مناضل صنديد لا يشق له غبار في سبيل حقوق الإنسان المصري
يمر بيده على شعره القصير ثم يضبط صوته قبل أن يبدأ بالكلام في مكبر الصوت قائلا: "لم يكن والدي خارقا، كان مثلنا جميعا". يسترسل علاء عبد الفتاح في الحديث عن والده المحامي الراحل أحمد سيف الإسلام خلال حفل تأبينه قائلا: "كان يصر دائما على أن يحكي عن ضعفه وأخطائه وصعوبة تجربة السجن والتعذيب، لا تواضعا منه وإنما لتوصيل رسالة وهي ضرورة الانتصار للحق حتى لو لم نكن خارقين".
قوبلت كلمة علاء عبد الفتاح خلال حفل التأبين الذي أقيم بالجامعة الأمريكية بقلب العاصمة المصرية القاهرة، بتصفيق حاد من نحو 700 شخص من زملاء وأصدقاء وأقارب المحامي الحقوقي الراحل الذين تذكروا في هذه الأمسية إنجازاته والمبادئ التي عاش مدافعا عنها وعلى رأسها السعي لتحقيق العدالة، كما قال نجله الناشط السياسي الشاب.
كان أحمد سيف الإسلام من أهم النشطاء في مجال حقوق الإنسان في مصر. تولى سيف الإسلام وفقا لمنظمة "هيومان رايتس ووتش"، أهم القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان وقوانين العمل والأنشطة السياسية خلال حقبة الرئيس الأسبق مبارك. توفى المحامي المصري نهاية آب/ أغسطس 2014 عن عمر ناهز 63 عاما جراء مضاعفات أعقبت خضوعه لجراحة في القلب.
سجن وتعذيب
كان سيف الإسلام مناضلا رائدا، تصدى بلا كلل أو ملل لانتهاكات حقوق الإنسان في ظل حكم مبارك ودفع ثمنا باهظا، إذ اعتقل خلال ثمانينيات القرن الماضي لمدة خمسة أعوام، تعرض خلالها للضرب وللتعذيب بالصدمات الكهربائية.. تجربة خلفت آثارها على مسيرته التالية بالكامل. وعن هذه التجربة نقلت "هيومان رايتس ووتش" عن المحامي الحقوقي قوله: "قررت أن النشاط السياسي وحده لا يكفي دون الاهتمام بحقوق الإنسان".
استغل سيف الإسلام فترة سجنه ودرس خلالها القانون ليبدأ العمل كمحامٍ عام 1989 بعد إطلاق سراحه ويركز عمله على مكاحفة التعذيب وتعسف القضاء.
كان سيف الإسلام مصدر إلهام لجيل كامل من المحامين إذ لم يفقد الإيمان برؤيته حتى في أكثر لحظات الخوف، كما يقول أحد الحضور في حفل تأبينه الذي اتفق معظم المشاركين فيه على أن الراحل لم يكن مجرد محامٍ بل كان مناضلا صنديدا وقدوة وصديقا ومعلما.
لم يكن سيف الإسلام عبدا للنص القانوني كما يقول المحامي الحقوقي خالد علي الذي يتذكر عبارة سمعها بهذا الخصوص من المحامي الراحل أكد فيها أن "النص غير مقدس وليس تعبيرا عن الحق والعدل".
في خدمة الحركة الديمقراطية المصرية
لم يقتصر دور سيف الإسلام على تغيير النظرة للقانون فحسب بل إنه ساهم مع أسرته في دعم الحركة الديمقراطية في مصر بشكل كبير، فزوجته ليلى سويف أستاذة جامعية وناشطة سياسية كما أن أبنائه الثلاثة كلهم من النشطاء السياسيين. مازالت ابنته سناء تقبع في السجن لأنها تظاهرت من أجل إطلاق سراح شقيقها، المدون والناشط علاء عبد الفتاح الذي حكم عليه بالسجن لمدة 15 عاما مع 24 ناشطا في حزيران/ يونيو 2014 بتهمة خرق قانون التظاهر.
أثار قانون التظاهر حالة من الاستياء على المستوى العالمي، إذ يعد تقييدا شديدا لحرية التجمهر. طلب عبد الفتاح استئناف الحكم كما دخل في إضراب عن الطعام بعد أن علم بتدهور الحالة الصحية لوالده وانضم له العديد من النشطاء. كللت هذه الجهود بالنجاح إذ تم الإفراج عن عبد الفتاح بكفالة منتصف أيلول/ سبتمبر 2014.
وها هو علاء عبد الفتاح يجلس على المنصة ويتحدث بصوت حزين عن والده الذي تلقى نبأ وفاته وهو في السجن. سمحت السلطات لعبد الفتاح وشقيقته سناء بحضور جنازة والديهما تحت حراسة أمنية مشددة. وقال عبد الفتاح إن أكثر ما يفزعه الآن هو أن والده "لم يعد قادرا على أن يحكي الحواديت لحفيده خالد، حيث كان في مقدرته أن يلتقط التفاصيل المختلفة من كل شيء في الحياة ويصنع منها حكايات".
