خلط الدين والسياسة يؤدي إلى نتيجة حتمية: تشويه الدين وتدمير السياسة
منذ عهود أباطرة الرومان وتلاعبهم بالمسيحية وتدوير السياسة وولاءات الشعوب وفق ما يرتأيه هذا الملك أو ذلك الإمبرطور من مصالح سياسية مروراً بكل تواريخ البشر والطوائف، وصولاً إلى الإسلاموية الراهنة ممثلة بجماعات أو تنظيمات أو دول والقصة ذاتها تكرر بلا توقف، والنتيجة ذاتها تُعاد من دون تغيير كثير في جوهر نهاياتها.
معنى ذلك أن الجدل الحقيقي في هذه المسألة يجب أن يتمركز في قراءة وتأمل التجربة التاريخية والشواهد العملية لتوظيف الدين في السياسة، وليس في السجال النظري والفكري التجريدي كما تشهده مطارحات وأدبيات الإسلامويين حول «نجاعة» و «ضرورة» إدارة السياسة بالدين أو ما هو قريب من ذلك. في أي نقاش راهن ثمة من ينبري للهجوم بكل نضالية وشراسة على فكرة فصل الدين عن السياسة واسترذالها وإعادة تدوير الفكرة المتهافتة التي تحصر إمكانية الفصل هذه في التجربة الغربية فقط، وبأن التجربة الإسلامية مُختلفة وأن الفصل غير ممكن، وتُلحق بذلك كل المسوغات والتبريرات.
ينجرف الحديث إلى طوباوية لا علاقة لها بالواقع تحلق في علياء المقارنات النظرية بين الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والفروقات بينها كلها وبين الإسلام، بغية توكيد «استثنائية» و «جوهرانية» علاقة الدين بالسياسة في الإسلام والسياقات الإسلامية. ولا تنال التجربة العملية المعاصرة والراهنة (فضلاً عن تجارب الماضي والتاريخ) والتي تفرض نفسها على تفاصيل المشهد السياسي الاهتمام الحقيقي في السجال.
العشرات من التجارب السياسية الحالية، والتي يُمكن إدراجها تحت مسمى «الإسلام السياسي» تشمل تنظيمات سياسية حركية بتنويعات لا حصر لها، ودولاً وكيانات حديثة نشأت على أسس تحالفية مع قوى دينية منحتها الشرعية، بل وأيضاً قوى عُظمى انتبهت إلى فاعلية «توظيف الدين في السياسة»، كما هي حال الولايات المتحدة والغرب في افتعال «الجهاد الإسلامي» وتأسيسه ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وليس انتهاء بـ «داعش».
هذه التجارب والشواهد التي تفيض عن الحاجة للأستدلال تُهمش في السجال المتواصل حول «الدين والسياسة» وتصبح كأنها ليست واقعاً ملحاً يفترض التأمل فيه والاستفادة منه. عوض ذلك يُدفع النقاش في «الجدل النظري» ومن خلال بهلوانيات لغوية وبلاغية، إلى سؤال مُفتعل حول «صلاحية الإسلام للسياسة» يهدف إلى الإحراج أكثر مما يهدف إلى البحث عن إجابة. بعيداً من تفاهة أسلوب «إحراج الخصم» عبر إلقاء هذا السؤال المُلتهب المُستقوي أصلاً بمناخ مأزوم تنعدم فيه حرية التعبير، فإن طرح السؤال ذاته بهذه الفجاجة يعكس ضحالة معرفية. فمن ناحية أولى ما هو بالضبط الإسلام الذي يحيل عليه السؤال، وما هي السياسة بالضبط؟ الإسلام الوارد في التساؤل هنا لا يمكن فصله عن فهم السائل، بمعنى أن «الإخواني» سوف يكون الإسلام بالنسبة له هو «الإسلام الإخواني»، أو كما يفهمه «الإخوان المسلمون»، وعلى الشاكلة ذاتها سيكون هناك «الإسلام السلفي»، و«الإسلام التحريري»، و«الإسلام القاعدي أو الداعشي»، و«الإسلام الدولتي»، الذي تتبناه هذه الدولة أو تلك.
وهناك أيضاً «الإسلام الشيعي الثوري»، و«الإسلام الشيعي غير الثوري»، و«الإسلام الحوثي»، إضافة إلى نسبيات أوسع حول «الإسلام العربي» و«الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وقائمة لا تنتهي من تعريفات منسوبة إلى كل فئة أو جماعة أو دولة تقول أنها هي وحدها التي تعرف وتفهم وتقدم «المعنى الصحيح» للإسلام. ويتناسل من كل تعريف من تلك التعريفات عشرات التعريفات التأويلية والانشقاقية التي يزعم كل منها بأنه يقف على «جوهر الإسلام» وبناء على ذلك الجوهر يبني علاقة مُفترضة مع السياسة ويموضع الدين إزاءها، وبالتالي ينافح بعماء أيديولوجي عن تعريف أحادي خلافي ليس إلا، ويريد لذلك التعريف ولموقع السياسة منه أن يكون ويصير «الدين» ذاته.
