أحلام طهران النووية...أوليات أيديولوجية واملاءات جيوسياسية
يسود الاعتقاد في إيران بأن الحكومات الموالية للغرب في منطقة الشرق الأوسط ستسقط، إن آجلا أو عاجلا، لأن الفروق الثقافية بين الجماهير وبين النخبة هائلة. هكذا يقولون في طهران التي مازالت تمارس سياسة خارجية إيديولوجية في دوافعها. هذه النخب سوف تُزاح عن السلطة على المدى المتوسط أو البعيد، إما عن طريق الانتخابات أو عبر ضغط الشارع، ولهذا يقيّم قائد الثورة خامنئي "الربيع العربي" تقييما إيجابياً.
عندئذ ستحل محل تلك النخب الموالية للغرب نخب أخرى جديدة غير متأثرة بالغرب، بل ليست على استعداد للتعاون مع الولايات المتحدة، وهو ما يعني حتماً نهاية السيادة الغربية على العالم الإسلامي. إذا اتبعنا هذا المنطق فإن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة و"اختفاء النظام الصهيوني"، أي إسرائيل، مثلما حدث للنظام العنصري في جنوب أفريقيا، ليس إلا مسألة وقت، فقط لا غير. هذه العملية ستثمر في النهاية عن "اندماج سلمي بين الجنوب والجنوب"، وذلك على أساس اقتصادي وثقافي وسياسي، بل وربما على أساس عسكري، وعندئذ ستلعب إيران، بفضل حجمها وموقعها، دورا مركزيا في المنطقة.
ولكن إلى أن يتحقق ذلك وتصبح هذه الرؤية واقعاً، على إيران أن تعزز دورها في المنطقة، سواء كقوة إقليمية أو كقوة إسلامية قائدة. غير أن إيران ليس لديها سوى مقومات ضئيلة تمكنها من تعزيز دورها الريادي في المنطقة: فبعد الحرب الطويلة مع العراق (1980 – 1988) كانت جمهورية إيران الإسلامية قد استنفدت قوتها الاقتصادية والعسكرية، تماماً مثل العدو العراقي اللدود. على هذه الخلفية جاء إحياء طهران للبرنامج النووي، فكان وسيلة مثالية لتعزيز أحقيتها في قيادة المنطقة.
والأسباب في ذلك عديدة: فالبرنامج النووي أرخص وأبسط بالمقارنة مع إعادة بناء جيش حديث وقوي يضم سلاحاً جوياً وبحرياً، إذ إن الجيش الإيراني ما زال حتى اليوم قوياً نسبياً من ناحية العدد، غير أن يواجه مشاكل كبيرة في عملية التحديث والتسليح، كما يعاني قصوراً كبيراً في مجالات الدفاع والسلاح الجوي والبحري – على العكس تماماً من جيرانها العرب المزودين من الغرب بأحدث تقينات الدفاع الجوي وأكثر الأسلحة تقدماً.
الشعبية العالية للبرنامج النووي
على نفس القدر من أهمية الجوانب العسكرية المحتملة، هناك أيضاً أهداف سياسية تنموية، إذ يُنظر إلى التكنولوجيا النووية في جمهورية إيران الإسلامية باعتبارها المقياس الأهم للتقدم التكنولوجي. ولذلك فإن التصريحات العلنية تشير على الدوام وبكل فخر إلى إنجاز المهندسين الإيرانيين في هذا المجال. وتتضح أهمية هذا الجانب تماماً عندما نلاحظ الشعبية العالية للبرنامج النووي لدى الشعب الإيراني. ربما يرجع قسم كبير من تلك الشعبية إلى البروباغندا الحكومية، غير أننا نستطيع بالرغم من ذلك أن نقول بيقين شبه مؤكد إن الإيرانيين يدعمون البرنامج النووي الإيراني الذي يدّعون أنه سلمي.
لم يعلن الغرب اعتراضات على الجوانب السياسية التنموية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، أي تدريب مهندسين إيرانين وبناء البنية التحتية التقنية والأكاديمية اللازمة. على العكس، وكما تبين مساعي دبلوماسية عديدة (في عام 2005 على سبيل المثال وفي عام 2009)، ومثلما يبرهن خصوصاً العرض الذي تقدم به الغرب في عام 2008 والذي أطلق عليه E3+3، فإن أحداً لم ينازع جمهورية إيران الإسلامية حقها في الاستخدام السلمي للتكنولوجيا النووية، بل لقد تم الاعتراف صراحةً بهذا الحق. غير أن تلك المساعي فشلت في نهاية المطاف بسبب نقص الثقة المتبادل بين الطرفين، وهو ما تفجر في النزاع حول مسألة "الحق في تخصيب اليورانيوم".
مسألة "شرف قومي"
لقد رفعت البروباغندا ما يُطلق عليه "الحق في تخصيب اليورانيوم" أو "الدورة النووية الكاملة" إلى مصاف قضايا الشرف القومي. إلا أن هذا الحق غير منصوص عليه في اتفاقية حظر الأسلحة النووية، ومع ذلك فإن عديداً من الدول، لا سيما من دول العالم الثالث، تستند على حقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية للوصول إلى الحق في تخصيب اليورانيوم. غير أن المشكلة الآن هي أن تخصيب اليورانيوم يمثل التكنولوجيا الأساسية التي تفتح الباب التكنولوجي أمام انتاج الوقود النووي الذي يمكن أن يُستخدم في انتاج أسلحة، أي أنه يفتح الباب أمام برنامج الأسلحة النووية. وعبر هذا البرنامج تستطيع جمهورية إيران الإسلامية بالفعل ترسيخ أحقيتها في قيادة المنطقة، حتى دون أن تقوم بتصنيع أسلحة نووية، إذ أن تَحوّل إيران إلى دولة قادرة على تصنيع الأسلحة النووية يعني أنها أصبحت فعلياً قوة نووية في المنطقة، وبالتالي يجب على الآخرين أن يعترفوا بها قوة إقليمية مسيطرة.
