اجتثاث ثقافة الآخر...بربرية كامنة في كل إنسان
أحيانا يختفي إنسان دون أن ينتبه أحد لذلك. وقد لا نشعر بالفراغ بسبب ذلك، لأننا لا نعي أهميته، وعبر ذلك لا نعي أهمية هذا الفقدان. إن عدم الانتباه لذلك، يفضح لربما شيئا ما عن أولئك الذين لم يلتفتوا لذلك، والذين ما زالوا يعيشون بين ظهرانينا. لما توفي تزتيفان تودوروففي السابع من فبراير 2017 عن عمر يناهز السابعة والسبعين في العاصمة الفرنسية باريس، لم تكلف الملحقات الثقافية في الجرائد الألمانية نفسها عناء كتابة شيء ذي قيمة عنه.
لقد ذكرَتْ أنه ناقد أدبي من أصل بلغاري. وقامت بتعداد بعض من مؤلفاته، ولربما أشارت أيضا إلى أن اهتماماته الفكرية طبعها التعدد. هذا كل شيء. لكن لا ريب في أنه يمكننا قول ما هو أكثر من ذلك عن تزتيفان تودوروف. ففي عمق وجد، وأكثر من أي شخص آخر حلل الوجود الإنساني والصراع المحتدم بداخله بين الاحترام والحقد وبين التعايش والتدمير. أما أبحاثه فقد امتدت من "اكتشاف" أمريكا وحتى العمليات الانتحارية التي قام بها شباب في باريس سنة 2015، باسم "الدولة الإسلامية".
وفي السنوات الأخيرة لاحظ هذا المفكر بأن الإنسانية تقف أمام امتحان أخلاقي كبير، يتوجب عليها أن تنجح فيه، إذا أرادت أن تستمر بالوجود كحضارة. وفي هذا العالم المعولم، تزداد حدة السؤال عن طريقة التعايش مع الآخرين، وتودوروف يشترك مع مفكرين آخرين في تخوفه من التدمير الذاتي للإنسان. إن أبحاثه حول الأدب الروسي وكتاباته عن النظرية الأدبية تحتاج إلى تكريم خاص.
لكني هنا أريد الحديث عن تودوروف الناقد الثقافي والمؤرخ والمراقب للأحداث. كيف ولِمَ ومتى نكوِّن فكرة عن الآخر؟ أي صورة للآخر تنشأ وما نتائج ذلك؟ إن أفكار تودوروفتدور حول الأسئلة التي يطرحها اللقاء بين الثقافات. بل إن موقعا للحوار مع العالم الإسلامي يحمل اسم "قنطرة"، لا يمكن التفكير فيه، من وجهة نظر تاريخ الأفكار، دون تودوروف.
لم يدرس تودوروف الإسلام، ولكن لأسباب موضوعية امتلك الإسلام في دراسته الصادرة عام 1982 والتي حملت عنوان: "غزو أمريكا: سؤال الآخر"، حضورا مثيرا للدهشة. واستنادا إلى مراجع تاريخية يصف في هذا الكتاب لقاء الإسبان بالسكان الأصليين، وخصوصا الآزتيك. وقد انتهى هذا اللقاء بانهيار دولة الآزتيك، وإبادة -وفقا للتقديرات- لتسعين في المئة من هذا الشعب، وفرض المسيحية على ما تبقى منه. وفي قلب تحليل تودوروف نلتقي بقدرة الغزاة الإسبان، وعلى رأسهم هرنان كورتيس، على اعتبار ثقافة الآخرين مختلفة بشكل مبدئي عن ثقافته وعبر ذلك تبرير الحرب عليها.
ويمكن الإشارة هنا على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن اعتقاد زعيم الآزتيك موكتيسوما بأن كورتيز مبعوث الإله كيتسالكوت إليه، قد عمد كورتيس إلى دعمه عن وعي، وهو ما أثر سلبا على صمود الآزتيك. وفي الوقت الذي كان فيه الآزتيك يشعرون بعدم الأمان، كان الإسبان، بحسب تودوروف، في صراعهم مع هذا الآخر المختلف ثقافيا يعتمدون على تجاربهم خلال حرب استعادة الأندلس من أيدي المسلمين. إذ بالنسبة للغزاة الإسبان، فإن الآزتيك مثلوا بالنسبة لهم المسلمون الجدد (أو اليهود)، واللذين توجب قتلهم أو تهجيرهم أو إلحاقهم بالمسيحية.
