الإعلام المصري بعد مرسي...عودة إلى خدمة الحكم السلطوي
خلال العام الذي حكم فيه محمد مرسي مصر، عاشت البلاد مرحلة استقطاب سياسي ومجتمعي هائلة لم تعكسها وسائل الإعلام في البلاد وحسب، بل وأذكت نارها أيضاً.
النمو الكبير في عدد المؤسسات الإعلامية الخاصة بمصر منذ سنة 2011 كان يمكن قراءته من ناحية على أنه دليل ثقافة سياسية حية، ومن ناحية أخرى كان أيضاً نتاجاً لهيكل موروث عن النظام القديم لم تطرأ عليه أي تغييرات تُذكر، فتح المجال أمام حالة الاستقطاب.
ففي عهد مبارك، شهدت مصر تحرراً في قطاع الإعلام الجماهيري. ومنذ سنة 2000، تم السماح لقنوات التلفزيون والإذاعة الخاصة بالعمل في مصر. ومنذ سنة 2003، خرجت صحف "المصري اليوم" و"الدستور" كأول صحف خاصة في السوق.
طفرة الإعلام والتوازي السياسي
وبالتوازي مع العدد الكبير من المدونات والمنتديات في الشبكات الاجتماعية، ساهمت وسائل الإعلام هذه في خلق تعددية إعلامية حقة، على عكس دول أخرى في المنطقة مثل ليبيا وتونس.هذه التعددية هي التي شكلت الأرض الخصبة التي استخدمها الناشطون للحشد الشعبي في ثورة 25 يناير.
لكن على المدى البعيد، باتت قدرة هذه الهياكل على الصمود مشكلة بالنسبة لعملية الانتقال الديمقراطي. وبالنظر إلى دول مثل إيطاليا، التي تتميز بتعاون وثيق بين أحزاب بعينها ونخب سياسية وبين وسائل الإعلام، يتحدث علماء الاتصال عن "تواز سياسي" قوي. ويمكن أيضاً ملاحظة التوازي السياسي في مصر، وذلك من خلال امتلاك كل فصيل سياسي - من الإخوان المسلمين وحتى الحزب الناصري - لوسيلة إعلام خاصة به تحاول تقديم تفسيرها الخاص للأحداث إلى المواطنين.
ترابط بين الإعلام والسياسة
وإلى جانب وسائل الإعلام هذه، التي توصف بالإعلام الحزبي وتعتبر جزءاً من السياسة المصرية منذ السبعينيات، هناك وسائل الإعلام ذات التمويل الخاص، التي يمتلكها في أغلب الأحيان أقطاب الاقتصاد في البلاد. في وسائل الإعلام الخاصة، تختلط المصالح الاقتصادية بالسياسية، مثلما هو الحال بالنسبة لزعيم حزب الوفد، سيد البدوي، الذي يقوم بدعاية ضخمة لحزبه عبر مجموعة قنوات "الحياة" وصحيفة "الوفد" التي يمتلكهما، بل ويسوّق فيهما منتجاته الدوائية أيضاً.
أما نجيب ساويرس، الذي يعتبر من أقطاب الاتصالات في مصر ومؤسس حزب المصريين الأحرار، فهو يقف خلف قناة "أون تي في" ويمتلك جزءاً كبيراً من أسهم أبرز الصحف المصرية، ألا وهي "المصري اليوم". هذه الصحيفة، التي اشتُهرت بتقاريرها الناقدة، باتت الآن منبراً لساويرس وشركات أخرى.
وإلى جانب التوازي السياسي في مصر، هناك أيضاً بعد آخر للترابط بين هياكل الإعلام والسياسة. فأقطاب الاقتصاد لهم مصالح خاصة ذات تأثيرات سياسية غير مباشرة. وبينما كانت النخبة الاقتصادية في عهد مبارك على ارتباط وثيق بالنخبة السياسية، تجذّرت الآن ثقافة من الولاء تجاه أولئك القادرين على رفع أكبر عدد من القيود المفروضة على نشاطات الشركات وفي نفس الوقت تقديم أفضل حماية لمصالحها التجارية.
وحتى عندما لم يقف الإخوان المسلمون في وجه مفهوم الاقتصاد النيوليبرالي، بقي أقطاب الاقتصاد محافظين على ثقتهم في المؤسسة العسكرية وإمبراطورياتها الاقتصادية. على سبيل المثال، كانت تربط أحمد بهجت، الذي أسس سنة 2001 مجموعة قنوات "دريم" التلفزيونية، علاقات وثيقة بأبناء حسني مبارك، وقام بعد ثورة 2011 بطرد صحفيين من قناته انتقدوا قيادات الجيش المصري.
