حوار موسيقي بآلة السيتار الشرقية والجاز الغربي
سحابة برتقالية اللون يخرج من داخلها رأسُ عازف السيتار هيندول ديب وتظهر في الأعلى نسخة أخرى من الرأس ذاته ولكنها مقلوبة شاقوليًا على محور وهمي غير مرئي مارّ عبر الرأس وأيضًا عبر نسخته المقلوبة - هكذا يبدو الغلاف الخيالي لألبومه الجديد "جوهر الثنائية". ومفهوم الثنائية أو الازدواجية يُمثِّل جوهر هذا الألبوم بالمعنى الموسيقي والمجازي.
"لقد بدأ هذا بثنائية أسلوبين موسيقيين"، مثلما يقول هندول ديب: "فمن ناحية لديّ خلفيَّتي الهندية الكلاسيكية، التي أحضرتها معي إلى ألمانيا، ومن ناحية أخرى الموسيقى المبنية على التناغم. وموسيقى الجاز برأيي مصطلح غامض جدًا من أجل ذلك.
لقد أردت أن أجمع بين هذين العالمين منذ أن كنتُ أستمع وأنا في الصف العاشر إلى برامج عروض آخر الليل على الراديو. ولكنني عندما جئت إلى ألمانيا لاحظتُ أنَّ: الأمر ليس بهذه السهولة على الإطلاق. وكان هناك شيء يجب أن يتغيَّر في داخلي أيضًا، في رأسي، حتى أتمكَّن من الدخول إلى فلسفة الحياة الغربية، التي تشكِّل الموسيقى جزءًا منها فقط".
وهيندول ديب منحدر من عائلة أصلها من غرب البنغال وقد نشأ وكبر في دلهي، وقد تعلم على يدّ والده عزف الموسيقى الهندوستانية الهندية الشمالية على السيتار، الذي أصبح - على أبعد تقدير منذ أن قام الموسيقار الهندي رافي شانكار بتعليم عضو فرقة البيتلز جورج هاريسون العزفَ على هذه الآلة - رمزًا يرمز للغرابة وتم استخدامه مرات لا تحصى كأداة إضافية للزينة في موسيقى الجاز والبوب. ولكن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة لهيندول ديب عندما بدأ عمله المشترك مع موسيقيين ألمان في عام 2012 وانتقل بعد أعوام قليلة إلى مدينة كولونيا الألمانية.
صورة السيتار النمطية
يقول هيندول ديب مؤكِّدًا: "هذا صحيح فمعظم الأشخاص، الذين يتحدَّثون حول السيتار لديهم صوت محدَّد في أذهانهم. لقد انصبّ التركيز دائمًا على الصوت وليس على ما يتم عزفه في الواقع.
وكان من المفترض أن تُنقل إلى المستمعين الغربيين صورة واحدة فقط عن الهند. ولكن الآن مضت أعوام عديدة وحدث الكثير من التبادل من خلال الهجرة وقد حان الوقت من أجل السير في طرق-عبور جديدة".
لقد نفَّذ أفكاره هذه في ألبومه "جوهر الثنائية" (Essence Of Duality) مع فرقته الرباعية المكوَّنة من أربعة عازفين يمنحهم جميعهم مساحة متساوية للتعبير.
تتألف فرقته من عازف الكونترباص كريستيان راموند، الذي يعرف الهند خير معرفة، وعازف الدرامز ينس دوبه وكذلك رفيق دربه منذ فترة طويلة كليمنس أورت على البيانو، الذي لم يُنظِّم معه العديد من المقطوعات الموسيقية وحسب، بل يشاركه أيضًا قناعاته الفنِّية والفلسفية.
أضافت الأوكرانية تمارا لوكاشيفا على بعض عناوين الألبوم نكهة صوتية. ولذلك كيف تبدو الآن بالتحديد طرقُ العبور الجديدة، التي ذكرها هيندول ديب؟ يتكوَّن النظام الموسيقي الهندوستاني من عدد كبير مما نطلق عليه اليوم اسم "سلالم موسيقية"، أي مقامات "الراجا" الهندية، التي يتم عزفها في أوقات معيَّنة من اليوم أو السنة وتثير لدى المستمعين مزاجًا خاصًا جدًا.
