ألمانيا تلغي نفسها؟ "النسيان وحده يهزم الآيديولوجيات"
صدر كتاب "ألمانيا تلغي نفسها" للألماني تيلو زاراتسين في آب/ أغسطس 2010 مصحوبًا بصدى إعلامي هائل. وقد سبق إصدار هذا الكتاب نشر مقتطفات منه في مجلة شبيغل وصحيفة بيلد الألمانيتين كما نُشرت مقابلات مطولة عنه في صحيفة مورغن بوست وفيلت أم زونتاغ في ألمانيا.
قدم زاراتسين كتابه آنذاك في مبنى المؤتمرات الصحفية الألماني الاتحادي وظهر على شاشة قناة التلفزيون الألماني الأولى في برنامجي "بيكمان" و"هارت آبر فير"، وبذلك أفلح كل من المؤلف ودار النشر في تحقيق ضربة إعلامية موفقة أدّت في اليومين الأولين بعد صدور الكتاب إلى بيع عشرات آلاف النسخ. ويعد كتاب "ألمانيا تلغي نفسها" اليوم أحد الكتب المختصة الأكثر مبيعًا منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية.
يبدو أنَّ أطروحات زاراتسين قد لاقت أرضًا خصبة، حيث استطاع المؤلف من خلال نقده المبدئي للهجرة إلى ألمانيا، أن يُظهِرَ نفسه كمن يفصح عن حقيقة لا يريدها أن تقع ضحية لهيمنة الكياسة واللباقة السياسية كما هو معتاد في ألمانيا.
ردود ناقدة عبَّرت عنها الأحزاب السياسية
واجهت المبيعات الهائلة والاهتمام الكبير منذ البداية انتقادات صريحة من مختلف ألوان الطيف السياسي الألماني. وكان المحافظون أيضًا متّحدين في رفضهم بدءًا من رولاند كوخ رئيس وزراء ولاية هيسن آنذاك الذي قال عن الكتاب إنه "لا يطاق"، مرورًا بألكسندر دوبرينت الأمين العام لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي بولاية بافاريا الذي قال إنَّ "الرجل مختلُّ العقل" وصولاً إلى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي وصفت الكتاب بـ "حماقة لا تساعد على شيء".
وكانت مواقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر وحزب اليسار نقدية على أية حال، فقد طلب زيغمار غابرييل رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي علنًا من زاراتسين الخروج من الحزب، أما في حزب الخضر فقد اعتبر فولكر بيك أنَّ زاراتسين يُعبِّر عن "خطاب الكراهية" وقال طارق الوزير إنَّ مقولاته "هراء يعبِّر عن عدم معرفة بتاريخ الهجرة" وبالتالي فإنَّ أقوال زاراتسين لا تُعبِّر إلا عن عنصرية خالصة. كما تم تناول قضية زاراتسين وخلفياتها بإفاضة في كتاب "النقد والعنف" للباحث بمواضيع الهجرة كلاوس باده، الذي كان حتى تقاعده في عام 2007 أستاذاً للتاريخ الحديث في أولدنبورغ الألمانية.
وهذا الكتاب مُشبع بالأعداد وغني بالوقائع، أما لهجته فتميل إلى الهدوء وليست انفعالية إلا في بعض المواضع النادرة، إلا أنه يبقي دائمًا على حماسه ويتحدث كلاوس باده فيه عن "نقاش شديد الاستياء يُستعاض به عن النقاش المكبوت خوفًا، أي النقاش عن هوية جماعية جديدة في مجتمع الهجرة".
يعد كلاوس باده منذ مطلع الثمانينيات من أولئك الذين يطالبون بسياسة إيجابية إزاء الهجرة والاندماج وممن ينادون إلى اعتبار ألمانيا بلد هجرة، وقد أسس "معهد أبحاث الهجرة والدراسات المتعددة الثقافات" في أوائل التسعينيات في مدينة أوسنابروك الألمانية، وكان ناشطًا في تقديم المشورة في المجال السياسي باعتباره رئيس مجلس خبراء الجمعيات الألمانية للاندماج والهجرة لسنوات طوال.