محمد الأمين أيضاً، الذي يمتلك صحيفة "الوطن" وقناة "سي بي سي" التلفزيونية، التي كانت تحتضن برنامج الكوميدي الناقد باسم يوسف، يعتبر أحد المنتفعين من نظام مبارك.
حشد إعلامي ضد الإخوان المسلمين
حين يدعي الإخوان المسلمون أن هذه القنوات حشدت الرأي العام ضد حكمهم من خلال تقارير إعلامية ناقدة، فإن هذا الادعاء صحيح. كما أن دعم نجيب ساويرس المالي واللوجستي لحركة جمع التواقيع المناوئة لمرسي والمعروفة باسم "تمرد" دليل على مدى استغلال الإعلام الشعبي من أجل المصالح الفردية.
إن الإخوان المسلمين ليسوا مسؤولين وحدهم عن بقاء التفكير التحزبي واستقوائه في قطاع الإعلام المصري. فالإخوان، من خلال قناتهم "مصر 25" وجرائدهم الخاصة وشبكة المواقع الإلكترونية التي يمتلكونها، أسسوا وسائل إعلام خاصة بهم تركز على الدعاية لهم بدلاً من التفاوض مع الطرف الآخر.
ومن خلال التحيّز الواضح من قبل قناة "الجزيرة مصر مباشر" الممولة قطرياً لصالح الإخوان المسلمين، كان بالإمكان اتهام الجماعة بأنها تتلقى أوامر من أطراف خارجية. وفي ظل اعتبارهم أن وسائل الإعلام ترسم صورة شريرة عنهم، بدا رد فعل مرسي والإخوان على الانتقادات الموجهة لهم في وسائل الإعلام وكأنه هستيري، لاسيما في ظل التهديدات بإغلاق قنوات والاعتداء على صحفيين.
كما فشل الإخوان في إصلاح وسائل الإعلام الحكومية ذات الصدى الواسع، خاصة التلفزيون الحكومي وصحيفة "الأهرام"، التي تشرف عليها لجنة خاصة في البرلمان. وحتى لو اعترفنا بأن هذه المهمة صعبة للغاية، فإن الإخوان المسلمين حاولوا على الأقل تحويل هذه الوسائل لتدعم سياساتهم، من خلال تعيين رؤساء جدد للتحرير، على أمل ترجيح كفة الميزان لصالحهم في مقابل معسكر معارضيهم.
على طريق السيطرة على الإعلام
كما أن تأسيس هيئة إذاعة وتلفزيون حكومية تمثل أكبر عدد ممكن من الشرائح المجتمعية لم يتحقق. وبدلاً من ذلك، تقوم الحكومة الانتقالية والمؤسسة العسكرية من وراء الكواليس بتوجيه وسائل الإعلام الحكومية سياسياً وأيديولوجياً بناءً على أهوائها.
إن التفكير التحزبي والترويج للمصالح الفردية، المتجذّريْن أساساً في الهياكل الإعلامية ولدى النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية في البلاد كجزء من ثقافة الإعلام، كان سبب نجاح الجيش في السيطرة على وسائل الإعلام بعد عزل مرسي دون أية مقاومة تذكر من قبل الصحفيين وصنّاع الإعلام.
ولذلك، فقد أدت التعددية الإعلامية، التي يفترض أن تكون مؤشراً جيداً بالنسبة للمجتمع، إلى إعادة الحكم السلطوي لمصر، وذلك بسبب الأخطاء التي رافقت عملية خلق مساحات بناء الرأي، مثل هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمية والارتفاع الكبير لتمثيل المصالح الفردية.
أما تبرير إغلاق عدد من محطات التلفزيون والصحف والاعتداء على مؤسسات الإعلام الأجنبية بحجة مكافحة التحريض والإرهاب ومنع التآمر على مصر، فإنه يذكر بأوقات مضت.
لذلك، من المأمول أن ينظر الصحفيون وصنّاع الإعلام بشكل ناقد إلى الأحداث الأخيرة وأن يستغلوا القوة التي منحتهم إياها التغيرات بعد سنة 2011 للنأي بأنفسهم عن المصالح الفردية والمساعدة على تخطي حالة الاستقطاب من خلال إصلاح الهياكل الإعلامية في البلاد.
كارولا ريشتر
ترجمة: ياسر أبو معيلق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013