات الذكاء. الصينيون واليهود من بين المجموعات الثماني الأفضل بالنسبة لتشوا وروبنفيلد شخصيًا، أي أنهما المجموعتان التي ينتميان هما إليها، ولكنهما يدرجان الإيرانيين واللبنانيين والنيجيريين والكوبيين وحتى المورمونيين في عداد قائمة المتفوقين أيضًا.

"المتفوِّقون في أدائهم"

يدَّعي المؤلفان أنَّ كل هذه المجموعات قد أفلحت بتحقيق التقدم الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية لأنها تتمتَّع بحزمة معيّنة من الخصائص لا يملكها الآخرون، ولذلك يحمل الكتاب الأصلي عنوان "الحزمة الثلاثية"، أما الترجمة الألمانية فقد أطلق عليها العنوان الغريب "كل الناس سواسية، إلا الناجحين".

Buch-Cover "Alle Menschen sind gleich – erfolgreiche nicht" von Amy Chua
Amy Chua und ihr Mann Jed Rubenfeld liefern in ihrem Buch simple Erklärungen für den Erfolg und "Nicht-Erfolg" von Einwanderern - und diese lautet: Kultur!

صيغة الحزمة الثلاثية التي يطرحانها بسيطة: فهما يريان أولًا أن كل المجموعات المذكورة لديها عقدة التفوق، أي لديها إيمان عميق متجذّر بتميُّز مجموعتها عن المجموعات الأخرى. وثانيًا، وحتى إنْ بدا في الأمر مفارقة، يتملـَّك أفرادَ هذه المجموعات شعورٌ متأصِّلٌ ودفينٌ بالقلق والخوف من ألاّ يكونوا بمستوى تطلعاتهم الخاصة رغم الإيمان العميق بالتميُّز.

وثالثًا: التحكم بالدوافع، وهذا يعني الاستعداد لتأجيل الرغبات الخاصة، والقدرة على عدم السماح للنكسات بتثبيط هممهم وعلى إظهار الصلابة تجاه أنفسهم، أي الانضباط النابع من الذات والقدرة على التحمُّل والثبات.

 هنا يلوِّح ماكس فيبر من بعيد بأطروحته عن "الأخلاق البروتستانتية" التي تُعد من الأطروحات الأساسية في علم الاجتماع. هذه الفكرة، التي تقول بأنَّ عقلية ثقافية معينة قد ساعدت الرأسمالية على تحقيق انتصاراتها، فكرة غدت موضع شك وتساؤل منذ فترة طويلة وعلى نطاق واسع، إلا أنَّ هذا لم يقلـِّل من شهرتها. ووفقا لذلك يعزى صعود النمور الآسيوية إلى ما يسمى "الأخلاقيات الكونفوشيوسية"، أما صعود رجال الأعمال المتديِّنين والمواظبين على أعمالهم في وسط الأناضول، الذين يشكلون حاليًا أساس نفوذ حكومة إردوغان في تركيا، فقد تم اعتبارهم بومضة عين "كالفينيين إسلاميين"، حيث أنَّ الأخلاقيات الرأسمالية قد تمّت عولمتها منذ فترة طويلة.

ليس من قبيل الصدفة أنْ تُذَكِّر أطروحة "الحزمة الثلاثية" بالحديث عن "القيم الآسيوية" التي طُرحت بوصفها أسباب الازدهار الاقتصادي في دول "النمور الآسيوية" السلطوية في التسعينيات قبل أن تنهيه الأزمة الآسيوية بشكل مؤقت. لكنها واهية للغاية، بحيث لا يبقى منها بعد تفحُّصها في النهاية إلا ما يزيد قليلًا عن محاكاة هزيلة لعلم نفس الشعوب، وهي في المقابل رائجة لأنها تُجمِّل الأحكام المسبقة الشعبية غير الموضوعية من خلال إضفاء هالة التحليل العلمي الزائف عليها.

