حنا بطاطو يفكك أسطورة "القبيلة الأزلية" في العراق
في سياق إعادة قراءة تاريخ الشرق الأوسط تنبه عدد من المؤرخين والأنثروبولوجيين إلى أن هذا التاريخ (وبالأخص بعض البلدان العربية مثل بلدان الخليج العربي والعراق وأجزاء من سوريا والأردن وفلسطين) كثيراً ما نظر إليه بوصفه تاريخاً بارداً. فرغم التطور الحضري، الذي عرفته مدن هذا العالم، فإن القبيلة والفكر القبلي بقيا يمثلان مسودة النظام الاجتماعي، أو بنية العقل العربي، كما أشار لذلك المفكر العربي الراحل محمد عابد الجابري في كتابه» العقل السياسي العربي».
ومع كل اهتزاز عاشته المنطقة، كانت هذه الرؤية تعود لتفرض نفسها على النقاشات والصور النمطية حول السياسة وتاريخ المدن العربية. وفي حين لا يمكن إنكار وجود هذه المؤسسة ودورها الاجتماعي في العقود الفائتة أو في أيامنا، مع ذلك غالبا ما يتم التغاضي عن مسألة تتعلق بأسباب بقائها أو عودتها أحيانا للعب دور ما في المشهد العام، كما حدث في العراق وبعض المناطق داخل سوريا خلال السنوات الفائتة، في الوقت التي يشهد فيه العالم تحولا على مستوى المكان والحياة الاجتماعية والاتصالات.
البعض فسر هذه الإحيائية القبلية بوجود القبيلة الغارق في القدم في حياة هذه المنطقة، التي تعيش، وفق هذه التفسيرات، واقعا اجتماعيا ذا طبيعة انقسامية ونسبية في الأساس؛ لكن كما أشرنا في المقدمة يبدو أن هذه الدراما القبلية لم تصمد كثيرا أمام بعض المراجعات التي أخذت تشكك بهذه الصورة، وبأسطورة القبيلة الأزلية، لصالح رؤية تركز على دراسة دور هذه المؤسسات الاجتماعية في ظروف تاريخية معينة.
ففي دراسته عن قبيلة الكبابيش السودانية، وجد طلال أسد في سياق دراسته لتاريخها منذ منتصف القرن التاسع عشر، أن ما يفعله أبناء هذه القبيلة أو ما يميلون إلى فعله إزاء الآخرين، إنما هو نتاج ظروف تاريخية مختلفة، وأن مدى انخراطهم في الغزو والعمليات العسكرية (خلافا لصور البدوي الغازي أو النهاب) قد تبدل بصورة دراماتيكية بسبب التغير في نمط الإنتاج الاقتصادي، وما تبع ذلك من ضرورة بناء علاقات سياسية واقتصادية جديدة.
ولعل من بين الكتب والدراسات المهمة أيضاً التي حاولت تفكيك فكرة « القبيلة الأزلية» يمكن الإشارة الى كتاب» الشيخ والفلاح في العراق 1917/1958) للمؤرخ الفلسطيني الراحل حنا بطاطو؛ الكتاب بالأصل أطروحة للدكتوراه أعدها بطاطو في هارفارد بين عامي 1957 ـ 1958، وقد بقيت هذه الأطروحة منسية مقارنة بمجلداته الثلاثة حول العراق، قبل أن تقوم دار سطور العراقية بترجمتها بالتعاون مع صادق عبد علي طريخم.
سلطة الشيوخ: هل هي أزلية؟
يرى بطاطو أن سلطة الشيخ في واديي دجلة والفرات جاءت نتيجة للانحطاط الطويل الأمد للمدن، الذي أعقب انهيار الخلافة العباسية؛ فكانت هذه الفترة للشيوخ وعشائرهم فترة غزوات مستمرة وتغير سريع. وكان الوضع حينها يؤكد على قيم الشجاعة والحزم وسرعة الحركة.
