كارل ماي - بين العبقرية والشخصية الهزلية
يعتبر كارل ماي Karl May من عداد الشخصيات المحورية في الذاكرة الجمعية الألمانية نظرًا للتقديرات المذهلة لمجموع أعداد نسخ كتبه المباعة باللغة الألمانية والتي تبلغ المائة مليون نسخة إضافةً إلى أفلام فينيتو التي أدى أدوار البطولة فيها بيير بريس Pierre Brice ولِكس باركِر Lex Barker. وبوصفه مبتكر "الغرب الأمريكي المتوحّش" (Wild West) والرحالة الخيالي إلى الشرق نحت صورة العالم عميقًا لدى أجيال بكاملها. وقد ادعى المؤلف طوال حياته بأنه هو نفسه بطل رواياته المتألق أولد شاترهاند Old Shatterhand و كارا بن نيمسي Kara Ben Nemsi وبأنه قد خاض شخصيًا المغامرات التي كتب عنها. فجميع أعماله الشهيرة مثل "فينيتو" أو "عبور كردستان الموحشة" كانت قد نشرت على أنها "تقارير رحلات" واصطنعت موثوقية جرى تصديقها فترة طويلة. أما الواقع فمختلف تمامًا إذ أن المؤلف لم يغامر بالسفر إلى خارج حدود أوروبا إلا بعد تقدّمه في العمر حيث زار بعض الأماكن التي كان قد وصفها بوضوح كبير من قبل.
ترعرع ماي في بيئة فقيرة واصطدم بالقانون وهو صغير السن وقضى عقوبات مختلفة في السجن، إلى أن أفلح فيما بعد في أن يصبح كاتبًا يحقق أرباحًا تجارية هائلة. وقد انطلقت نقاشات حادة بدأت منذ فترة حياته عما إذا كان "أدبه الركيك" يساهم في إفساد الجيل الشاب. وأزدرى النقد الأدبي الجاد لوقت طويل بمؤلفاته. وفي الواقع ليس من الصعب جدًا تعرية الحبكات الروائية الواهية المكتوبة دائمًا على نفس النمط باعتبارها تخيلات مبتذلة غايتها تلبية الرغبات. وقد رافق منذ البداية وعلى مدى فترة طويلة نقد تصوير كارل ماي شخصيات رواياته كنقيض أبيض / أسود واعتماده المفرط المتهوّر على الصيغ المبتذلة والصور النمطية العنصرية، رافق ذلك تاريخ تقبّل القراء لمؤلفات ماي. ولأن أدولف هتلر كان من المتحمسين لقراءة كتب ماي اعتـُبر المؤلف من الممهدين للفكر النازي. وقد وضع كتّاب سيرته الكثير من الافتراضات النفسية، ومن بين ما شخّصوه لدى كارل ماي الهستيريا والهوس وتعدد الشخصية الفصامي. وبالفعل يورّط المؤلف نفسه بشكل متزايد في قصصه الخيالية الخاصة، ويتباهى بشكلٍ غير مشروع بحمله لقب الدكتوراه ويغامر بالمزيد من الادعاءات الجريئة، مثل أنه "يتقن حوالي 1200 لغة ولهجة" وأنه "عُيّن خلفًا لفينيتو لدى قبيلة أباتشي ليكون قائدًا لخمس وثلاثين ألف محارب". ويُعتبر كارل ماي منذ ذلك الحين، في الجوانب الإيجابية والسلبية، حالمًا ميئوسًا منه، يرى فيه البعض حكواتيًا رائعًا، ويراه آخرون دجّالاً مبالغـًا يتبجّح بغباء. ويبقى جنون العظمة لديه أسطوريًا.
في ذاكرة الأجيال
وبمناسبة حلول ذكرى وفاة المؤلف المئوية في هذا العام ظهرت مجموعة جديدة من الكتب تعالج أهميته المعاصرة. ويظهر مدى الاختلاف الممكن لمقاربة هذا الموضوع في الإصدارات الجديدة للكل من روديغر شابر "كارل ماي، خاضع، متبجح، جبّار، دار سيدلر للنشر، 244 صفحة، 19.99 يورو) وهلموت شميدت (كارل ماي أو قوة الخيال، دار بيك للنشر، 368 صفحة، 22.95 يورو). العامل المشترك بين المؤلفيّن هو تعاطفهما مع كارل ماي، وحمايتهما له من النقد الشديد ورغبتهما بتخصيص مكانٍ له في تاريخ الأدب الألماني بعد تأخُّرٍ كبيرٍ في ذلك بحسب رأيهما. ولا يخفي المؤلفان ميلهما لكارل ماي، الذي "نال إعجاب أجيالٍ متعاقبةٍ من القراء كما لم ينجح بذلك أي كاتب ألماني في أي وقت مضى" بحسب قول شميدت.