ومنذ أن قسَّم صموئيل هنتنغتون العالم إلى دوائر ثقافية، راج تفسير كل شيء من خلال "الثقافة"، بدءاً من الإرهاب مرورًا بالنجاح الاقتصادي وصولاً إلى الفشل في المدرسة. هذا لا يعني في كل هذا غياب العناصر الثقافية التي يمكنها التأثير بشكل أو بآخر. لكن مفهوم "الثقافة" أصبح اليوم إطارًا يمكن بمساعدته شرح كل شيء وعدم شرح أي شيء في الوقت نفسه.

فلتتوقف هذه الخرافة

على الأقل، وبعكس الألماني تيلو زاراتسين، لا يُحمِّل المؤلفان تشوا وروبنفيلد الجينات أو الدين مسؤولية توزيع المواهب بشكل غير متساوٍ، لكن بالرغم من ذلك تعرَّض الكتاب لانتقادات شديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكتبت حتى صحيفة من طراز "دي فيلت" اليومية (ذات الميول اليمينية) عن "دعاية الخوف العنصرية المغرضة".

ولكن في ألمانيا أيضًا يحلو عزو النجاح المدرسي الأكبر لأطفال الفيتناميين الوافدين مقارنة بأطفال الأتراك الوافدين لأسباب ترتبط بالجوانب الثقافية - إنها الأخلاقيات الكونفوشيوسية إياها... كما تعلمون... أَمّا أنْ يكون للاستصغار دورٌ في هذا السياق، أو أنْ تكون المعدلات المدرسية للأطفال الإيطاليين، الذين يُعدُّون في هذا البلد من أكثر فئات الوافدين قبولاً، هي أكثر سوءًا، فذلك يحلو تجاهله – لأنه يناقض الصيغة النمطية المزعومة القائلة بأنَّ الدين الإسلامي هو سبب كل تخلَّف.

تشوا وروبنفيلد يعتبران اليهود "مثال المهاجرين الناجحين بامتياز": بالرغم من أنهم لا يمثلون سوى اثنين في المئة من سكان الولايات المتحدة الأمريكية إلا أنَّ عددهم بين الحائزين على جائزة نوبل وفي الاقتصاد والقضاء وكذلك في وول ستريت وهوليوود يفوق بشكل ملحوظ نسبتهم في المجتمع، ما يقدم مادة وافرة لنظريات المؤامرة. إلا أنهما يرفضان خرافة حماس اليهود للتحصيل العلمي التي غالبًا ما يجري استخدامها بغية تفسير هذه الظاهرة، فمعظم اليهود الذين وصلوا في أوائل القرن العشرين إلى جزيرة إليس في نيويورك كانوا شديدي الفقر وقليلي التعليم. كما لم يكن اهتمام الجيل الأول من الحرفيين وصغار التجار ينصب كثيرًا على توفير التعليم العالي لأطفاله، بحسب تشوا وروبنفيلد.

Der amerikanische Autor Jed Rubenfeld; Foto: picture-alliance/Effigie/Leemage
Für Chua und ihren jüdischen Mann Rubenfeld stehen Juden für den "Inbegriff der erfolgreichen Migranten“: Sie stellen zwar nur zwei Prozent der US-Bevölkerung, sind aber unter Nobelpreisträgern, in Wirtschaft und Justiz sowie an der Wall Street und in Hollywood deutlich überrepräsentiert.

كان هذا أحد الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض قيود شديدة على المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الأولى. أمر تنسى تشوا وينسى روبنفيلد ذكره، بينما بدأ صعود اليهود الأمريكيين اجتماعيًا في فترةٍ لاحقة.

الثقافات تتغيّر، والهجرات تحدث غالبًا في دورات: وبينما يجلب الجيل الأول روح الإقدام معه كي يحقق النجاح في بيئة جديدة، ويكون مضطرًا للكفاح من أجل البقاء، فلا يتمكن غالباً إلا الجيل الثاني من النهوض، أما الجيل الثالث فيرتاح إلى ما تمَّ التوصُّل إليه، حيث يفتر الطموح.