ليس شخصًا يشعر بالإهانة من يحاسب زاراتسين
لا بد من أنَّ كلاوس باده قد استاء بشدّة من تعميمات زاراتسين التي كسحت في وقت قصير جدًا أداءه البحثي الذي تطور على مدى عقود. بيد أنَّ قراءة كتاب باده لا تترك الانطباع بأنَّ شخصًا يشعر بالإهانة من يحاسب زاراتسين، حيث يعيد الكتاب تتبَّع النقاش في وسائل الإعلام متقصيًا بموضوعية ونباهة، ويبحث في دوافع المشاركين في النقاش، ويُشرِّح بذكاء وبأسلوب نقدي أصوات مشابهة مثل نجلاء كيليك ورالف غيوردانو وآخرين ممن "ينتقدون الإسلام"، ويضع كل هذا ضمن إطار أبحاث مواضيع الهجرة الجادة.
في الختام يدرس باده العلاقة بين عنف الكلمة وعنف الفعل، ويذهب بجرأة إلى جريمة القتل الجماعي التي قام بها أندرس بريفيك في النرويج وإلى سلسلة جرائم القتل التي قامت بها المجموعة النازية السرية في ألمانيا، فينجح بذلك في عرض تشخيص مثير للوضع النفسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية وفي تقديم مساهمة مهمة حول المزاج الراهن للمشهد الإعلامي الألماني، الذي يشير إلى دلالات أبعد بكثير من قضية زاراتسين الفعلية.
ومع ذلك يغفل كتابه عن جوهر المشكلة، فمن خصوصيات ظاهرة زاراتسين أنَّ أقسى الانتقادات وأكثر الاستنكار وضوحًا لأطروحاته لم يُعِق نجاح كتابه بتاتًا، بل على العكس من ذلك: كلما زادت قوة الرياح المعاكسة، استطاع زاراتسين بسهولة أكثر الادعاء بأنه ضحية هيمنة الحظر الذي تفرضه الكياسة واللباقة السياسية على الفكر وبالتالي تحفّز أكثر لأنْ يكون المتحدث باسم الأغلبية الصامتة.
هكذا ساعده منتقدوه في أنْ يجعل نفسه شهيدًا للتعبير عن حقيقة تبدو وكأنها مكبوتة. وكل محاولة لتفنيد أطروحاته جرى حرفها في لمح البصر لتصبح تأكيدًا على مقولاته. ولم يكن هناك مفر من هذه الآلية.
فشل محزن
ولأننا في هذه الجدليّة الخاصة لا نتعامل مع جانب ثانوي لما يسمّى نقاش أطروحات زاراتسين بل مع جوهره، فإنَّ جهد باده المحترم بلا ريب محكوم بالفشل. ولا بد لملاحظاته من أنْ تبقى بلا تأثير لأنه في إيمانه الكبير بقوة التنوير يغفل عن قوة هذه الجدلّية بسذاجة لا تُعقل.
أشار الفيلسوف النمساوي هوبرت شلايشرت في كتابه "كيف تناقش المتطرفين دون الإصابة بالجنون" إلى آليات عدم جدوى هذه الحجج. إذ يورد في كتابه الذي يحمل العنوان الفرعي "إرشادات إلى الفكر الهدّام" أنَّه : "من الخصائص الأساسية للمتعصب الحقيقي عدم القدرة على التأثير عليه بواسطة أي نوع من الحجج".
ينضح كتاب باده بفشل محزن لأنه يخطئ في تقدير هذه الحالة، إذ لن يقرأه أنصار زاراتسين، وإن فعلوا ذلك فسوف يرون فيه تأكيدًا لمعتقداتهم. كما سيرى خصوم زاراتسين ممن يقرؤون الكتاب بأنه يؤكد على ما يفكرون به. وبالتالي ستأتي محصلة اللعبة الثقافية صفرية. لا تحتاج مواجهة زاراتسين إلى كتب ضخمة، بل إلى الترقّب بصبر. أعود إلى شلايشرت الذي يقول "لا تُدْحَض الآيديولوجيات أو تُهْزَم، بل يعفو عليها الزمن ويجري تجاهلها وتغدو مملة فتُنسى". إذًا دعونا ننساها!
أندرياس بفليتش
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014