الهولوكوست وشمال أفريقيا: ضحايا منسيون في ليبيا وتونس
مظلوميات الماضي يمكن تحويلها إلى رأسمال في الحاضر، لذا فالمنافسة على موقع الضحية تحتدم حول إثبات مظلومية بعينها، أو وضعها على قمة تراتبية المظالم. الهولوكوست هو المثال، والجميع يريد محرقته الخاصة، في لعبة لتبادل الاعتراف بتواريخ المعاناة. لكن المحرقة اليهودية ما زالت متمتعة بالاعتراف باستثنائيتها، إلى اليوم، ويرتكز هذا الاستثثناء على نوع من الحصرية، ليست يهودية فقط، بل أشكنازية. فسردية الهولوكوست متمركزة أوروبياً، حيث الضحايا والجناة من القارة العجوز. ومع تأسيس الدولة اليهودية، لم يكتسب الأشكناز تفوقهم من ثقافتهم الغربية أو عرقهم الأبيض فحسب، بل من فداحة معاناة مقارنة بيهود الشرق.
في كتاب "الهولوكوست وشمال أفريقيا"، من إصدار جامعة ستانفورد 2019، يجمع المحرران أومار بوم وسارة شتاين، 15 أكاديمياً متخصصاً في تاريخي الهولوكوست وأفريقيا، لإعادة فحص سردية المحرقة. تنفي مساهمات الكتاب صفة الأوروبية عن الهولوكوست، كما تنفي أيضاً أن ثمة هولوكوست واحداً في شمال أفريقيا، فالفصول المتعلقة بأوضاع اليهود في ليبيا أثناء الحرب تحت الحكم الفاشي، ولاحقاً تحت الاحتلال المزدوج، الإيطالي الألماني، عند مقارنتها مع بقية الفصول المتعلقة بتونس والجزائر والمغرب، يتضح تفاوت في الإجراءات التي واجهها اليهود في كل بلد على حدة. فتونس على سبيل المثال، كانت البلد الوحيد بين جيرانه الذي وقع تحت الاحتلال الألماني المباشر لمدة ستة أشهر، ما جعل بعض يهودها ينتهون إلى معسكرات الموت الأوروبية. وفي حين وجدت حكومة فيشي الفرنسية يدها مطلقة في الجزائر، لنزع الجنسية عن يهودها ووضعهم في معسكرات العمل، فإن وضع القانون المختلف للمغرب سمح لسلطانها باستثناء يهود بلاده من بعض الإجراءات الفرنسية، وإن لم ينجح في مد ذلك الاستثناء على اليهود الأجانب هناك.
وفي فصل متعلق بالعلاقات بين المسلمين واليهود في جنوب المغرب، يتضح أيضاً تفاوت في تأثير الحرب داخل البلد الواحد. فبينما تأثر يهود المدن والساحل المغربي بالسياسات الفرنسية المعادية لليهود، وكذا هجمات المستعمرين الفرنسيين ضدهم، فيهود الجنوب المغربي بالكاد تأثروا بالحرب، رغم محاولة السلطات الاستعمارية تأليب السكان المسلمين ضد مواطنيهم اليهود. وعلى خلفية تلك التباينات، يكشف الكتاب عن واقع شديد التعقيد على الأرض، فمعسكرات الاعتقال في الصحراء التونسية والتي رحل إليها يهود ليبيا، كان يحرسها ويديرها خليط من جنود إيطاليين وألمان وفرنسيين وعرب منخرطين في الجيش الفرنسي. بل ويتضح أن الكثير من معسكرات العمل بقيت على حالها بعد الإنزال الأميركي في شمال أفريقيا، فقوات الحلفاء فضلت ألا تزعج السلطات الاستعمارية الفرنسية إثناء الإعداد المشترك لتحرير أوروبا.