شابر وشميدت يجعلان عمل كارل ماي المجازي "أرضستان وجِنْستان" غير المعروف كثيرًا والذي كتبه في الفترة الأخيرة من حياته (1907 - 1909)، يجعلانه الشاهد الملك لمرافعتهما ورؤيتهما بأن كارل ماي كاتبٌ أصيلٌ وليس فقط منتج كتبٍ رخيصةٍ بغزارة . إنما هما يعيدان أيضًا البحث في القيمة الأدبية لنصوصه المعروفة. ففي حين اتـُّهم الكاتب في السابق بالمبالغة لأنه جمع رواياته عن الهنود الحمر وعن الشرق من الموسوعات وتقارير الرحلات، نرى الآن أنَّ شميدت يتحدث عن "تأليف فيه ما يشبه روح ما بعد الحداثة في ترتيب مواد موجودة" ويرى فيه "لاعبًا لا لاعبًا غشّاشًا بأية حال من الأحوال". كما يظن أنه من شأن كارل ماي في عصرنا هذا أن يكون "مستخدمًا دءوبًا للانترنت". ويتعرّف شميدت في حبكات ماي الروائية والمغامرات على "تحويلٍ للأساطير والقصص الخرافية" عبر استبدال كل ما هو فوق طبيعي وغير قابل للتفسير بالقدرة المطلقة لأبطال رواياته. "الخاتم الذي يجعل حامله غير مرئيًا وقت الحاجة، وطاقية الإخفاء التي تؤدي نفس الغرض، يعودان ثانية لدى كارل ماي –بشكل شبه دنيوي- عندما يتسلل البطل بمهارة عجيبة إلى معسكر الأعداء، دون أن يلحظه أحد". تنعكس في روايات ماي روح عصرٍ يمتزج فيه الإيمان بالتكنولوجيا والخضوع للعقل باستمرار الشغف بتخطي الحدود وبما هو خارق للطبيعة. وليس لهذا السبب يعتبر شميدت آخرًا أن المؤلف "مثالٌ يمكن من خلاله دراسة الكثير من مجالات تاريخ القرن التاسع عشر الثقافي ومطلع القرن العشرين".
في خانة الكبار....
شميدت وشابر يعظمان كارل ماي من خلال مقارنته بشخصيات لا خلاف على منزلتها العليا في الأدب الألماني. فيضع شميدت في افتتاحية كتابه كارل ماي على قدم المساواة مع غوته، في حين يقدم شابر مقارنة جريئة بكافكا. ويقول شميدت إنَّ "الاختلاف الفاضح بين اعتبار ماي كاتبًا شعبيًا ومحببًا لدى النشء الجديد من جهة، واعتباره أديبًا رفيع المستوى من جهة أخرى" متخذًا من ذلك نقطة انطلاق لعرضه المستند إلى سيرة حياة كارل ماي ساعيًا إلى استنتاج "سمو منزلة موضوع السيرة" استنادًا إلى الدراسات المتنوعة التي باتت متوفرة اليوم حول أعمال كارل ماي. بعبارات أخرى: من يدلي برأي يحط من قدر ماي، يضع نفسه محل الشبهة بالسذاجة، التي يتهّم هو بها كارل ماي، ويضيف شميدت: "لا وجود لكارل ماي، الذي يفتقر المهارة الحركية في الأدب والذي يُعتبر من السكان غير المفيدين في الطابق الثقافي السفلي، إلا لدى الجاهلين".