وقد أطلق الإسبان اسم المساجد Mezquitas على معابد الآزتيك. وقامت محاكم تفتيش بمراقبة مدى تراجع "الإسبان الجدد" عن دينهم القديم، وهنا كان الإسبان يحتذون نموذجهم الذي طبقوه بالقارة العجوز على المسلمين واليهود.
لم يركب كولومبوس البحر لـ "اكتشاف أمريكا" (ولم يعرف حتى وفاته شيئا عن اكتشاف العالم الجديد). كان يريد اكتشاف طريق بحرية جديدة إلى شرق آسيا. وقد بين تزتيفان تودوروف أن كولومبس، الذي كان في خدمة الملك الكاثوليكي، كان يفكر أيضا في القدس. لقد أراد من خلال رحلته أن يجمع ذهبا وثروات أخرى من أجل تمويل حملة جديدة من أجل تحرير القدس من يد المسلمين، وبلغة أخرى، من أجل تمويل حرب صليبية جديدة. إننا نتعلم من ثدوروف بأن الإسلام مثل العدو الذي حرك غزاة أمريكا من الإسبان.
لقد أوضح بأن النخبة الإسبانية اختلفت حول سبل التعامل مع "الهنود". لكن أحد أهم الحجج التي قدمت من أجل خوض حرب لا تبقي ولا تذر ضدهم، وتدمير ثقافتهم، هو ممارسة الآزتيك لذلك الطقس البربري المتمثل في التضحية بالبشر.
وبشكل معبر يفضح تودوروف هنا جذور استراتيجيات شرعنة الاستعمار الأوروبي. "نحن" ممثلون عن ثقافة كونية متحضرة. وبالنسبة للغزاة الإسبان، مثلت المسيحية هذه الثقافة. وفي المستقبل سيتم الاستناد اختياريا إلى حقوق الإنسان، نظريات التفوق العرقي أو التقدم التقني ـ الحضاري. ونظرا لذلك يمكننا الحديث عن استمرارية بين الحجج التي ساقها الغزاة الإسبان لتبرير سيطرتهم على المكسيك وحتى الحجج التي قد يتم الاستناد إليها اليوم باسم قيم كونية لتبرير التدخلات العسكرية.
إن التخلص من صدام حسين ومعمر القذافي أمر "جيد"، لأنهما طغاة أقدموا على قتل معارضيهم. والحرب ضد طالبان "شرعية"، لأنها حركة تقمع النساء. وقصف إيران، قد يكون أمرا "صحيحا"، لأنها دولة تعدم المثليين الجنسيين.
إن أعمال ثدوروف تشحذ الوعي بهذه الاستمراريات التاريخية، دون أن يعني ذلك البتة أنه يقف على النقيض من القيم الكونية. فلقد كان واحدا من أفضل العارفين والمنافحين عن التنوير الأوروبي. لكنه ظل دائما يؤكد بأنه لا يتوجب فرض حقوق الإنسان على الثقافات الأخرى بالعنف. وهو أمر يصدق أيضا على النظام الديمقراطي، الذي يعتبره تودوروف أفضل نظام سياسي، ولذلك السبب أيضا هجر بلغاريا الشيوعية في الستينيات إلى فرنسا.
وفي السنوات الأخيرة تحدث تودوروف عن الأخطار المحدقة بالديمقراطية الغربية، ولا يتعلق الأمر هنا بأخطار خارجية، ولكن من داخل الديمقراطية نفسها، التي تعمل على خلق "أعدائها المقربين". وعبر هذا المفهوم يعني ثدروف معسكر الرأسماليين الجشعين من جهة والمعادين للأجانب من جهة ثانية. فقبل عشر سنوات حذر تودوروف من انتشار الأحزاب المعادية للأجانب في أوروبا، موضحا أوجه الشبه المتعلقة بخطاب العنصريين الفرنسيين في القرن 19 وخطاب الجبهة الوطنية اليوم.
