بغداد...كنز الزمان المتواري في العتمة
ليس الوصول إلى بغداد برا على وجه الخصوص أمرا يسيرا، فالطرق الوافدة اليها من غرب، وشمال غرب، وبعض شمال شرق العراق أغلبها مقطوعة، وما تبقى من الطرق بعيدة المرتقى عن الحواضر الأوروبية والعربية، فيما الطريق الواصل من غرب إيران عند معبر (بدرة وجصان) قد أتلفته الشاحنات والحافلات الثقيلة فبات الناس يسيرون بحذائه وليس فوقه غالبا. وفوق ذلك فهو بعيد جدا عن أي مطار إيراني دولي يمكن أن يقصده المسافر الوافد من خارج البلد، ليتجه بعدها برا إلى بغداد. لكن موضوعنا ليس الوصول إلى العاصمة العراقية، بل العاصمة بذاتها. القطارات بطيئة ولا توجد سكك حديد توصلها بالسكك الدولية، فلم يبق إذاً إلا مطار بغداد و له قصة أخرى.
قد يظلم المرء بغداد إن سمّاها عاصمة لدولة، فهي عاصمة امبراطورية (العباسيين) ، ولا بد أن نقارنها بقريناتها من عواصم الامبراطوريات إذا أردنا إنصافها، ومنها دمشق عاصمة الامبراطورية الأموية، واسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية (وقبلها البيزنطية الشرقية) وأثينا عاصمة الإغريق. لكن سؤالا كبيرا يباغت زائر المدينة، أين ماضيها؟ أين بقايا الرشيد والمنصور والمأمون والأمين والمعتصم ومن تلاهم؟ أين آثار الدولة العراقية الحديثة؟
مدينة الجسور الاثني عشر
ما يستوقف الزائر لعاصمة الملايين السبعة للوهلة الأولى جسورها الاثنا عشر، التي تقصّر المسافات بين ضفتي دجلة، وتقرّب الناس الى مقاصدهم في المدينة المترامية الأطراف، ومع ذلك فإن الوصول من شمال غرب بغداد إلى جنوب شرقها قد يستغرق المرء ساعتين بسيارة خاصة بغياب نظام المرور في العاصمة المليونية. فالمرء يلحظ بسهولة كثرة شرطة المرور المنتشرين في كل مكان، لكنه يلحظ مع ذلك أنّ شارات المرور لا تعمل، والسبب الأهم هو انقطاع الطاقة الكهربائية بشكل مزمن منذ 12 عاما، فيحاصره بشكل خانق الزحام المتفاقم بوجود الحواجز الإسمنتية، ونقاط التفتيش الباحثة عن شيء لا يعرفه حتى العاملون فيها بالتحديد.
عُرفت بغداد في العصر العباسي بأنها مدينة المعسكرات، وبقيت كذلك على مدى العصور كما يبدو، إذ كانت تضم معسكر الرشيد وسطها، ومعسكر الراشدية في طرفها، و يحتلهما اليوم متجاوزون سيطروا عليهما منذ التغيير الكبير في عام 2003، ولم تخرجهم أي سلطة من الثكنات الكبيرة التي كانت عامرة. غير هذين تضم بغداد 5 معسكرات تنتشر على أطرافها وتشغلها قطعات عسكرية، وبعضها يضم سجونا، وإن كان هذا له دلالة، فإنها تؤشر أنّ العاصمة العراقية كانت وما زالت عرضة للعنف وتحتاج إلى قوة تحميها.
بغداد الأزل بلا آثار؟
بغداد حاضرة بلا آثار. ورغم أنها مدينة توقف عندها التاريخ في محطات هامة، إلا أنّ ما تبقى من محطاته لمام لا يذكر. حتى تاريخ العراق الحديث، الذي بدأ بقيام الدولة العراقية عام 1933 لم يبق منه في بغداد أي معلم، فالحكومات المتعاقبة دأبت على إتلاف كل ما يدل على إنجازات السابقين، خصوصا أنّ العراق منذ عام 1958 يعيش دوامة تغيرات سياسية اقترنت دائما بالعنف والتخريب. وما يمكن مشاهدته فيها من عصر العائلة المالكة الهاشمية التي حكمت العراق هو المقبرة الملكية في الأعظمية وتضم رفاة بعض ملوك العراق وأبناءهم ونساءهم، وقد أعيد اعتبارها وإعمارها بعد تقارب العراق مع الأردن في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لكون ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال ابن عم فيصل الثاني ملك العراق القتيل.