من الممكن بلا ريب أن نقول إنَّ توجُّه وهدف الكتابين متشابهان إلا أنهما يختلفان بوضوح عن بعضهما البعض في الشكل والأسلوب، إذ يتبع شميدت المسار التاريخي في إصرار على التسلسل الزمني ويبدأ كتابة السيرة بأسلوب تقليدي للغاية، ذاكرًا يوم وساعة ولادة كارل ماي. والعرض الذي يقدمه دقيق ومشبع بالوقائع وممل بعض الشيء. ويستعرض بشكلٍ دقيقٍ كميةً كبيرةً من الأرقام والبيانات ويضبط في كثيرٍ من الأحيان تشعبات تواريخ نشر أعمال ماي المتشابكة. أما شابر فيختلف تمامًا، إذ يقترب من موضوعه على شكل دوائر مشتركة المركز ويسلك أثناء ذلك طرقًا ملتويةً طويلة، على سبيل المثال يعرِّج على كريستوف شلينغنزيف، الذي يكتشف فيه حفيدًا روحيًا لكارل ماي، أو يعرِّج على تاريخ السينما الثقافي. بهذه الطريقة يضيء شابر على التشابك الكبير للوقائع من اتجاهات مختلفة ومفاجئة. ما يمكن انتقاده في السيرة المسيطرة لدى شميدت، أنها تبدو متزمتة للغاية، وتظهر أنَّ سلسلة الأفكار المتداعية التي يعرضها شابر مضطربة ومحمومة أحيانًا.
مساهمة في الثقافة الشعببية
يخط شابر عبر تناوله شخصية كارل ماي اللامعة مساهمة في تاريخ الثقافة الشعبية الألمانية، فيضع خطوطًا تنطلق من الأفلام ذات المواضيع المحلية من فترة ما بعد الحرب، وتؤدي إلى أفلام كارل ماي في الستينيات، وتنتهي عند فيلم المحاكاة الهزلية "حذاء مانيتو" للسينمائي بالي هيربيغس. أما الخط الخاص بامتياز فيكمن في وضع كارل ماي بموازاة فرانتس كافكا المعاصر له. وقد كتب كلاهما عن أمريكا دون أن يكون قد وطئها، أحدهم بوصفه "مسّاحًا يقيس أحلامًا رغبوية" والآخر بوصفه "مسّاحًا يقيس الكوابيس"، كما يقول شابر الذي يبين أنَّ مشاكل أبطال رواياتهما متقاربة بشكل مدهش، فبطل كافكا كارل روسمان(!) "يقاتل مترًا تلو الآخر في سبيل الحياة من خلال نضاله للحصول على مكان في العالم. وربما كان هو البطل الأعظم، حيث لا تجري مساعدته على إزالة العقبات أو تدميرها وإزاحتها بسهولة، ولا يجري تحريره دائما في اللحظة الأخيرة، ذلك لأن عمود التعذيب المربوط به، هو شخصه بالذات.
يحدد شابر موضع ماي في مكان ما بين "توأم ريتشارد فاغنر" و "الشخصية الهزلية"، ويسلط الضوء على سياق أزياء الشرق في القرن التاسع عشر على خلفية الحقبة القيصرية الألمانية التاريخية التي تقوم على "غرور تصوّر أمَّة بأنها فتية وبالرغم من ذلك عريقة" ولذلك يجسدها كارل ماي بطريقة مثالية. أما الازدواجية في العقلية المفتونة بنفسها فلا يتم التغاضي عنها: "هذا يدلّ على الطريق إلى الخنادق، إلا أنه يدلّ أيضًا على الطريق إلى الروحية". يتحدث شابر كمعجبٍ متحمّسٍ عندما يمدح "فكرة التسامح الديني، والانفتاح على الثقافات الغريبة" لدى كارل ماي ويطالب أخيرًا بفهم المؤلف بوصفه "فنانًا وعبقريًا معرَّضًا للخطر"، وباعتباره "أعظم مزهوٍ بنفسه في الأدب الألماني" ويستحق مكانًا لائقًا في تاريخ الأدب.
بعد مائة عام على وفاته يُبجَل كارل ماي بوصفه كاتبًا ربما أكثر من أي وقت مضى. وراء هذا النصر المتأخر تكمن بلا شك أيضًا لحظة مأساوية، لأن الدراسة المستمرة لأعماله تأتي بمثابة دفنها في مقبرة التاريخ الأدبي، حيث أن أعداد النسخ المباعة في تراجعٍ كبيرٍ منذ فترةٍ طويلة. ويُعدُّ شميدت وشابر من آخر جيلٍ قرأ أغلبه كتب كارل ماي. ومن هذا المنظور تحمل دراستاهما لسيرة كارل ماي طابعًا ختاميًا.
أندرياس بفليتش
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012