حروب هوياتية سامة متصاعدة في أرض العرب والمسلمين
لم تمر الدول العربية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بتقلبات حاسمة كتلك التي تمر بها الآن. فالصراعات قد نشبت في ما لا يقل عن تسع دول عربية، والمذابح وصلت إلى مستوى لا يمكن تخيله من البربرية. أما التوتر، فإنه في ازدياد حتى داخل الدول التي تنعم بسلام نسبي. كما أن منظومات القيم التي دامت لفترة طويلة بدأت تضعف، إضافة إلى تزعزع الأسس المجتمعية التي كانت في فترة ما متماسكة.
القتال في سوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن مزق مجتمعات بأكملها. كما أن التطهير العرقي الذي ينفذه تنظيم "الدولة الإسلامية" دمر قروناً من التعايش العرقي والثقافي والديني، وأدى إلى نزوح من يقرب من مليوني شخص من منازلهم.
وبالرغم من أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موطن لنحو خمسة في المائة من سكان العالم، إلا أنه مصدر لنحو ثلث لاجئيه. ففي سوريا وحدها، أجبر 11 مليون شخص على ترك منازلهم والنزوح، داخل البلاد وخارجها.
هذه التحركات السكانية تضاعف من التوترات المجتمعية القائمة مسبقاً في أنحاء العالم العربي. ففي لبنان، على سبيل المثال، أدى نزوح أكثر من مليون لاجئ سوري إليها إلى تنامي القلق من تأثير ذلك على التوازن الطائفي، والذي يؤثر بدوره على النظام السياسي اللبناني الهشّ.
تحول في هوية المنطقة
هذه التقلبات الديمغرافية الضخمة تؤدي إلى تحول لا يمكن مجابهته في الهوية الاجتماعية والسياسية للمنطقة، ذلك أن الأطراف المتحاربة في المنطقة تعتمد على سياسات الهوية الطائفية من أجل حشد الدعم الشعبي، مما يعني زيادة حالة الاستقطاب بين السكان على طول الخطوط الدينية والعرقية والمذهبية. فالمملكة العربية السعودية وإيران تستخدمان الانقسامات الداخلية في اليمن - الناجمة عن مظالم سياسية واجتماعية واقتصادية تاريخية - في حربهما بالوكالة هناك، والذي يؤدي بدوره إلى تحول هذا الصراع إلى تجلّ للانقسام الشيعي السني التاريخي.
وحتى في الدول التي لا تعاني من الحروب، فإن سياسات الهوية السامة باتت واسعة الانتشار وأكثر تقبلاً من قبل. ففي مصر، على سبيل المثال، فقد أبدى الجمهور المصري عموماً دعماً للقمع الوحشي لجماعة الإخوان المسلمين ومناصريها.
هذه التقلبات تزيد من فقر الدول العربية الفقيرة أساساً وتقلل من الفرص السانحة لمواطنيها - هناك نحو 21 مليون طفل عربي لا يذهبون إلى المدارس، وأكثر من 50 مليون عربي يصنفون على أنهم فقراء. أما في سوريا، فإن 80 في المائة من سكانها غير قادر على تلبية الاحتياجات الأساسية. وفي اليمن، فإن أكثر من ثلث السكان، أي نحو 11.5 مليون نسمة، يعاني من نقص الأمان الغذائي حتى قبل الصراع، أُضيف إليهم مليونان آخران منذ بدء الصراع.
هذه الاضطرابات خلقت أرضاً خصبة للشباب المتطرف المسلح. تونس، التي اعتبرت مثالاً يحتذى به في نجاح الثورة، تعتبر أكبر مصدر للمقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية"، إذ يقدر عدد التونسيين الذين انضموا إليه بنحو ثلاثة آلاف شخص، أغلبهم من الشباب. وتشير الأدلة المستقاة من شهود العيان إلى أن الكثير من أطراف النزاعات باتوا يستخدمون الأطفال لخوض حروبهم. ففي اليمن، يشكل الأطفال نحو ثلث المقاتلين. أما تنظيم "الدولة الإسلامية"، فيتفاخر بأنه يدرب الأطفال على خوض معارك المستقبل.
القوة الغاشمة بدل جهود المصالحة
وبدلاً من طمأنة حالة عدم الرضى أو محاولة إطلاق عملية مصالحة، فإن الحكومات العربية تستخدم القوة الغاشمة لقمع أي مساحة ممكنة للانشقاق أو النقاش الحر. وباسم الأمن القومي، يُحرم مواطنون من جنسيتهم ويتم إطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع واحتجاز الآلاف تعسفياً في السجون والمعتقلات. ففي مصر، يكمن الخطر في الميادين والجامعات وملاعب كرة القدم وحتى في الحمامات العامة، بالنظر إلى أن أجهزة الأمن المصرية اعتقلت ما بين 22 و41 ألف شخص العام الماضي 2014.
كما أن التعذيب والاختفاء القسري واسعا الانتشار أيضاً. ففي سوريا، هناك حديث عن 85 ألف مواطن اختفوا قسرياً منذ بداية النزاع هناك. كما تم تعذيب 12 ألفاً آخرين بطرق وحشية.
إن إقصاء المواطنين من العمليات الديمقراطية الرسمية تجبر المعارضة السياسية على اللجوء إلى الظلال، وهناك خطر بأنها قد تتحول إلى العسكرة هناك. ففي مصر، تتزايد الدعوات إلى استجابة أكثر تطرفاً وعنفاً لقمع الحكومة. أما في الأردن والمغرب، فإن السلطات تواجه تحدياً متنامياً في احتواء النزعات المسلحة.
وكلما لجأ الحكام إلى القمع العسكري بدل النقاش والاحتواء، فإنهم يخسرون المزيد لصالح مجموعات مثل "الدولة الإسلامية"، وهي الكيانات الوحيدة في المنطقة التي تعرض نظرة واضحة - رغم وحشيتها ورجعيتها - عن المستقبل.
وهنا، فإن نهاية للصراع في سوريا والعراق واليمن يتطلب إجماعاً وطنياً وإقليمياً ودولياً. لكن تجنب العنف الكارثي في المنطقة سيتطلب عودة الحكومات إلى الأساسيات واستحداث عمليات سياسية احتوائية وإنهاء العنف المصادق عليه من الدولة وضمان العدل ومخاطبة الظلم المجتمعي والاقتصادي.
بالطبع، هذه قائمة طويلة، ولكن مستوى التحديات القائمة يتطلب فكراً شجاعاً ومبادرات جريئة وصدق نية لدى القادة السياسيين والتنمويين في الدولة والمنطقة، وإلا فإن العنف سيلتهم المنطقة وسيمتد خارجها.
مها يحيى
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت/ قنطرة 2015 ar.qantara.de
مها يحيى باحثة مشاركة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط