ولادة حاضنات ثقافية للسلام في قلب بغداد
طالما ارتبط المثقفون العراقيون بشارع الوراقين الموروث من العصر التركي وبشارع المكتبات وشارع الرشيد العريق في قلب بغداد والتي ازدهرت وعُرفت بعد الاحتلال البريطاني مطلع القرن العشرين بمكتباتٍ وفنادق ومقاهٍ وصالاتِ عرضٍ سينمائي وبيوت لذةٍ وكباريهات وكازينوهات. هنا سكنت وغنت أم كلثوم حين زارت بغداد، ومحمد عبد الوهاب حين غنى في ضيافة الملك فيصل الأول الهاشمي عاهل العراق آنذاك، وفايزة أحمد ومحمد عبد المطلب حين اشتغلا في كباريهات الأوبرج والأندلس ببغداد وعشرات الأسماء الأخرى في سماء الإبداع العربي. ولمن لا يعرف المنطقة فالمتنبي زقاق يتفرع عن شارع الرشيد، ويفصله عن نهر دجلة مبنى القشلة وهي بقايا قصر الوالي التركي، وشارع السراي وهو امتداد لشارع الوراقين الذي يسميه العراقيون سوق القرطاسية. لكنّ شارع المتنبي والمنطقة برمتها قد غلفها الإهمال فانسدت مساراتها والطرق المؤدية إليها، وفارق المتنبي الأمان بعد تفجيرين مجهولي الفاعل مزقا أحشاء مكتباته وأسالا دماء رواده، فتوارى ألقه وغادرته العافية. أما المقاهي الثقافية التابعة له، مقهى الشابندر، مقهى حسن عجمي، مقهى البرلمان، مقهى الزهاوي والمنتشرة في شارع الرشيد وهو الشارع الأم الذي يتفرع عنه المتنبي فقد تآكل عمرانها، وباتت مبانيَ آيلة للسقوط تفتقر إلى النظافة وتعوزها تسهيلات الاتصال الحديثة ولا تجتذب جيل الشباب المرتبط بإعلام منفتح عبر وسائل الاتصال العصرية وعالم المعلوماتية والسايبر. وهكذا ولدت في "الكرادة الشرقية داخل"، وهو حيٌ أنيق من العاصمة، حاضنات ثقافية وفنية أخرى بعد التغيير في عام 2003، فتوالت بسرعة فائقة مقاهي، ابن رضا علوان، ونازك الملائكة، وقهوة وكتاب. كما دبت في الشوارع المؤدية إلى شريان الكرادة الرئيسي مجتمعات ومراكز نشاط اجتماعي وثقافي غير ربحية يصنعها ويديرها ناشطون شباب يرومون التغيير بعيدا عن أروقة السلطة والاستقطاب الطائفي والعرقي والسياسي.
مقهى ابن رضا علوان عام 2012 حقق ابن رضا علوان الأصغر علاء نقلة كبرى إلى الأمام حين حوّل جزءاً كبيراً من أسواق رضا علوان التي طالما تبضع منها العراقيون على مدى أكثر من نصف قرن إلى ملتقى ثقافي مضيفاً إليها طابقاً ثانياً ومساحة واسعة كمقهى للرصيف، فيما بقي على ضفة الزقاق الأخرى محل بيع القهوة الشهير التابع لأسواق رضا علوان القديمة والتي عُرفت في بغداد كماركة معروفة يفضّلها كثيرون، وهو ما يفخر به مؤسس المشروع علاء في حديثه لموقع قنطرة. وفي تعريفه لفكرة المشروع يقول علاء: "كنت أعيش في لبنان منذ عام 1994، وعدت الى العراق عام 2012 حيث كان حلمي أن أؤسس مقهى للمثقفين في بغداد، لأنّ سنوات الحروب التي عاشها البلد في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وفي العقد الأول من الألفية الثالثة حَرمت الناس من أجواء كهذه". وأشار علاء رضا علوان الى أنّه قد سمع من ذويه أن ظاهرة النوادي الثقافية كانت مألوفة في خمسينيات وستينات وسبعينات القرن العشرين، ولها روادها الدائمون، لكنها ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في أيلول / سبتمبر عام 1980 تلاشت واندثرت. بات المقهى مركز نشاط اجتماعي لكثير من الناس خارج تعريف النشاط الثقافي، اذ تشهد أرجاؤه حفلات توقيع كتب ودواوين شعر، ومعارض رسم، ومعارض تصوير فوتوغرافي، ومعارض وأسواق بيع منتجات يدوية فنية في النقوش والزخرفة والحياكة والصناعات الجلدية. كما وسّع صاحب المشروع نشاطه الى فعاليات خيرية تطال عوائدها كثيراً من فقراء المنطقة، على حد وصفه.