إذا حدث ذلك، فستكون له تبعات مختلفة بالنسبة لدول المنطقة: بدايةً سيعني ذلك ضربة قاصمة للمملكة العربية السعودية التي ستتوارى عندئذ وتختفي عن الساحة. بالإضافة إلى ذلك فإن الدول المجاورة لإيران على الخليج العربي ستجد نفسها مجبرة على تعديل سياستها الخارجية والأمنية لكي تتواءم مع القوة الإيرانية النووية "الافتراضية"، وهو ما يعني تقليصاً من النفوذ السعودي. غير أن إسرائيل هي الدولة التي ستكون الأكثر تأثُراً بقدرة إيران على حيازة أسلحة نووية، إذ إن ذلك سيعني في المقام الأول كسر احتكار إسرائيل للسلاح النووي في المنطقة (الأسلحة النووية الباكستانية موجهة ناحية الهند ولذلك لا يتم ذكرها في هذا السياق).
تضيق الخناق على إسرائيل
إلى ذلك فإن الخناق يضيق على إسرائيل من جهات أخرى: لقد قامت كافة دول المنطقة تقريباً بالتوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وكذلك المعاهدات الدولية الأخرى المشابهة لحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل، وذلك بناءً على اقتراح مصري. ولهذا فإن الضغط الدبلوماسي على إسرائيل للحاق بهذه الدول هو ضغط هائل. من ناحية أخرى فإن المجتمع الدولي يطالب بإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. فإذا تم إنشاء مثل تلك المنطقة في يوم من الأيام، فإن إسرائيل ستظل محتفظة بالإمكانيات التقنية التي تسمح لها بإنتاج أسلحة نووية، غير أنها ستجد نفسها مجبرة على تسليم الأسلحة النووية التي تمتلكها الآن. ويبدو هذا السيناريو الآن غير محتمل، ولكنه من الممكن أن يكون واقعياً على المدى المتوسط أو المدى البعيد، وسيكون مطلباً سياسياً يمكن الجهر به دائماً في أروقة الأمم المتحدة.
ولهذا لا يتعجب المرء عندما يكون الإسرائيليون هم أكثر نقاد البرنامج النووي الإيراني حدةًَ. من ناحية أخرى فإن الخطاب الإيراني العدواني (انكار الهولوكوست والحديث عن تدمير إسرائيل كمثال) قد أقنع الشعب الإسرائيلي بأن الإسلاميين الإيرانيين يسعون بجدية إلى تدمير إسرائيل، وهو ما زاد ضغط الرأي العام على الحكومة الإسرائيلية لكي تبدي صلابةً في موقفها تجاه طهران.
فقدان تام للثقة
أما إيران فهي تواجه تحدياً مزدوجاً: فهي، من ناحية، تريد بأي ثمن تجنب المواجهة العسكرية، ولهذا فهي تتحرك في إطار معاهدة حظر نشر الأسلحة النووية والاتفاقيات الدولية الأخرى. وهكذا نرى أن إيران تتعاون مع وكالة الطاقة النووية في فيينا، وتتفاوض حول العرض الذي أطلق عليه E3/3؛ ومن ناحية أخرى فإن النظام الإسلامي يجد نفسه مجبراً على مواصلة التطوير التكنولوجي لبرنامجه النووي إذا كان يريد ترسيخ أحقيته في قيادة المنطقة.
هذا التناقض يتجلى بصورة واضحة في مثال هام: صحيح أن إيران وقّعت على البرتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، غير أنها لم تقم بتنفيذ المعاهدة. والنتيجة هي فقدان كامل للثقة بين إيران والمجتمع الدولي، وهو ما يظهر في عرض E3/3. بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة في يناير (كانون الثاني) 2010 صدر قرار الأمم المتحدة رقم 1929 (وذلك في يونيو / حزيران 2010) الذي ينص على عقوبات لإيران واسعة النطاق. منذ ذلك الحين، على أقصى حد، أصبح هناك واقعاً قانونياً دولياً جديداً. هذا الواقع ستحاول طهران أن تلتف حوله، مثلاً عن طريق محاولة إصدار قانون خاص بمساعدة البرازيل وتركيا، أو ستتتجاهله تماماً وذلك بأن تحاول إعادة الأمر إلى ما كان عليه. إن زيادة التوترات في الشهور الأخيرة لا بد من رؤيتها على خلفية فقدان الثقة تلك والتي ترجع في نهاية الأمر إلى أن إيران تولي رؤاها الإيديولوجية في المنطقة أهمية أكبر من الواقع النووي.
فالتر بوش
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2011
فالتر بوش متخصص في الشؤون الإيرانية، وهو يعمل لدى المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وموضوع بحثه هو "عمليات التحول السياسية لدى الأصوليين الإيرانيين الجدد".