وبالإضافة للتدوين التاريخي، يفرد كتاب "الهولوكوست وشمال أفريقيا" عدداً من فصوله، لدراسة المذكرات والأعمال الأدبية المتعلقة بالهولوكوست وشمال أفريقيا، وبالأخص أعمال الكاتب التونسي اليهودي ألبير ممي، ومن بينها رواية "عمود الملح" 1935 وهي الأولى التي تناولت القضية بشكل أدبي. وأيضاً أعمال المغربي إديموند عمران المليح، والتي جاءت متأخرة، فأولى رواياته صدرت في العام 1980 بعدما تجاوز الستين من عمره. ومن الناحية الاكاديمية يبحث الكتاب في أسباب غياب شمال أفريقيا عن دراسات الهولوكوست، وتأخرها إلى حد أن أول مؤتمر بحثي يتناول الموضوع لم يعقد سوى في العام 2009، أي بعد أكثر من نصف قرن من المحرقة. وبالإضافة إلى المركزية الأوروبية التي غيبت أفريقيا بأكملها من السردية التاريخية للحرب العالمية حتى عقد التسعينات، فإن الهيمنة الأشكنازية على السردية الصهيونية مع حجب السلطات الفرنسية لأرشيفها الاستعماري، كانا من أكثر المحددات تأثيراً.
من الناحية النظرية، يعود الكتاب إلى أفكارالمنظّرة حنة آرندت التي تنسب الهولوكوست إلى البنية الاستعمارية الأوروبية. ففي الكولونيالية، يجتمع عاملان، هما ركيزة المحرقة: السياسيات العرقية كوسيلة لحكم الجسد، والبيروقراطية كأداة لفرض الهيمنة على المستعمرات. لم تؤخذ تنظيرات آرندت على محمل الجد لوقت طويل، ربما بسبب القناعة الواسعة باستثنائية الهولوكوست. واحتاج الأمر عقوداً لإثبات الصلة بين المحرقة وبنية الاستعمار من خلال الدراسة التاريخية.
فصلاً بعد آخر، يثبت الكتاب أن المعسكرات سابقة على الحرب، والإبادة أيضاً سابقة على الهولوكوست. فقوات الاحتلال الإيطالي التي وجدت في ليبيا فرصة لخلق "الإنسان الفاشي الجديد"، كانت قد أبادت عُشر سكان ليبيا، أي واحد من بين كل ثلاثة رجال قادرين على حمل السلاح، أثناء العقود الثلاثة الأولى من حكمها. أما معسكرات العمل والفصل على أسس عرقية، فهي ممارسات انتهجها الاستعمار الإيطالي في شرق أفريقيا، قبل أن ينقلها إلى إيطاليا نفسها أثناء الحرب، ومنها إلى المستعمرات مرة أخرى. وينسحب الأمر نفسه على الإدارة الفرنسية لشمال أفريقيا، فمعسكرات العمل والسخرة وعمليات القتل الجماعي والفصل العرقي والتجريد من الحقوق بشكل كامل على أسس عرقية، كانت جزءاً من البنية الاستعمارية الفرنسية، حتى أن الضحايا أثناء الحرب لم يجدوا أي شيء غير اعتيادي في معسكرات العمل والعقوبات الجماعية في شمال أفريقيا. أما يهود شمال أفريقيا، الذين تمتعوا بامتيازات تحت الحكم الفرنسي، فإن ما حدث لهم أثناء الحرب، هو مجرد إعادتهم "سكان أصليين" مثل مواطنيهم من المسلمين.
بذلك لا يكتفي "الهولوكوست وشمال أفريقيا" بإعادة وضع اليهود الشرقيين داخل سردية الهولوكوست، بل يذهب أبعد، أي موضعة الهولوكوست كله داخل السردية الاستعمارية، طارحاً أسئلة حول ضحايا الحكم الاستعماري المنسيين، وعن أسباب تغييبهم في السردية التاريخية والحق في الذاكرة.