ولا يقتصر زوار المكان على المثقفين والمهتمين بقضايا الفن والإبداع، بل أنّ سكان منطقة الكرادة الشرقية الحيوية الضاجّة بالنشاط والمال والحركة رجالاً ونساء يزورونه بانتظام ليتمتعوا بأجوائه. الانطباع الذي يخرج به من يزور مقهى ابن رضا علوان، أنّه نادٍ اجتماعي وثقافي عام وليس حكراً على النخبة المثقفة، وهذا يتفق تماماً مع أهداف مؤسس المشروع كما أكد في حواره مع موقع قنطرة. مقهى نازك الملائكة قريبا من ضفة دجلة الشرقية قبل الدخول إلى شارع أبو نؤاس (كورنيش الكرادة الشرقية) انطلق مطلع عام 2017 مقهى نازك الملائكة. الفكرة أطلقها الدكتور عبد جاسم الساعدي وزوجته الدكتورة منى كاظم وابنهما، بعد أن عاد الوالدان من لندن حيث يقيمان ويعملان في مجال التدريس الجامعي. المقهى يشغل بيتا فسيحا كاملا يملكه الزوجان، ونجحا في تحويله الى صرح ثقافي يجمع المهتمين بالفكر والفن والثقافة، فولد هذا المشروع. على الجدران صور لعشرات المبدعين العراقيين وبعض المبدعين العالميين، فيما يبث جهاز التسجيل أنغاماً وأغانيَ منوعة طيلة اليوم. البيت يحتوي على قاعة اجتماعات كبيرة في الطابق الثاني، وقاعة فعاليات ومسرح متوسط الحجم في الطابق الأول وعلى صوامع منفصلة عن بعضها في الطابقين يمكن أن يلوذ بها زوار المكان الراغبون في القراءة أو الحوار.
شعور السكينة والهدوء يخيم على المكان ويُلزم زائريه أن يتحاوروا أو يدردشوا بنبرة هادئة وصوت خفيض. خارج البيت طارمة "تراس" فيه أرائك يجلس عليها زوار المكان وينشغلون بالحديث أو القراءة، وتتوسطهم طاولة نحاسية عليها إبريق ومنقلة من سوق الصفافير البغدادي العريق. في يمين مدخل التراس، منضدة صُفت عليها كتب للقراءة والإهداء، وبعضها وضعت عليه أسعار رمزية. الكتب تبرعات من كتاب أو قراء أو من عشاق الورق والكلمات. ركن باحة المقهى الداخلية اليمنى يضم بوفية يقف إليها بعض العاملين على خدمة الزبائن، المعروض هنا مشروبات غير كحولية، ومعجنات بأسعار مناسبة لا تثقل كاهل زوار المكان، وإلى جانب العاملين يجلس عادة د. عبد جاسم أو زوجته د. منى، مقهى يديره أستاذا جامعة بدرجة دكتوراه، لابد أن يضم جمهورا خاصا.