معضلة تعدد الفهم والتعريف للدين، مرة أخرى، ليست حصرية بالعرب والمسلمين بل طاولت كل الأديان بلا استثــناء، وكانت في محل ما أحد الآليات الدافعة إلى تحرير السياسـة من الدين والدين من السياسة في أكثر من سياق، وأهمها الأوروبي. فقد تبدى لكثر من المفكرين أن السمة السائلة والطيفية لتعريف الدين وتأويله حيال السياسة وفق الطرف أو الجماعة أو الفئة أو الدولة، تعني شيئاً واحداً فقط وهو شرعنة الفعل السياسي دينياً واستقواء طرف سياسي معين بالدين ضد أطراف أخرى. وعلى هذا الإيقاع قامت الحروب الدينية الطاحنة داخل كل حضارة أو ثقافة، وكانت أكثر دموية في الكثير من الأحيان من الحروب ضد الحضارات والأديان الأخرى. وهذه الحقيقة الواقعية والتاريخية في زمن البشر، أي دموية الحروب الداخلية في إطار الحضارة أو الدين أو الثقافة الواحدة، هي أهم ما ينقض أطروحة صدام الحضارات السيئة الذكر التي روجها بخفة المفكر الأميركي الراحل صاموئيل هانتنغتون. المهم هنا هو الإشارة إلى تكاثر الشواهد والتجارب التي تؤكد هذا الاستنتاج وذلك كله دفع إلى الخلاصات النهائية والصعبة التي رأت أن سياسة البشر تقودها المصالح والمساومات والتوافقات بعيداً من الدين الذي سيظل ويبقى مكوناً أساسياً من مكونات البشر الثقافية والروحية وملجأهم الأهم للخلاص الفردي وتقديم إجابات وجودية.
لكن الشيء بالغ الأهمية والأثر في الثقافات الدينيةليس الماضي كما حدث والتجربة كما وقعت، بل هو المخيال الجمعي والتاريخ المُتخيل لما حدث. فدائماً ما يُعاد صــــوغ الـــتاريخ بخاصة الديني - السياسي منه في حبكات معاصرة وحديثة تستهدف خدمة أهداف ومشروعات سيـــاسية، أو فهم محدد ومعين للدين. وتبعاً لهذه النقطة يمكن القول أن أحد أهم «إنجازات» (=أوهام) الإسلاموية الحــــديثة تمثل في تسويق «تاريخ إسلامي مُتخيل» عن ماضي العرب والمسلمين يتصف بالتسطيحية الهائلة وتخــليــــق آلية رياضية مباشرة بين «سبب ونتيجة» تقولان أن «تدين المجتمعات وأسلمتها يعنيان النصر والتقدم والازدهار»، ونشر ذلك كأحد مكونات الثقافة العامة.
لقد تسلل هذا التسطيح الفادح من الثقافة الحزبية الحركية إلى المناهج المدرسية ثم أصبح «مسلّمة» اجتماعية. ثم طُبقت هذه «المسلّمة» بانتقائية أفدح على مراحل وحالات من التاريخ الإسلامي للتدليل على صحتها، لكنها أغفلت الشطر الأعرض والزمن الأوسع والأكثف والأكثر غناء وخلافية من التواريخ العربية والإسلامية التي كانت الغلبة فيها للسياسة على حساب الدين، وبلغ الازدهار و «النصر» فيها ذرى عالية في وقت كان تدين الساسة والحكام كما تدين العامة أيضاً في أدنى نقاطه. باختصار، لم يكن خلفاء بني أمية وبني العباس سواء في المشرق أو الأندلس، ثم سلاطين بني عثمان، وملوك الصفويين في إيران، أو سلاطين المغول في الهند، وغيرهم كثر، عباداً وزهاداً يخضعون سياستهم وغزواتهم وإداراتهم وتحالفاتهم ومؤامرات بعضهم ضد بعض لتعاليم الدين وإرشاداته. تواريخ كل هؤلاء تشير إلى أن الدين كان يُوظف لتوفير الشرعية السياسية للحكم، وكان علماء الدين يحومون في الأعم الغالب حول السلطان و «شوكة الحكم» لتوفير المسوغات والمبررات لاستمرار بقاء هذا الحاكم أو تلك السلالة في الحكم.
وكان هذا السلوك هو السائد في طول جغرافية العالم العربي والإسلامي وعرضها، على رغم تعدد الدول والإمارات والسلطنات التي تمتع كل منها بشرعية دينية مفصلة على مقاسه وكانت نتاج خلط الدين بالسياسة الذي هدفه الأول والأخير كان «إخضاع العامة» ودحر الخصوم. تطورت أنماط الحكم وأساليبه في تاريخ البشر في القرون الأخيرة، وبهتت ثم زالت الحدود والفواصل بين «أهل الشوكة» و «العامة والدهماء»، ولم تعد هناك حاجة إلى شرعية دينية فوقية يتستر بها «أهل الشوكة» لتسويغ تحكمهم بـ «العامة». تطورت نظريات السياسة والحكم وإرادة وإدارة الشعب والعقد الاجتماعي والمشاركة السياسية والديموقراطية التي تقوم في مجملها على إنتاج انواع جديدة من الشرعيات السياسية والشعبية والانتخابية التي تعبر عن إرادة المجموع العام، وتُبقي تلك الإرادة الأداة الأولى والأهم في مراقبة السياسة والسياسيين. الدفاع عن خلط الدين بالسياسة يعني استدعاء زمن القرون الوسطى، ومنح السياسة والسياسيين كل الفرص لتوظيف الدين لمصالحهم بعيداً من المحاسبة والمراقبة والشفافية.
* كاتب وأكاديمي عربي