شوارع مكتظّة وفضول جارح!
يفاقم أزمة المرور في الحاضرة العامرة غياب القطارات المحلية (المترو، وقطار الشوارع - الترام)، وهو غياب ملفت للنظر، فبغداد ترقد على أرض مستوية من التربة الرخوة الرسوبية، وبالتالي فإن إنشاء قطارات أنفاق فيها أمرٌ يسير جدا مقارنة بالمدن الواقعة في أراض جبلية.
الملفت للنظر أكثر، أنّ نهر دجلة الممتد على طول العاصمة المترامية الأطراف لا تمر فيه أي وسائل نقل نهرية عامة، ولا يرى المرء فيه سوى زوارق الصيادين البسيطة التي تتنقل متهادية على صفحة الماء الغريني وبعض زوارق دوريات الشرطة السريعة الصغيرة.
بغداد مدينة الحافلات الصغيرة الخاصة ( ميكروباص) وسيارات التاكسي- الخالية من العدادات الخاصة بسيارات الأجرة، وحين تقف على قارعة الطريق، لا تحتاج أن ترفع يدك، فعشرات الحافلات الصغيرة والسيارات (أغلبها شخصية دون يافطة تاكسي) تقف أمامك وتدعوك إلى أن تستقلها.
سائقو السيارات في الغالب ودودون، يحركهم فضول عجيب للتعرف على المسافر. وهم يفضلون أن يجلس المسافر-إن كان رجلا- إلى جانبهم ( في مقعد السيارة الأمامي) ، ويعتبرون جلوسه في الخلف -خاصة إن كان لوحده- مظهر غطرسة واحتقار لهم! وهذا هو عكس ما موجود في معظم أنحاء العالم، حيث يعتبر سائقو سيارات الأجرة أنّ كابينة السائق هي مساحتهم، ومن المفضل أن تُترك بأكملها للسائق ما لم يكن هناك ضرورة لإشغالها!
يحاول السائق البغدادي فور جلوسك إلى جانبه أن يكلمك، وإن كانت برفقتك عائلتك فهو ينصت لكلامكم مع بعض ليرى من أين أنتم وماذا ترومون؟ وإذا تحادثتم بلغة لا يعرفها، فلن يتوانى عن السؤال بأي لغة تتحدثون!؟ وان تكلمت معه فسيسألك بصراحة جارحة من أين أنت، وما قصتك، وإلى أين تروم الذهاب، وما الذي جاء بك إلى بغداد؟ وكل هذا يفسره العنف والخوف من الآخر، ويجري دائما بود وأريحية ظاهرة!
خارطة العنف
لا يفوت من يزور بغداد أن يلحظ آثار العنف على مبان كثيرة فيها، فالجدران موشومة بآثار رصاص وشظايا، وفي كل مكان، يمر المرء بساحات تتراكم فيها السيارات المحترقة والممزقة بفعل التفجيرات وأغلب المحلات تمنع وقوف السيارات أمامها خوفا من السيارات المفخخة، هذا غير الأماكن التي تمنع فيها السلطات وقوف السيارات لأسباب أمنية، وهكذا يفضّل أغلب السائقين ألاّ يتركوا سياراتهم بعيدا عنهم، تحسبا لكل الاحتمالات.
يسود اللون الترابي كل شيء، فالعواصف الرملية والترابية ما برحت تضرب المدن العراقية خصوصا في أشهر الصيف والخريف، وجرّاء هذا البلاء الطبيعي يدهن أغلب العراقيين بيوتهم بهذا اللون لأنه يُظهر واجهة البيت مشرقة نظيفة بشكل دائم بسبب ملائمته للون البيئة الطبيعية.
أكثر المحلات شيوعا هي المطاعم بأنواعها، أكشاك السندويشات، عربات الطعام الشعبي التي تشمل كل شيء، مطاعم سريعة، ومطاعم شعبية، ومطاعم فاخرة، ومطاعم كانت فاخرة ثم تغير حالها فبقيت تحاول أن تتشبث بما كانت عليه.