إنَّ الإشارة إلى أهمية التحلي بالفضائل الثانوية مثل المواظبة والانضباط وشدّة المراس عندما يريد المرء الصعود من أدنى طبقات المجتمع، هي طبعًا إشارة إلى حقيقة بديهية. كما أنَّ إمكانية أنْ يصبح إقصاء الوافدين من قبل مجتمع الأغلبية دافعًا لمضاعفة الجهود والتفوّق على الآخرين، فهو أمر ينطبق على الكثير من الوافدين. لذلك يبدو اختيار المجموعات الثماني التي ذكرها تشوا وروبنفيلد اختيارًا تعسفيًا للغاية.

مزاعم افتقار الأمريكيين السود إلى العزم

يستحضر المؤلفان الإحصاءات المناسبة لتبرير أطروحاتهما، ويَصُفَّان تعميمات بعضها إلى جانب البعض، ولا يذكران الوقائع التي من شأنها أنْ تشوش على ما يطرحانه، فيكتبان مثلًا أنَّ الإيرانيين والكوبيين كانوا من أوساط النخبة في وطنهم قبل أن يهربوا من ثورات بلادهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

بينما استفاد النيجيريون والهنود إحصائيًا من قواعد الهجرة التي كانت تفضِّل مجموعات مهنية ومؤهلات تعليمية معينة، لذا أدت هجرة الطبقة العليا من غرب أفريقيا إلى ظاهرة تفوّق الطلاب السود القادمين من أفريقيا على الطلاب الأميركيين السود في الكثير من جامعات النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية.

إلا أنَّ أقرب ما يدعو إلى السخرية هي محاولة تشوا وروبنفيلد تفسير هذا التطوّر وعزوه لافتقار الأمريكيين السود إلى العزم على الكفاح لأجل النهوض لأنهم يثقون بوعد المساواة الوارد في الدستور الأمريكي. يا له من استهتارٍ فريدٍ بإرث العبودية الذي لا تزال تبعاته مؤثرة حتى يومنا هذا.

مغزى الكتاب: مهاجرة توبِّخ وطنها الجديد ولديها قناعة راسخة بتفوقها على مجتمع الأغلبية؛ ومن خلال تمجيدها وتغنّيها بقيم تلك المجموعات العرقية التي تزعم عدم إفسادها بعد على يد الاتجاه السائد الضعيف والمترف في الولايات المتحدة الأمريكية و"ثقافة المكافأة الفورية" فيه، تحتفي في نهاية المطاف بمجتمعات المجموعات العرقية المتوازية. رسالتها الشَّرِسة تقول: يا أمريكا القديمة تنحي جانبًا لأنَّ طُموح الكثير من الوافدين سيضعهم لا محالة على مسار التجاوز السريع.

المؤلفان بدعوتهما لأداء محافظ ومتطرف يثيران مخاوف الطبقة الوسطى البيضاء أيضًا من ألاّ تكون هذه الطبقة جيدة بما يكفي لتكون قادرة على الثبات في المنافسة العالمية. هذه المخاوف من أنْ يتم تجاوز أطفال مجتمع الأغلبية من قبل مهاجرين ممتازين ومتفوقي الأداء لا توجد في الولايات المتحدة الأمريكية وحسب، وهذا سبب توقُّع أن تفلح إيمي تشوا في أن يندرج اسمها على لائحة الكتب الألمانية الأكثر رواجًا.

وأولئك الذين سوف يشترون كتابها، كانوا قد اشتروا عبر شركة أمازون كتب مشابهة مثل "مديح الانضباط" أو "لماذا يصبح أطفالنا مستبدين" أو "أسباب عدم إرهاق الأطفال الفرنسيين للأعصاب"، فلا أحد يريد أن ينتمي إلى الفَضْلة الخاملة.

 

 

دانييل باكس

ترجمة: يوسف حجازي

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014