لكن مع قدوم القرن التاسع عشر أدت الأحداث إلى زعزعة مركز الشيخ والقضاء على عزلته، وتفكيك تحالفاته العسكرية وتقويض مجاله المشترك المكتفي ذاتيا. وقد شعر الشيخ بتلك التطورات من خلال الضغط المباشر والمستمر من الحكومة التركية، التي سعت إلى عثمنة عالم القبائل، الذي طبع السياسة العثمانية المركزية على حساب نفوذ الشيوخ.
فالأتراك حاولوا مراراً التغيير المستمر، مثلاً في ائتلاف المنتفق القبلي القوي، عبر التغيير المستمر لشيوخ السعدون وتأليب أحدهم على الاخر، أو عبر تحويلهم من مجرد شيوخ يتلقون المكافآت إلى ملاك طابو لأراضي قبائل المنتفق. كما تشير الوثائق العثمانية إلى قيام الحاكم العثماني في النجف بتسميم أحد أبرز شيوخ الخزعل وهو الشيخ درب وإجبار حفيده على الالتحاق بالجهاد ضد روسيا، حيث قتل هناك. كما طالت الانقسامات زبيد وإلى حد أدنى شمر والدليم.
وفي الإمارات الكردية في الشمال الشرقي من العراق، تمزقت إمارات بهدينان وسوران وبابان بين الأعوام 1837/1852 وحل محلها حكم عثماني مباشر لكنه هش، إلا أن الأراضي تم تحويلها إلى الأسر القبلية الحاكمة. على سبيل المثال تم تسجيل مساحات شاسعة من الأراضي في الطابو باسم آل بابان وآل الجاف بيك زاد وآل الطالباني.
وفي السياق ذاته، يرى بطاطو أن التأثير الأكبر على الشيخ والقبيلة من المبادرة التركية جاءت من وسائل المواصلات النهرية الجديدة، خاصة بعد افتتاح قناة السويس عام 1869. وكان أول من تأثر قبائل شط العرب ودجلة القريبة من الخليج الفارسي، قبائل البصرة بشكل خاص، إذ أخذ اقتصاد الكفاف ينزاح شيئاً فشيئا الى اقتصاد السوق، وتم ربط هذه القبائل تدريجيا بالسوق العالمي وأصبحت تشعر بمغرياته وتقلباته، فالشيخ الذي لم تكن لديه سابقا الفرصة ولا الرغبة في استغلال رجال القبيلة، أخذ في وضعة الجديد كصاحب طابو أو مؤجر ينظر إليهم بطريقة جديدة على أنهم مصدر للربح.
قدوم البريطانيين وعودة مكانة الشيوخ
مع دخول البريطانيين عاد الشيوخ ليلعبوا دوراً جديدا في البلاد. ويعزي بطاطو هذه العودة للسياسات البريطانية في العراق خلال فترة العشرينيات. فقد تعرضت من جانب لضغط اقتصادي متواصل من لندن، ادى الى تخفيض هائل في القوات العسكرية البريطانية. ومن جانب آخر كانت هناك رغبة واضحة لدى البريطانيين في التنازل عن السيطرة البريطانية الفاعلة في العراق. وطالما أن القوة لا يمكن الحصول عليها من إنكلترا التي تحكمها العوامل الاقتصادية، توجب الحصول عليها من العراق نفسه، وبشكل رئيسي من خلال خلق توازن مناسب للقوى السياسية الداخلية.
فبينما سمح للملك أن يكون أقوى عسكريا من أي شيخ بمفرده، لكنه ترك أضعف من أي كتلة من الشيوخ إذا ما اجتمعت كلمتهم. لذا لم يكن الملك في السنين الأولى من الملكية سوى شيخ كبير يجلس في المدينة بدلا من الريف. وحتى فترة متأخرة بحدود 1933، اشتكى الملك فيصل بمرارة في مذكرة جرى تداولها بين مجموعة من الثقات، بأن هناك أكثر من 100 ألف بندقية، بينما تملك الحكومة 15 ألفا فقط.