الكاظمية
في الكاظمية وهي المعلم البارز من بقايا العصر العباسي الافتراضي، لا تقترب أي سيارة من الحضرة الكاظمية (التي تضم مرقدي الإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام محمد الجواد،وهي بأربعة منائر وقبتين مكسوة بالذهب) وعلى المرء أن يترجل عن سيارته بفاصلة تصل إلى كيلومتر مربع كامل بعيدا عن المرقد المقدس. حول المرقد يلحظ الزائر محلات بيع الذهب وصاغته، ومحلات الصيرفة، والفنادق المتزاحمة بطريقة مضحكة، والشرطة والأمن الذين يمنعون الناس من دخول الأزقة أو الخروج منها حرصا على سلامة الزائرين الذين تستهدفهم دائما هجمات بالقنابل والمتفجرات والانتحاريين والسيارات المفخخة، بل وحتى هجمات بقذائف الهاون.
ولدى سؤالهم مَن في اعتقادهم يستهدف زوار العتبات المقدسة يقول أغلبهم "هكذا هو الأمر على مدى الزمان، فمحبو آل البيت (الأئمة الاثني عشر) مشاريع شهادة دائمة، ولكن هذا لن يثنينا عن زيارتهم". وهكذا فإن أيام الزيارات – وهي كثيرة يصعب عدّها- تشهد زحف جموع مليونية يكللها السواد لزيارة المراقد الشيعية في مدينة الكاظمية. ولا بد أن يذكر الزائر، أنّ مرقد الشاعر الشريف الرضي، ومرقد أخيه نقيب الطالبين في بغداد الشريف المرتضى يقعان في أحد أطراف الحضرة الكاظمية، وفيهما قصة طويلة.
جسر الأئمة - محاولة للوفاق الشيعي السني
تقع الكاظمية في جانب الكرخ (الغربي من دجلة)، ولكي تعبر منها إلى الجانب الشرقي للنهر (الرصافة) لابد للمرء أن يعبر جسر الأئمة، وسمي كذلك في محاولة للخروج من الخندق الطائفي، ولكن قصته ترقى إلى زمن أقدم من عراق ما بعد 2003.
عند النهاية الشرقية لجسر الأئمة يطالع المرء مرقد الإمام الاعظم (النعمان بن ثابت الذي يُسمى في العراق أبو حنيفة) وهو معلم أثري آخر ينتمي إلى ماضي بغداد التليد. ويلفت النظر أن مرقد الإمام الأعظم الراقد عن مخرج جسر الأئمة لا تحيطه تحصينات ولا كتل إسمنتية ولا مسلحون كما هو الحال مع المرقد الكاظمي في الجانب الآخر. المحلات المحيطة بالمرقد تتنوع ولا تقتصر على صاغة الذهب، فيما لا توجد فنادق قريبة منه، والمطاعم معقولة العدد.
للدخول إلى أزقة "الأعظمية" وهي المنطقة التي تحيط بمرقد الإمام الأعظم واسمها اشتق من لقبه، يحتاج المرء الى سائق من أبناء المنطقة حسبما يقول السائقون، لأسباب تتعلق في الغالب بالأمن وبالاصطفاف الطائفي، والأغرب في العراقيين أنّ الجميع يدينون الطائفية ويهجونها ويعتبرونها سبب مصائب العراقيين، بل يقول كثيرون منهم "إن الاحتلال الامريكي هو الذي جاء بالطائفية". يمثل هذا المرقد ومسجده منطقة يجتمع فيه أهل السنة في بغداد خاصة في مناسبة المولد النبوي حيث ينار المكان بالأضواء، وتُبذل موائد الطعام الباذخة للناس على جانبي الطريق، حيث يوقدون الشموع ويضعونها في خوان مع الحناء واغصان الآس لتطفو مع مسار ماء دجلة راحلة إلى الجنوب.
الجسر المسافر التائه!
مع هذا النبذ الظاهر للطائفية، فإن شيخا وقورا كبير السن من سكان الأعظمية وقد جلس في مقهى قريب من مرقد الإمام الأعظم روى أنّ جسر الأئمة كان جسرا عائما من خشب رُبط إلى بعضه بين الضفتين، وغالبا ما كانت تجرفه المياه فيخرج أهل بغداد باحثين عنه ليعيدوه إلى مكانه! ونظرا لأن الأعظمية كانت ضمن بغداد، والكاظمية كانت صغيرة وتعتبر ضاحية بغداد فقد سُمي الجسر بجسر الأعظمية.