كانت حياة المحامي الراحل ثرية بالحكايات من بينها الفترة التي قضاها في حركة المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان وعمله كسائق سيارة أجرة لتوفير مصاريف عائلته. ويؤكد عبد الفتاح أنه من الممكن استكمال نضال والده من خلال المحاكم.
ولد أحمد سيف الإسلام عام 1951 في محافظة البحيرة بغرب الدلتا، وانضم للحركة اليسارية أثناء فترة الدراسة. درس سيف الإسلام السياسة والاقتصاد ثم القانون لاحقا وشارك عام 1999 في تأسيس مركز هشام مبارك للقانون، الذي حمل اسم الحقوقي الراحل هشام مبارك الذي توفى عام 1998. قدم سيف الإسلام من خلال المركز، المساعدة لضحايا التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان.
"هشام مبارك"...مركز حقوقي احتضن الثوار
لم تلعب التوجهات السياسية أو الاجتماعية لزبائنه دورا كبيرا، إذ دافع سيف الإسلام عن يساريين وإسلاميين وملحدين ومثليين جنسيا وكان يتولى دوما القضايا الشائكة، ففي عام 2001 تولى الدفاع عما يقرب من 52 رجلا جرى اعتقالهم في تجمع للمثليين كما تولى الدفاع عن كريم عامر وهو أول شخص يواجه تهما لمحتوى مدونته والذي اعتبرته السلطات يحمل انتقادا للرئيس. وفي عام 2007 قال سيف الإسلام لـ "هيومان رايتس ووتش": "أكبر إنجازاتنا هو وضع القضايا القانونية ضمن الخطاب الوطني والبحث الأكاديمي والإعلام وعمل المحاماة".
تحول مركز "هشام مبارك" أيام ثورة يناير 2011 إلى مركز يلتجئ إليه ثوار ميدان التحرير للتنسيق فيما يخص احتجاجاتهم والتشاور بشأن قضايا المتظاهرين المعتقلين. لم تنفصل المشكلات الأمنية عن سيف الإسلام خلال هذه الفترة أيضا، إذ اعتقلته السلطات في شباط/ فبراير 2011 خلال حملة مداهمات مع 30 من المحامين والناشطين وجرى احتجازه لعدة أيام. لكن هذا الأمر لم ينجح في ترهيب سيف الإسلام الذي ظل مركزه نقطة التقاء للحقوقيين من كافة الأطياف كما كان بمثابة صمام الأمان الذهني للثوار الشباب خاصة في الأوقات العصيبة.
تستعيد طالبة من المشاركات في ثورة يناير، دور سيف الإسلام خلال الثورة وتقول خلال حفل تأبينه: "معارضة النظام ستصبح أكثر صعوبة من دونه (سيف الإسلام). وتضيف الطالبة التي ناضلت ضد نظام مبارك وعايشت عنف المجلس العسكري الذي تلا فترة مبارك: "يبدو أن كل شيء يتكرر الآن"، تقول ذلك وهي تسحب نفَسَاً من دخان سيجارتها. وبعد سقوط الرئيس السابق محمد مرسي صيف عام 2013، بدأت عمليات تعقب لمنتقدي القيادة العسكرية الجديدة كما شهدت هذه الفترة قتل الآلاف من أنصار الإخوان المسلمين في مواجهات في الشوارع واعتقال الآلاف في الشهور التالية لذلك، علاوة على الإساءة للصحفيين من قبل إعلام الدولة وحجب العشرات من الشباب الثوريين.
وتضيف الطالبة التي تستعيد ذكرياتها عن المحامي الراحل: "مصر في حاجة إلى أشخاص مثل أحمد سيف الإسلام أكثر من أي وقت مضى". اتسم تقييم سيف الإسلام للوضع الراهن في بلاده بمرارة واضحة عقب اعتقال نجله في كانون الثاني/ يناير 2014، إذ قال وقتها: "أنا آسف إني ورثتك الزنازين اللي أنا دخلتها، لم أنجح في توريثك مجتمعا يحافظ على كرامة الإنسان. أتمنى أن تورث خالد حفيدي مجتمعا أفضل مما ورثتك إياه".
ساد الصمت في الصالة التي شهدت مراسم التأبين عندما أمسك علاء عبد الفتاح بمكبر الصوت وقال: "لا يجب أن نشعر بالفقد لأنه ترك لنا مفتاح الطريق، مطلوب منا فقط أن ننتصر للحق ونتمسك به"، عندها وقف الحضور وبدأوا في تصفيق مستمر لعدة دقائق.
أندريا باكهاوس
ترجمة: ابتسام فوزي
حقوق النشر: قنطرة 2014