صراع المتدينين والعلمانيين في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
لم يسلم الجيش الإسرائيلي من التوتُّرات المتزايدة بين الإسرائيليين العلمانيين والمتديِّنين القوميين، حيث يسعى المتديِّنون القوميون في داخل المؤسسَّة العسكرية الإسرائيلية منذ عدة أعوام إلى توسيع نفوذهم - وهذا نتيجة لتزايد أعدادهم في الوحدات المقاتلة وكذلك في هيئة الأركان والضباط وهو في نهاية المطاف انعكاس لتنامي قوَّتهم في سياسة البلاد.
وفي هذه الأثناء اتَّخذ هذا الصراع شكل صراع ثقافي بات واضحًا بصورة خاصة في العمليات المسلحة التي تم خوضها في الأعوام الأخيرة، بما في ذلك العملية العسكرية الأخيرة في قطاع غزة. وكذلك بات الربط بين الدين والحرب يشكِّل مصدر قلق كبير بالنسبة لقطاع العلمانيين في البلاد، الذين يرون الآن أنَّ مركزهم المهيمن في الجيش أصبح مهدَّدًا.
الاستقطاب بدل التوافق
تتصدَّر هذا الصراعَ الحاخاميةُ العسكرية. وهذه الوحدة كانت مسؤولة طيلة عقود من الزمن في المقام الأوَّل عن رعاية الجنود المتديِّنين ومراقبة المحافظة على التعليمات والأحكام الدينية الأساسية، التي تنطبق على جميع أفراد الجيش، سواء كانوا متديِّنين أو علمانيين، وسواء كانت تتعلَّق بالمأكولات الحلال يهوديًا (الكوشر) أو بالقيود المفروضة على العمل في يوم السبت وفي الأعياد اليهودية.
وبالإضافة إلى ذلك فقد قام الحاخام العسكري الأكبر شلومو غورين، وهو أوَّل مَنْ شغل هذا المنصب منذ عام 1948 وحتى عام 1971، بفرض المشاركة على جميع الجنود فيما يعرف باسم فعاليات الإحياء. ومنذ ذلك الحين يتم قبل وفي أيَّام عطلة رأس السنة اليهودية الجديدة "تنوير" الجنود من قبل حاخامات من الحاخامية العسكرية حول التعاليم والأعياد اليهودية الدينية.
لقد تم انتقاد مثل هذه الفعاليات مرارًا وتكرارًا من قبل العلمانيين باعتبارها وسيلة لكسب التأثير الإيديولوجي - ولكن مع ذلك فقد كانت هذه الانتقادات غير مجدية، وذلك لأنَّ إرث الحاخام شلومو غورين ظلّ على حاله من دون تأثير. وبعكسه وبعكس خلفائه الحاخامات الثلاثة، الذين كانوا جميعهم مهاجرين، فإنَّ الحاخام أفيشاي رونتسكي الذي تم تعيينه في عام 2006 في منصب الحاخام العسكري الأكبر، لم يكن مولودًا في إسرائيل وحسب، بل وكان في الأصل شخصًا غير متديِّن أيضًا.
وعودته إلى الدين (باللغة العبرية: تشوفا) كانت أيضًا ذات دوافع سياسية قوية، حيث انضم أفيشاي رونتسكي إلى حركة المستوطنين المسلحين وكان في عام 1984 أحد مؤسِّسي مستوطنة إيتمار الواقعة جنوب مدينة نابلس، والتي كان هو وأصبح اليوم من جديد كبير حاخاماتها المحليين.
وعلى ما يبدو فقد كان تعيين الحاخام أفيشاي رونتسكي في منصب الحاخام العسكري الأكبر يهدف إلى المساعدة في سدّ الفجوة التي كانت تتضح في ذلك الوقت بين المستوطنين المتديِّنين القوميين من ناحية وبين الجيش من ناحية أخرى.
ولكن بدلاً من العمل على تحقيق المصالحة، فقد عمل الحاخام أفيشاي رونتسكي على زيادة الاستقطاب، وذلك من خلال إرساله مساعديه - الذين بات عددهم الآن يزداد بسرعة - إلى الجبهة الأمامية، لكي يزرعوا لدى الجنود الروح القتالية ذات الصبغة الدينية.
وفي حرب غزة في عام 2009 لم يقوموا فقط بتوزيع كتيِّبات ذات محتوى ديني مؤطر وتوزيع أوشحة الصلاة إلى جنود مقاتلين علمانيين، بل كانوا يفتخرون أيضًا أمام الكاميرات بقيامهم بمثل هذا العمل. تسبب فيلم صوَّر مثل هذه المشاهد -وحوَّل هذه العملية العسكرية في غزة إلى نوع من الحرب اليهودية المقدَّسة- في إثارة فضيحة في البلاد. ونتيجة لذلك تم توجيه انتقادات شديدة إلى الحاخام أفيشاي رونتسكي بسبب "حملاته التبشيرية" وقد اضطر في آخر المطاف إلى الاستقالة في عام 2010.