وقد حاول الملك التغلب على هذه المعادلة، من خلال طرح فكرة التجنيد، فالتجنيد لا يقلل فقط من تكاليف الجيش الملكي، بل إنه يقوض مركز الشيوخ، وهي خطوة جوهرية لإدماجهم في الحياة الوطنية.
وهنا يرى بطاطو أن البريطانيين رفضوا فكرة التجنيد، لكن ما لا يوليه أهمية هنا هي مقولة أحد الشيوخ الذي أشار إلى أنهم يفضلون الالتحاق بابن سعود على أن يتم إلحاقهم بالتجنيد الإلزامي، حيث لا يراهم على طول كتابه سوى أدوات بيد البريطانيين، وهو ما يمكن تفسيره لكونه بقي متأثرا برؤيته اليسارية أو الماركسية، ولعدم قدرته على رؤية دور المحلي أو الفاعل المحلي في الخلافات التي كانت تجري بين الملك والبريطانيين في العراق. فكل ما كان يقوم به الشيوخ هو أخذ أموال من البريطانيين أو من الملك، وهو ما أدى وفقا لتفسيره، إلى تحول ثقافة الشيخ من البسالة العسكرية والشجاعة والرجولة إلى امتلاك أكبر وأغنى المقاطعات، فالأرض هو كل ما يدير حياته ورؤيته. فالفكرة الوطنية لم تكن محبذة وحتى مفهومة، إذ أن هدفهم هو الدفاع عن مصالحهم.
عودة بغداد: بداية أفول زمن الشيوخ
يعتقد بطاطو أن فترة الثلاثينيات في العراق، مثلت فترة عودة بغداد كمركز مؤثر في الحياة داخل العراق، وفي عودة المدينة أيضا لدورها. أصبحت الجماهير الحضرية وليست القبلية هي التي تسبب سقوط الوزارة، كما حصل خلال عام 1948 وانتفاضة 1952. ولم تحصل في الريف العشائري سوى انتفاضات محلية صغيرة تكسر الهدوء السائد وغير المستقر.
التحول الجديد أيضا تمثل في تغير العلاقة بين الملك والشيوخ؛ ففي الفترة التي سبقت هذه التحول كان الملك العراقي والشيخ ندين لبعضهما، لكن مع قدوم المدينة والجماهير الحضرية، بالإضافة الى انسحاب السلطات البريطانية في عام 1932، كل هذه العوامل لم تؤذن بأفول زمن الشيوخ، بل على العكس وجد الملك والشيوخ أنهم في خندق واحد في مواجهة صعود ضباط الجيش الشباب كقوة سياسية مستقلة، امتدت من فترة صعود نجم العسكريين ـ من 1936 بعد انقلاب بكر صدقي إلى 1941 حين فشلت حركة الضباط القوميين، التي عرفت باسم حركة رشيد عالي.
وخلال الفترة التالية من عودة الاحتلال البريطاني 1941 ـ 1945، أعاد البريطانيون تبني سياستهم السابقة بتقوية الريف العشائري، خاصة أن الحركة القومية العسكرية في عام 1941 استمدت قوتها من العناصر الحضرية، ولم تتلق سوى اللامبالاة وعدم الاكتراث من جانب الشيوخ.
كما أن الأمير عبدالله أدرك هو ونوري السعيد أن الشيوخ ليسوا هم العدو الحقيقي للمملكة، بل إن الجيش الملكي نفسه هو الذي لا يمكن الوثوق به، رغم أعمال التطهير الواسعة. وفي فترة 1946 و1958 وضع الملك والشيوخ وملاك الأراضي أيديهم بأيدي بعض كونهم يتعرضون الآن لتهديد حقيقي بسبب نمو طبقة يسارية، أو قومية متشددة متحالفة مع جماهير المدن. كل هذه العوامل مجتمعة أمدت الشيوخ بعمر إضافي آخر، رغم أنه سيكون قصيرا جراء الإطاحة في عام 1958 بالعائلة الملكية، الأمر الذي أثر بشكل كبير على حياة الشيوخ ومكانتهم ودورهم في العراق الجمهوري.
محمد تركي الربيعو
حقوق النشر: محمد تركي ربيعو 2019