صلاة وتمارين قوة وكمال أجسام بإيران
مَنْ يمشِ بعد انتهاء وقت العمل في بازار مدينة شيراز الإيرانية يسمع صوت قرع طبول يتردَّد صداه بصوت مكتوم خارجًا من تحت الأرض إلى أزقة السوق المظلمة.
يبدو أنَّ مصدر هذا الصوت موجود خلف مدخل مبنى مضاء. ومع تتبُّع صوت الإيقاع المنتظم، يصل الزائر نزولًا على درج شديد الانحدار إلى قبو تحت الأرض قوي الإضاءة.
يجلس ضارب الإيقاع - الذي يُعرف باسم مُرشد، وهو أيضًا اسم معلم صوفي - على منصة ويحرِّك أصابعه بخفة وبراعة فوق الطبل. ومن وقت إلى آخر، يرفع يده بسرعة إلى الأمام ليضرب جرسًا من الأجراس الأربعة المتدلية أمامه من قضيب. ويضرب إيقاعاته في الوقت المناسب تمامًا، فعلى وقعها تتم ممارسة الرياضة داخل هذا القبو المصبوغ بلون أبيض.
وفي حلبة ثمانية الأضلاع، يقوم عشرات الرجال بأداء تمارين الضغط وأرجلهم متباعدة. ويرتدي بعضهم سراويل جلدية مُطرَّزة، بينما يرتدي آخرون قطعة قماش قطنية فضفاضة ملفوفة حول الخصر.
ويستندون بأذرعهم على ألواح مستطيلة وضعوها على الأرض أمامهم. ومع كل ضربة إيقاع، يضغط الرياضيون أجسامهم إلى أسفل بشكل مستقيم ومسطَّح ثم يرتفعون إلى أعلى ووجوههم تتلوَّى من الجهد والتعب.
وهؤلاء الرجال أعضاء "زورخانه"، وهو نوع من إستوديوهات اللياقة البدنية والصالات الرياضية الفارسية، التي تمتد جذورها إلى ما قبل الإسلام في إيران. والزورخانه تعني "بيت القوة"، وهي مؤسَّسة متجذِّرة بعمق في تاريخ إيران وتجمع بين رياضة كمال الأجسام والموسيقى والشعر الكلاسيكي والعبادة وشكل خاص من الأخلاق الرياضة.
والزورخانات موجودة في جميع المراكز الحضرية في إيران ويقال إنَّ عددها يبلغ في مجمله خمسمائة زورخانة. وغالبًا ما يتم بناؤها في أقبية تحت الأرض من أجل الابتعاد عن الحرارة وحماية الرياضيين المتعرِّقين عن الهواء البارد. وتجذب الزورخانات في الغالب رجالًا من الطبقة العاملة - مثل تجَّار البازار وسائقي سيَّارات الأجرة أو سعاة البريد. ومع ذلك فإنَّ الزورخانات ليست أماكن للتدريب البدني فقط، بل هي أيضًا أماكن لقاء اجتماعية يتم فيها تبادل الحديث حول الموضوعات السياسية والاقتصادية.
من دون فروق اجتماعية وتسلسلات هرمية
تتم في الزورخانه ممارسة الرياضة تقليديًا بقدمين حافيتين وبصدر عارٍ، وهذا يرمز إلى عدم وجود فروق اجتماعية وتسلسلات هرمية بين اللاعبين الرياضيين. وعلى الرغم من أنَّ قمصان التدريب قد وجدت الآن طريقها إلى أندية الرجال هذه، ولكن لا يزال يراعى هنا شعور بالأخوة الفاضلة ويتم نقله من جيل لجيل - وعلى أية حال في زورخانه شيراز يوجد أيضًا مراهقون من بين اللاعبين الرياضيين، الذين ينظرون بكلِّ احترام إلى الرجال الأكثر خبرة.
وتعود جذور أخلاق الزورخانه الرياضية إلى مصطلح "بهلوان"، أي البطل الفاضل في الأساطير الفارسية، الذي يجسِّد قيمًا مثل التواضع والعدالة واحترام كبار السنّ ومساعدة الضعفاء والعُزَّل. ولا تزال الكثير من مجتمعات الزورخانه تأخذ مسؤولياتها تجاه المجتمع على محمل الجدّ حتى يومنا هذا. فكثيرًا ما يقوم أعضاؤها بجمع التبرُّعات من أجل الأسر الفقيرة في المنطقة.