حماية الجيش من الطابع "التقديسي"
وفي عهد خليفته، الحاخام رافي بيرتس، الذي كان يؤمل منه أيضًا تعزيز الحوار البنَّاء، كان يبدو أنَّ الصراع يتراجع. يُعدّ الحاخام رافي بيرتس وعلى الرغم من قربه من أوساط المستوطنين شخصًا معتدلاً ويعتبر كذلك أوَّل حاخام غير ملتحٍ من بين كبار الحاخامات العسكريين، وإليه يعود الفضل في اختفاء الحاخامية العسكرية من عناوين الصحف - ولكن بشكل مؤقت فقط.
ففي عام 2011 قرَّرت قيادته السماح للجنود المتديِّنين رفض المشاركة في الحفلات الموسيقية التي تحييها فرق عسكرية تغنِّي فيها مغنِّيات: إذ إنَّ مثل هذه الحفلات العامة التي تظهر فيها النساء تعتبر لدى اليهود المتشدِّدين خالية من الحشمة. وهذا القرار أثار الغضب على الجانب العلماني، مثلما كانت الحال مع إلزام الحاخامية العسكرية جميع الجنود برحلات استكشافية تشمل زيارة أضرحة الحاخامات المشهورين.
وقد بلغ ذلك حدًا بعيدًا للغاية بالنسبة للنقَّاد العلمانيين، الذين بدأوا يحذِّرون الآن وبشكل علني من "إضفاء الطابع الديني التقديسي" على الجيش، وكذلك كانت الحال مع كتيِّب صدر في عام 2012 من قبل حاخامات الجيش، يُستخلص منه أنَّ القانون الديني يعتبر فوق الدولة العلمانية. وعلى الرغم من أنَّ كبير الحاخامات العسكريين وقف خلف مؤلفي هذا الكتيِّب، إلاَّ أنَّ هيئة أركانه أمرت حينها كردة فعل على الانتقادات بإزالة هذا المنشور من الموقع الإلكتروني الخاص بالحاخامية العسكرية - ولكن تم هذا أيضًا بشكل مؤقت فقط: فمن الممكن اليوم العثور من جديد على هذا الكتيِّب هناك.
وكذلك ورث الحاخام رافي بيرتس في نقطة إشكالية أخرى إرث سلفه المثير للجدل، حيث استمر في تمسُّكه بالرغبة التي عبَّر عنها في الأصل الحاخام أفيشاي رونتسكي، والتي تفيد بتكليف الحاخامية العسكرية أيضًا برعاية "الوعي الذاتي اليهودي" لدى جميع الجنود في الجيش الإسرائيلي.
ثم استجابت لهذا الطلب أيضًا قيادة الجيش الإسرائيلي بعد صراع داخلي طويل على الصلاحيات في نهاية عام 2013 - لتثير بذلك غضب قسم التربية والتعليم ذي التوجُّهات العلمانية التابع للجيش، ومنذ ذلك الحين لم تعد تقع على عاتق هذا القسم سوى المسؤولية عن قضايا عامة تتعلق بموضوع "الهوية اليهودية".
ومن جانبها تفسِّر الحاخامية العسكرية صلاحياتها المكتسبة حديثًا بحسب طريقتها. فعلى سبيل المثال أطلقت الحاخامية العسكرية من جديد في العملية العسكرية الأخيرة في غزة حملة مثيرة للجدل. حيث حصل جميع الجنود المقاتلين على كتيِّب تتم فيه مقارنة عمليتهم العسكرية مع كفاح الشعب اليهودي في عصور الكتاب المقدَّس من أجل البقاء - ولا يخلو أيضًا من التذكير بالمحرقة.
شمشون قدوة للجنود
وبالإضافة إلى ذلك فقد ذكَّر مؤلفو هذا الكتيِّب بالملك داود كقائد عسكري عظيم، وركَّزوا بصورة خاصة على البطل التوراتي شمشون - الذي تم عرض "مهمته القتالية" ضدَّ الفلسطينيين في غزة وكذلك استعداده للتضحية بنفسه الممجَّدة في قوله "دعوني أموت مع الفلسطينيين" كقدوة للجنود المقتالين. "نحن نُسطِّر في هذه الأيَّام بالذات فصلاً جديدًا من الكتاب المقدَّس"، مثلما أعلن مؤلفو الكتيِّب وأشادوا في الوقت نفسه بعمل شمشون البطولي الأسطوري، الذي يفيد بحمله بوابة مدينة الغزيين حتى الخليل - وهذا عبارة عن ربط بين العقيدة القتالية الدينية وبين واحد من أهم الأماكن الرمزية لدى حركة المستوطنين المسلحين.
وهذه المرة كاد لم يتم توجيه أية انتقادات في إسرائيل فيما عدا صحيفة "هآرتس" اليسارية الليبرالية للحملة الجديدة التي أطلقتها الحاخامية العسكرية - على العكس مما كانت عليه الحال في ولاية الحاخام أفيشاي رونتسكي. وحتى أنَّ صحيفة "إسرائيل هايوم" اليمينية المقرَّبة من الحكومة رحَّبت بتوزيع كميات كبيرة من الأدوات المستخدمة في الطقوس اليهودية وكتب الصلاة والأدعية على الجنود المقاتلين العلمانيين أثناء الهجوم البري الأخير. وادَّعت هذه الصحيفة أنَّ الآلاف من الجنود طلبوا الحصول على هذه الأشياء - وكتبت أنَّه لا يمكن الحديث هنا حول حملات تبشيرية يقوم بها المتديِّنون القوميون.
جوزيف كرواتورو
ترجمة: رائد الباش