صحيح أنَّ هيندول ديب يستخدم مقامات الراجا، ولكنه يدمِّر نظامها الصارم في مواجهته مع الموسيقى الغربية.
وحول ذلك يقول: "استخدمت الراجا كثيرًا في غير أوقاتها اليومية أو السنوية المحدَّدة، وقمت أحيانًا بربط مقامين أو ثلاثة مقامات راجا ببعضها في مقطوعة موسيقية. ودمجتها مع إيقاعات أخرى معروفة من النظام الموسيقي الأوروبي. وأثناء تأليفي اللحن، غيَّرت أيضًا النوتة الموسيقية في سلم الراجا قليلًا، بالإضافة إلى التناغمات الأساسية. ومن خلال ذلك يمكنني الوصول إلى أجراس موسيقية مختلفة اختلافًا تامًا؛ وحتى المستمعين الهنود لم يعودوا قادرين على التعرُّف بسهولة على مقامات الراجا بحسب كلّ قطعة موسيقية".
ثقب أسود يبتلع صوت السيتار
ومن بين الأمثلة على هذا التأليف الموسيقي مقطوعة "رحلة مجهولة"، التي تعتمد على [مقام] الراجا بورفي، ولكن هيندول ديب قام بعصره عصرًا. وفي المقابل تعرض مقطوعة "غيوم الصحراء" راجا موسم الأمطار "ميان كي مالهار" من دون تغييره إلى أبعد حدّ وهي أقلّ تعقيدًا من تركيزها على اللحن.
لم تكن جلسات ألبوم هيندول ديب "جوهر الثانية" خالية من الصعوبات. فقد كان لدى الموسيقيين الألمان صعوبات ولا سيما مع تعدُّد الإيقاعات الهندية المعقَّد "تالاس". وفي هذا الصدد ذكر هندول ديب بابتسامة كيف كانوا لا يزالون يؤمنون لفترة طويلة جدًا أثناء التدريبات "بعزفهم".
يبلغ الاضطراب الإيقاعي أقصى حدوده مثلًا في المقطوعة المعنونة بالعنوان المناسب "داخل مُجَزَّأ"، التي تتغيَّر فيها النغمات من إيقاع إلى آخر وتتداخل في أوزان موسيقية مختلفة. ومن أجمل مقطوعات ألبوم "جوهر الثنائية" مقطوعة "رحلة إلى كدرناث"، التي تحاكي رحلة إلى جبال الهيمالايا. لم يستخدم هيندول ديب هنا راجا كدار وحده كنقطة انطلاق، بل استغل كذلك مصدرًا غير متوقع تمامًا، وهو صوت باس خاص بالثلاثي إسبيورن سفينسون.
يعيش ديب هيندول في ألمانيا منذ خمسة أعوام ونصف العام، وقد عمل في كلِّ أنواع الموسيقى وأشكالها تقريبًا. وهذا يثير حتمًا السؤال إن كان قد مرّ ذات يوم في مكان ما بتصادم ثقافي لا يمكن التغلب عليه؟
وفي هذا الصدد يذكر مثالًا من الموسيقى الجديدة: "أثناء دراستي في المعهد العالي للموسيقى في كولونيا، شاركت في مشروع مع أكثر من عشرة موسيقيين، لقد كانت موسيقى للمسرح وكانت موضَّحة في رسوم بيانية. وكان الجميع يعزفون بشكل متزامن ولم تكن توجد نوتات، بل كان يوجد صوت فقط. وقلتُ لنفسي: يا إلهي، ما الذي أفعله هنا؟ لم تكن توجد أية فرصة لسماع عزفي على السيتار. لقد كان ذلك مثل ثقب أسود يبتلع صوت آلتي كله".
وهذا الخطر غير موجود في ألبومه الأوَّل "جوهر الثنائية": لأنَّ هذا الألبوم عمل متوازن يتيح المجال لسماع جميع العازفين. ومن خلال هذا بالذات ينجح في تقديم الوجوه المتعدِّدة في حوار جديد بين الشرق والغرب.
شتيفان فرانتسن
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022