أغلب رواد مقهى نازك الملائكة جاوز الخمسين من العمر، لكنّ مساحة للشباب وحتى للمراهقين والصغار ما زالت باقية. كثيرات من زائرات المكان، يجلسن وحدهن أو ينخرطن في حوار مع زوار آخرين في مناقشة لقضية أدبية أو حتى سياسية لأحد الشؤون. في نيسان/ أبريل 2018 كانت الانتخابات موضوع حديث حاضر دائما، ولكنّه ليس طاغياً على المشهد. نوع الحوارات ومناخ المكان يخرج بالزائرين من محيط العاصمة العراقية الضاجّة بالمواصلات والمرتبكة بانعدام الخدمات، إلى عالم مسالم ينشغل سكانه بهموم الفكر والجمال والوعي. في حديثه لموقع قنطرة وصف د. عبد جاسم كاظم الساعدي نفسه بأنه حالم كبير، وقد حقق جزءاً من أحلامه في مشاريع ثقافية وتعليمية أقامها في العراق منذ التغيير في عام 2003، وعرّف مشروع المقهى بالقول:"هذا المكان هو مركز ثقافي، فهو مقر جمعية الثقافة للجميع، ومنها انطلق مقهى نازك الملائكة، وشعرنا بضرورة العمل من خلاله مع المثقفين ومع الشباب، ونحن نعمل عليه منذ عام ونبذل الجهود لجمع الناس إلى بعضهم. كبار الفلاسفة سموا هذه اللقاءات عشقا وحبا". ولابد من الإشارة هنا، أنّ المقهى الواقع في شارع حسينية التميمي بمنطقة أرخيته في الكرادة الشرقية، لا يبعد سوى 400 متر عن البيت الذي كبرت فيه نازك الملائكة وترعرعت واشتهرت وكان يقع في محلة أبو قلام المعروفة. ويستضيف المقهى مسرحيات ومعارض صور ومعارض كتب وحفلات توقيع روايات ودواوين شعر، وإلى ذلك يشير الساعدي: "فكرة المقهى مستوحاة من المقاهي البغدادية القديمة". إبان هذا الحديث تتناهي إلى مسامع زوار المكان، أغانٍ قديمة وحديثة عربية وعراقية، عبر جهاز التسجيل ما يضفي على المكان جواً من الألفة. وأعربت الدكتورة منى كاظم عن سرورها لمستوى النجاح الذي يحققه المكان، وأثنت على الجانب الاجتماعي فيه، حيث أمسى ملتقى للحالمين بعراق أفضل، وأبدت سرورها أنّ عائداته البسيطة بدأت تسد تكاليفه، ما قد يتيح للمشروع استدامة مفيدة، لكنها عادت واشتكت من سلبيات تخص إدارة العمل، ومنها اعتقاد بعض الزبائن أنّ المكان مؤسسة خيرية، فيشربون قهوتهم ويأكلون قطعة الغاتو ويغادرون المكان دون حساب، ومنها إهمال البعض، وسوء استخدامهم للمرافق الصحية، وعدم إعادة ترتيب أماكنهم وعدم إعادة الكتب التي سحبوها من الرفوف إلى أماكنها قبل مغادرتهم.
كهوة (قهوة) وكتاب - دار عدنان مقهى آخر بعين ترنو إلى المثقفين العراقيين، في محاولة حثيثة لكسر نمطية التحريم ومنع الاختلاط واحتكار النخبة. جغرافياً، لا يبتعد "كهوة وكتاب - بيت عدنان" عن المقهيين الآخرين سوى بضعة عشرات الأمتار. زوّاره من الجنسين، يتحركون بحرية من خلال ألفة التفت حول سلوكهم بسبب كثرة ترددهم عليه. المقاعد والمناضد والطاولات والزوايا جميلة ومؤثثة بطريقة عصرية مبتكرة. الوجوه التي تجدها في مقهى رضا علوان ومقهى نازك الملائكة لا تصادفها هنا. ما يعني أنّ لكل مقهى جمهوره، هنا يتردد الشعراء الشعبيون، والشعراء الغنائيون، والمصورون الفوتوغرافيون، ومونتيرات ومصورو ومخرجو وممثلو التلفزيون بشكل رئيس. الموسيقيون وعشاق الغناء يحيون هنا مناسبات عديدة، ولا يكاد يمر أسبوع دون حفلة من هذا النوع. كما يحيي الشعراء الشعبيون أماسيَ وأصبوحات عدة خلال الأسبوع، أو يحتفلون بتوقيع دواوينهم. غير هذا الجمهور يكتظ المكان بالجامعيين، طلبة وطالبات وأغلبهم من طلبة الكليات الإنسانية ومعاهد الفنون، وإلى جانبهم تتردد نخبة قليلة من الأساتذة الجامعيين، الذين يترددون غالبا على المقهيين الآخرين أيضاً.