ويعتبر الإمام علي هو البهلوان من دون منافس ويتم تكريمه لدى الصوفيين ليس فقط كشخص نقل المعرفة الصوفية، بل أيضًا على شجاعته وقيمه الأخلاقية العالية. وفي الزورخانات يسردون بكلّ سرور حكايات تبيِّن سلوك علي بن أبي طالب المثالي - وبالتالي لا يجوز أن تغيب صورته في أية زورخانه.
وبالإضافة إلى صورة الإمام علي، تُغطي جدران الزورخانه في مدينة شيراز صورٌ بالأسود والأبيض للاعبين الرياضيين المتفوِّقين خلال العقود الماضية. بعد وقت الإحماء، يجلب الرجال هراوات خشبية ضخمة يمكن أن يصل وزن الواحدة منها إلى خمسين كيلوغرامًا. وتعتبر أرجحة هذه الهراوات الضخمة وتدويرها تمرين قوة فعَّالًا بشكل خاص تتم ممارسته في كلّ زورخانه؛ وقد كانت تستخدم في العصور الوسطى من أجل إعداد الجنود جسديًا للحرب.
يقطع المرشد أحيانًا قرعه على الطبل من أجل إلقاء قصيدة من ذخيرة الشعر الفارسي الكلاسيكي - مثلًا من قصائد الشعراء الصوفيين مثل حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي أو بريشة الشاعر الملحمي الوطني الفارسي الفردوسي (توفى عام 1020م).
ويلي ذلك أناشيد المديح النبوي للنبي محمد وآل بيته، في حين يتوقَّف الرياضيون بخشوع ويأخذون لحظة لالتقاط أنفاسهم. ثم تتبع ذلك سلسلة التدريبات التالية؛ وكلُّ شيء يتم بحسب ترتيب احتفالي صارم يبدو أنَّ أصله من العصور الماضية.
ومع ذلك فإنَّ الزورخانات لا تزال تتمتَّع بشعبية كبيرة حتى في القرن الحادي والعشرين، وهذا يعود أخيرًا وليس آخرًا إلى قوة تماسكها الاجتماعي. ولكن بيوت القوة هذه لها في المجتمع الإيراني أيضًا صورة تتعارض مع ادعائها الأخلاق والشرف - فهي تعتبر على وجه التحديد مأوًى للبلطجية الأغبياء، الذين يسهل التلاعب بهم.
فقد كان على سبيل المثال أحد قادة معارك الشوارع -المدعومين من قِبَل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ليقاتلوا إلى جانب الشاه بهدف إسقاط رئيس الوزراء محمد مصدق في عام 1953- بلطجيًا معروفًا من أبطال الزورخانات اسمه شعبان بيموخ.
مأسسة رياضة الزورخانه
واليوم صارت الحكومة الإيرانية تحاول - مع تأكيدها على الطابع الإسلامي للزورخانات - إضفاء الطابع المؤسساتي على هذه الرياضة من خلال تأطيرها بنظام من الاتِّحادات والبطولات والأرقام القياسية. وحتى أنَّه صار يوجد الآن اتِّحاد رياضي دولي للزورخانات مُكلَّف بمهمة نشر هذه الرياضة وخاصة في دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأوروبا الشرقية.
لقد خضع تقليد بيوت القوة هذه لتغييرات أساسية حتى في مرحلة مبكِّرة من عهد الشاه. إذ كانت المصارعة في السابق جزءًا مهمًا من هذه الرياضة، ولكن اختفت المصارعة من الزورخانات مع دمج المصارعة الإيرانية ضمن مسابقات المصارعة الدولية وظهور المصارعة الحرة الشعبية. يحبُّ الإيرانيون أن ينسبوا تفوُّقهم في مسابقات المصارعة الدولية اليوم إلى تقليد زورخاناتهم.
ولكن لا تزال مشاركة النساء في طقوس الزورخانات الاحتفالية من المحرَّمات الاجتماعية في إيران. وبهذا فإنَّ رياضة الزورخانه هي آخر رياضة في إيران لم تنفتح بعد لمشاركة النساء الرياضيَّات. ومن أجل قبولهن ضمن هذا النظام فقد أطلقت النساء الإيرانيات في العام الماضي (2021) حملات على شبكات التواصل الاجتماعي وحصلن حتى على فتوى خاصة من فقهاء شيعة. وكذلك حصلت الناشطات على الدعم من لاعبين رياضيين معروفين مثل حميدرضا كردى، وهو بطل العالم في أرجحة هراوات الزورخانات. وحول ذلك قال منتقدًا إنَّ إقصاء النساء من هذه الرياضة هو أحد أسباب عدم قبولها في الألعاب الأولمبية.
ماريان بريمَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022