محو الخط الفاصل بين القدسين الغربية والشرقية
نكاد لا نجد مدينة في العالم، تطغى القضايا والصراعات السياسيَّة على حيزها العام إلى هذا الحد الكبير، كما هي الحال في مدينة القدس. بيد أنه لا يمكن للوهلة الأولى رؤية سوى جزءٍ صغيرٍ من الظواهر المرتبطة بذلك. ولا يتَّضح الكثير من الأمور، إلّا حين التجوال في المدينة بعين يَقِظَة، وطرح الأسئلة وتجميع قطع الأحجية.
يتضارب في مدينة القدس الحلم الصهيوني اليهودي بقدسٍ موحَّدةٍ، مع حق الفلسطينيين في جعل القدس الشرقيَّة، بما يشمل البلدة القديمة عاصمة لهم، ما يفضي إلى تينتائج وخيمة على جغرافية المدينة.
تتكوَّن القدس بموجب القانون الدولي حتى اليوم من قسمين: القدس الغربيَّة والقدس الشرقيَّة. وكانت المدينة قد قُسِّمت في الحرب الإسرائيليَّة العربيَّة الأولى عام 1948/1949، لدى احتلال الأردن للمدينة القديمة والأحياء المجاورة لها. خط وقف إطلاق النار، المعروف أيضًا باسم "الخط الأخضر"، كان يمرُّ عبر المدينة وكان هناك سور يقوم على جزء كبير منه.
مناطق واسعة حول أسوار المدينة القديمة على وجه الخصوص، تمّ إعلانها مناطق منزوعة السيادة، وكانت بمثابة مناطق عازلة بين الجانبين. غزت إسرائيل المدينة القديمة واحتلتها في حرب الأيام الستة في عام 1967، الأمر الذي حقَّق الحلم بمدينة قدس يهوديَّة موَّحدة. ثم ضمت إسرائيل القدس الشرقيَّة في عام 1980 منتهكة بذلك القانون الدولي.
مأمن الله على "الخط الأخضر"
يمتد حي مأمن الله على طول "الخط الأخضر" في غرب المدينة القديمة في النهاية العلويَّة لوادي ربابة (وادي هنوم). وهو يشكِّل منذ أوائل القرن العشرين جسرًا نحو المدينة القديمة. كان الحي في ذلك الوقت حيًا تجاريًا مختلطًا للعرب واليهود. وكان بمثابة امتداد للأسواق الضيقة والمزدحمة في المدينة القديمة.
بعد "حرب الاستقلال" غدا قسم من الحي في المنطقة منزوعة السيادة والقسم الآخر تحت السيطرة الإسرائيليَّة، ولكن في مرمى القناصة الأردنيين. وكان أغلب الذين سكنوا هناك من اليهود الفقراء المهاجرين من البلدان العربيَّة. وبعد عام 1967 هُدمت بعض المباني المتداعية. وفي نهاية الستينيات شكَّل محافظ مدينة القدس تيدي كوليك لجنةً لكي تضع مخططات مدنيَّة للحي بغية تجاوز تقسيم المدينة.
استغرق الأمر حتى أواخر الثمانينيات ثم شُرِعَ بتنفيذ المشاريع الأولى التي جاءت على شكل مجمعاتٍ سكنيَّةٍ ذات جودةٍ عاليةٍ، تستهدف الزبائن الأثرياء من الخارج وتتكوَّن من "أحياء سكنيَّةٍ مغلقةٍ": وحداتٌ سكنيَّةٌ مغلقةٌ تحمل أسماء رنَّانة مثل "قرية داوُد" أو "ميراث" وتحرسها شركة أمنيَّة خاصة. هذه المساكن فارغة من السكان في معظم أشهر السنة، ولذلك أطلق على الحي استنكارًا اسم "مدينة الأشباح".
يتّسم حي مأمن الله اليوم بظاهرتين إضافيتين: مركز التسوق ألروف ماميلا ومباني الفنادق الفخمة. تمَّ افتتاح مركز التسوق عام 2007 وهو متنزه في الهواء الطلق يشمل فروع لشركات الأزياء العالميَّة ومحلات تجاريَّة بضائعها باهظة الثمن. كل المباني مكسوة بحجر جيري أبيض من المنطقة كما هي حال كل بيوت القدس. كما جرى إزاحة بعض المباني التاريخيَّة، لكي تشيَّد ثانية حجرًا حجرًا على موقع آخر. واستُكمل المجمَّع بفندقين خمس نجوم بُنِيا حديثًا هما فندق قلعة داوُد وفندق ماميلا القدس.