ويعتبر ثدوروف أن التهجمات الروتينية على "التعدد الثقافي -التي تصدر حتى من أحزاب جماهيرية ووسائل الإعلام المعروفة- فعلا ضارا. وهو يستدل على ذلك فلسفيا، معتبرا بأن "الانسجام القومي" مجرد وهم. فهذا المفهوم يقوم على التصور العبثي الذي يقول بوجود كل اجتماعي ثابت. إن المجتمع هو برأيه صيرورة دينامية، والثقافات قابلة للتغير ويمكنها أن تجدد نفسها عبر الحوار واللقاء.
أما الآخر، فيتوجب اكتشافه لا تدميره. والأساسي بالنسبة للإنسان أن تكون له ثقافة، وهو يحتاجها كبديل عن محددات سلوكه التي تقوم على الغرائز والتي فقدها الإنسان خلال تطوره الطبيعي. إن تعدد الثقافات رحمة، لأنه في الحوار تكمن فرصة التعلم. وبدلا من محاولة إلحاق الآخر بنظام الأنا، يتوجب على كل إنسان الاعتراف بأن بداخله يكمن بربري.
ويصف تودوروف التقوقع على الذات، وعدم الرغبة في التعامل مع الثقافات الأخرى، كـ "شكل جديد من البربرية". وهو يعتبر "البربرية" مفهوما يملك قدرة تفسيرية مهمة. فهو يشمل كل ما تجعله الحضارة الإنسانية أمرا غير ممكن. ويحسب على ذلك الإرهاب والتعذيب الذي يرى في اعتماده من طرف إدارة جورج بوش أمرا مقلقا.
بعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر يتوجه ثدوروف ضد كل أولئك الذين أرادوا تفسير الإرهاب انطلاقا من الإسلام. إن حافز الإرهابيين لم يكن الاعتقاد بنظام قيمي ديني، ولكن الانتقام من سياسة الإذلال والعدمية. فما صنع إرهابيي باريس لم يكن انتماءهم إلى ثقافة متطرفة، ولكن لا انتماءهم إلى أي ثقافة كانت. إنهم بدون ثقافة. إن الأمر يتعلق بـ "اجثتات للثقافة" كما يصف ثدوروف الظاهرة، التي تسيطر على مجتمع الهجرة في أوروبا وهو ما يتوجب فهمه بشكل أساسي من أجل مواجهته. أما "الحرب على الإرهاب" فإنه يعتبرها مفرغة من أي معنى.
كتب تودوروف كثيرا عن خيانة المركزية الثقافية، والعنصرية، والقومية، والفاشية، والستالينية لأفكار التنوير والتسامح. شبح جديد، يتغذى على عناصر قديمة، قابلة للانفجار، يراود عصرنا. يكتشف تودوروف في النزعات العنصرية الأوروبية وفي سياسة حكومة بوش، نواة خيانة جديدة.
لقد رأى في تلاعب حكومة بوش بالوقائع، خاصية أساسية لها. وضد معرفة موضوعية، زعمت الإدارة الأمريكية وجود أسلحة بيولوجية للدمار الشامل في العراق. "إنه أمر ممكن إذن -رغم التعددية الحزبية وحرية الصحافة- إقناع ساكنة بلد تحكمه ديمقراطية ليبرالية بأن الحقيقي خاطئ والخطأ حقيقة"؟ هذا ما كتبة تودوروف عام 2008.
وهو عبر ذلك يفضح نواة المشكلة التي تواجهها اليوم الديمقراطيات الليبرالية. ففي رؤوس السادة الجدد في أمريكا، يلعب الإسلام دورا أكبر من الدور الذي لعبه في رؤوس الغزاة الإسبان في الماضي.
شتيفان بوخن
ترجمة: وفاء حسين
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017