صفحة المقهى على فيسبوك لها خمسة وثلاثون ألف متابع [حتى كتابة هذه السطور]، ولكنها مقلّة في البوستات، فتعلن عن فعاليات المقهى المقبلة، وتشيد دائما بقهوة المكان. يوم 26 نيسان/ أبريل 2018 ، كان البوست: "قهوة في الصباح وقهوة في المساء، وقهوة عند الصداع، عند الأرق، عند التوتر، عند الغضب، حتى عند الروقان والمزاج المعتدل قهوة". بيت السلام العراقي بيت كبير قديم في شوارع الكرادة الشرقية، لا يبعد سوى بضعة مئات الأمتار عن المقاهي الثقافية، على الباب لافتة كتب عليها IQPEACE ثم تتبعها لافتة صغيرة كتب عليها CENTER . البيت يضج بالحركة، في إحدى الغرف يتدرب فريق موسيقي، وفي غرفة أخرى يتدرب فريق مسرح، فيما قادنا مؤسس المشروع قيصر الورد عبر البيت شارحا فعالياته. المهم في المبادرة أنها مجانية، قائمة على تبرعات المشاركين، والمركز يوفر لمن يرغب فرصا لمعرض فني، أو نشاط أدبي أو موسيقي أو ثقافي، وله أن يدفع مشاركة أو لا. صاحب البيت أجره لصاحب المبادرة بمبلغ رمزي كما تحدث قيصر لموقع قنطرة: "أنا كنّاسُ هذا المكان النبيل، ولست مديرا وأرفض هذا اللقب، هذا مكان شبابي يروج لمشروع السلام في بغداد، ويتوحد فيه كل شباب بغداد. وقد سبقه مشروع شبيه أصغر منه أقمناه في كراج صغير، ثم حصلنا على البيت البغدادي الذي يبلغ عمره أكثر من تسعين عاما، ونقلنا إليه نشاطنا. ونحن ندفع إيجار المكان الزهيد نسبيا من خلال شراكة مع شركات ربحية نعد لهم إعلانات لمنتجاتهم، كما ندفع اشتراكات شهرية -نحن المنتسبين- وتتراكم لتمويل المشروع". المكان تملؤه الأخشاب وقطع الأثاث المحورة وإطارات السيارات، المتغيرة وظيفتها، فباتت مقاعد أو مساحات ترابية لزراعة الأصص والورود، وفيه زاوية أنيقة مفروشة أرضيتها بالخشب المكسو بالإسفنج. وتغطيه مفارش زرقاء جميلة. عن هذه المظاهر يقول قيصر: "شعارنا هنا أعمل بالممكن، لا شيء جديد ولا نشتري شيئاً، بل كله معاد ومستعمل".
مشاريع تظهر كل يوم في بغداد لتغير جغرافية الثقافة والعلوم وجمهورها، ومنها، بيت تركيب الذي يعرّف نفسه بأنه غاليري فني، وموقعه كورنيش الكرادة "أبو نؤاس" ليس بعيدا عن الفعاليات الأخرى. وهو مشروع ناشطين شباب يفتح أبوابه للكفاءات الفنية، والقدرات النامية ، ومثله غاليري مدارات. الباقي من المشهد الثقافي القديم هو اتحاد الأدباء العراقيين الذي ما عاد يمثل الشباب ولا الثقافة الجديدة ولا تقنيات العصر الرقمي ولا يواكبها، لذا فقد بريقه وتضاءل جمهوره، حتى بات مكانا يعرض فيه الأكاديميون أطروحاتهم الجامعية. ملهم الملائكة - بغدادحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de