وفي عام 1957 أنجز الجسر الحديث الحالي، وأرادت الحكومة الملكية آنذاك أن تُعيد تسميته القديمة فاحتج أهل الكاظمية من خلال ممثليهم في مجلس النواب فيما أصرّ النواب الذي يمثلون أهل الأعظمية على الاحتفاظ بالتسمية القديمة. وكحلّ لهذا الخلاف قررت الحكومة آنذاك تسميتهِ باسم يُرضي جميع الأطراف ويبتعد عن الخلافات، فأطلقت عليه اسم جسر الائمة في إشارة إلى مرقد الإمامين على ضفتيه.
ابتداء من الجانب الأيسر لمرقد الإمام الأعظم يبدأ كورنيش الأعظمية، وهو شريط على شاطئ دجلة الشرقي، تغمره خضرة النخيل وتنتشر فيه المقاهي والمطاعم ومدن الملاهي (تسمى في العراق مدن الألعاب، أما الملاهي فتعني عندهم الكباريهات حصرا). وهو متنفس مضاء في العاصمة التي تغمرها العتمة. هنا يجد المرء مئات الأسر البغدادية الباحثة عن لحظة تسترخي فيها بعيدا عن هموم اليوم والعمل وغياب الأمن.
شارع الرشيد محطات التاريخ المندثرة
شارع الرشيد أشهر شوارع بغداد وقد يكون أقدمها، التاريخ ينطق في كل عمود فيه، ويقال إنّ فيه 365 عمودا حجريا ترسم رصيفيه على طول امتداده بين ميدان الباب الشرقي (ساحة التحرير) وبين ميدان الباب المعظم، تجمعت دون حساب لتصبح سنة كاملة بالأيام.
بناه والي بغداد العثماني خليل باشا عام 1910، وسُمي أول الأمر باسمه، وهو قلب بغداد التجاري والمصرفي، إذ يضمُّ البنك المركزي العراقي وفيه خزين غطاء العملة من الذهب، كما يضم الفرع الرئيس لمصارف الرافدين والرشيد والعقاري والتجاري والصناعي والزراعي وهي أكبر المصارف العراقية، علاوة على غرفة تجارة بغداد. وفيه زوايا وتكايا ومدافن أولياء ومدارس ودكاكين وأسواق وقصور أثرية ومساجد تاريخية تعود إلى قرون خلت، وفيه كنائس وأديرة وبقايا منازل ومعابد يهودية وآثار مندائية ومزارات أيزيدية وحتى آثار زرادشتية. لكنه مهمل تماما، ولا تمر فيه السيارات، كما أنّ النساء عموما لا يتجرأنّ على المرور فيه ما لم يرافقهن رجال نظرا لانتشار العصابات في مناطق منه. هذا الشارع كان ملاذا للبغداديين بمقاهيه الشهيرة (البرلمان، حسن عجمي، الزهاوي، البشائر).
جزء من الشارع يضم مبنى وزارة الدفاع التاريخي الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، وجزء منه يضم مقر الوالي العثماني وحكومته على مدى 3 قرون وبعده مقر المندوب السامي البريطاني والمسمى (السراي، والقشلة) وهي اليوم خرائب لم يبق منها سوى بضع جدران مهدمة، فيما تنتصب المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله قبل سقوط بغداد على يد التتار سنة 1258 ميلادية مطلة على نهر دجلة ولا يهتم أن يزورها إلا قليل من السائحين.
من أهم معالم شارع الرشيد الناشطة اليوم، شارع المتنبي، الذي يمثل رئة بغداد الثقافية الوحيدة تقريبا، ويضم مكتبات ودور نشر وباعة كتب يفترشون الأرصفة. كل جمعة يقصده مثقفو العاصمة ليحيوا يوما يقرّبهم إلى الثقافة وينسيهم العنف والمدينة المهملة.
بغداد التاريخ أكبر من أن تضمها جولة بهذا الحجم، ويلزمها كتاب يحكي قصة تاريخها المرتبط غالبا بتغيرات السياسة والعنف المرافق لها، ولعل هذا يفسر إلى حد كبير سبب خلو عاصمة الامبراطورية العباسية من أيّ آثار معمورة ملحوظة.