أسطورة داوُد
ثمة نقطة مرجعيَّة هامة، لا بالنسبة لحي مأمن الله وحسب، بل أيضًا لتطوير ووضع الخطط الجديدة لمدينة القدس من الناحية السياسيَّة والبصريَّة، هي ما يسمَّى "برج داوُد". يشار بهذا إلى مئذنة من القرن السادس عشر، ترتفع على برج قلعة على حافة المدينة القديمة تعود للملك هيرودس (القرن الأول قبل الميلاد). نُسِبَت القلعة في القرن التاسع عشر خطأً إلى الملك داوُد إحدى الشخصيات الأسطوريَّة في الدين اليهودي. ويمكن ملاحظة أهميَّة داوُد الرمزيَّة في تسمية المشاريع الجديدة مثل قرية داوُد أو فندق قلعة داوُد.
ويرتبط بذلك استخدام البرج كرمزٍ بصريٍ في سياق استعراض المشاريع. ومن جهة أخرى يستند التصميم المعماري بدوره على ذلك، الأمر الذي يتَّضح في اتجاه محاور زقاق حي مأمن الله المركزي المتجهة نحو البرج. يتحدث في هذا السياق بعض المؤلفين عن "تهويد" المدينة.
أحد التأثيرات الجوهريَّة التي يمكن ملاحظتها للإجراءات المقامة حول حي مأمن الله، هو محو أي إشارة في معالم المدينة إلى الخط الفاصل بين القدس الغربيَّة والقدس الشرقيَّة. ويشمل هذا ضم المناطق المنزوعة السيادة وتحويلها إلى رأسمال، على شكل مركز تسوّق و مرآب لركن السيارات تابع للمركز على سبيل المثال.
لكن المنطقة التي بلا سيادة لا تزال قائمة بموجب القانون الدولي حتى يومنا هذا، ويمكن رؤيتها في الخرائط، ومنها مثلًا خرائط غوغل. هذه الحالة دفعت الفنان الإسرائيلي غاي بريلر عام 2011، إلى إعادة مسح المنطقة وجعلها مادةً لعمله. وقَدَّم أعماله الفنيَّة مع فنانين أصدقاء في المنطقة منزوعة السيادة، ليلفت من خلال النشاط الفني في الفضاء العام الانتباه إلى وجودها وإلى الحساسيَّة السياسيَّة الراهنة للمكان.
العقارات الفاخرة وسياحة "الأرض المقدسة"
إن أسلوب الاشتغال البصري على المدينة القديمة انطلاقًا من القسم الغربي من المدينة بوسائل منها تطوير تخطيط المدينة في حي مأمن الله أو في المنتزهات التي تحيط بأسوار المدينة وتمتد بين السور و "الأحياء السكنيَّة المغلقة" في وادي ربابة، تعتمد على التصوُّرات الغربيَّة للقدس "الأصيلة".
تقول في هذا السياق أستاذة العمارة الإسرائيليَّة ألونا نيتسان شيفتان، يجري بذلك إعادة إنتاج مفهوم "المدينة الجميلة"، كما هي موجودة في الحداثة الغربيَّة. وهذا يعني في نهاية المطاف تنفيذ الحلم اليهودي – الصهيوني بقدس يهوديَّة أُعيد توحيدها. بالإضافة إلى تعزيز خطابٍ سياسيٍ عرقيٍ - قوميٍ في إسرائيل، يستفيد قطاع العقارات الفخمة وكذلك سياحة "الأرض المقدسة" التي يمارسها من يأتي إلى المنطقة باحثًا عن جذور الغرب اليهوديَّة المسيحيَّة.
بالإضافة إلى ذلك ينبغي النظر إلى هذه الظواهر في سياقٍ اجتماعيٍ سياسيٍ أوسع يقع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتحوُّل إسرائيل الاقتصادي في مركزه.
فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، تتماشى إجراءات تخطيط المدينة التي يمكن ملاحظتها في القدس، وفقًا لدراسة أجرتها دانا هيرسبرغ بمعية حاييم نوي، مع الإعراض عن تسوية تفاوضيَّة والاتجاه نحو سياسة فصلٍ أحاديَّة الجانب من قِبَلِ إسرائيل.
ومن الناحية الاقتصادي تَظهر نتائج الممارسات الليبراليَّة الجديدة في فتح سوق العقارات أمام رؤوس الأموال الأجنبيَّة وخصخصة الحيز العام مثلاً. أما عواقب هذا وتأثيره على النسيج الاجتماعي في المدينة فلا يمكن التنبؤ بها بعد.
فيليكس كولترمان
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de 2016