الأردن في عين العاصفة....حرب لا هوادة فيها ضد بربرية "فقه الدماء" الداعشية
الصورُ الثابتة التي بثتها بعض المحطات التلفزيونية العربية وغير العربية لإعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة، من قِبل تنظيم داعش، دفعتني بشاعتها إلى عدم مشاهدة الشريط الذي تداولته مواقع التواصل الاجتماعي يوم الثلاثاء الماضي. لقد قاومت حب الاستطلاع داخلي بضراوة، ولم أشاهد الشريط حتى هذه اللحظة. وما شعرت به ككائن بشري، وليس كمواطن أردني فقط، هو الخَدَر (numbness) في أطرافي، بل في أنحاء جسمي كلّه. وقفت متخشّبًا فاقدًا القدرة على الفهم أمام وصف إحدى المحطات التلفزيونية لوقائع الشريط، مشهدًا مشهدًا، وصولاً إلى مشهد حرق الطيار حيًّا وهو يصارع النار التي تأكل جسده حتى تحولّ إلى كومة سوداء من الرماد.
هذا شيء لا يتحمّله الجهاز العصبي للبشر! ولهذا، لا شيء يماثل الصدمة التي شعر بها الأردنيون عندما تلقوا نبأ حرق الطيار، الذي كان أسيرًا لدى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، عبر فيلم، يزيد طوله عن عشرين دقيقة، بثه التنظيم على أحد مواقعه الإلكترونية. صدمةٌ بدت وكأنها ستقسم الشعب الأردني وتهيّج الشارع على النظام الذي قال البعض إنه يشارك في حرب ليست حربه، وقال البعض الآخر إنه تقاعَسَ في العمل على إنقاذ الطيار من أسر داعش مقابل إطلاق سراح الانتحارية العراقية ساجدة الريشاوي، التي فشلت قبل عشرة أعوام في تفجير نفسها في أحد فنادق عمان عام 2005، وحُكم عليها بالإعدام الذي لم يُنفّذ إلا بعد تأكّد مقتل معاذ الكساسبة.
أحد فنادق عمان عام 2005، وحُكم عليها بالإعدام الذي لم يُنفّذ إلا بعد تأكّد مقتل معاذ الكساسبة..
بربرية داعش وانقلاب السحر على الساحر
لكن الأهداف، التي خططت داعش لتحقيقها، بدت وكأنها جاءت بعكسها، فبدلاً من إحداث انقسامٍ في المجتمع الأردني وتأليبِ مشاعرِ النقمة على النظام السياسي تماسكَ المجتمع الأردني وتصاعدت الدعوات لشن حرب لا هوادة فيها ضد التنظيم الإرهابي الذي يتغطّى بشعارات الإسلام وإقامة دولة الخلافة، كما عبّر الملك الأردني عبد الله الثاني في أكثر من مناسبة، كان آخرها حينما زار بيت عزاء الطيار الكساسبة المقام في بلدته "عَيّ" في منطقة الكرك الأردنية الجنوبيّة.
الملك توعّد بشن حرب مستمرة للقضاء على التنظيم والانتقام للطيار الذي قتل بطريقة بشعة مخالفة لتعاليم الديانة الإسلامية السَمْحة "التي تحرّم قتل الأطفال والشيوخ والنساء والأسرى وقطع الأشجار في الحروب". وقد سُمعت، أثناء زيارة الملك لبيت عزاء الكساسبة، أصوات الطائرات الحربية الأردنية وهي تُحلّق في المنطقة، فيما يبدو تطمينًا لذوي الطيار المقتول حرقًا، وللشعب الأردني، أن الحرب على داعش سوف تكون، من الآن فصاعدًا، أكثر شراسةً وتواصلاً وتحديداً للأهداف.
لقد كان واضحًا من ردود فعل الشارع، والتعليقات الصحافية، وأعمدة الرأي التي تنشرها الصحف الأردنية، أن المواطنين الأردنيين يدركون أن الرسالة التي أرادت داعش بعثها من خلال بث الشريط المصوّر، الذي يتضمّن مشهدًا بشعًا لا إنسانيًا، هي رسالةُ تخويف وتهديد لبثّ الرعب في قلوب العسكريين قبل المدنيين.
تنظيم الدولة الإسلامية: من "إدارة التوحّش" إلى "فِقهِ الدماء"
وكما يقول محمد أبو رُمّان، المتخصص في الحركات الإسلامية، فإن تنظيم الدولة الإسلامية قد انتقل من مبدأ "إدارة التوحّش" إلى "فِقهِ الدماء"، والتعبيران هما عنوانان لكتابين ألفهما مفكّران من مفكّري التنظيم حيث أصبحت داعش لا تتواني عن قتل أيّ شخص يخالفها الرأي ولو كان مقاتلاً من مقاتليها. فما يحكم التنظيم الآن هو ما يُسمّى في علم السياسة "الصوابُ الأيديولوجي" (Political Correctness) الذي يجعل المتحكمّين في التنظيم يركزون على رصّ صفوف أنصارهم، عبر تسريع آلة القتل، وذبح المعارضين، وبثّ عمليات بشعة يقوم بها التنظيم (كعملية حرق الطيار الأردني معاذ الكساشبة حيًّا في قفص حديدي، وبثّ عملية الحرق على مواقع التواصل الاجتماعي) بدلاً من اكتساب أنصار جدد للقتال في صفوفهم.
لكن من الواضح أن داعش قد اكتسبت عدوًا شرسًا الآن، ورَصّت لا صفوف الشعب الأردني فقط ضدّها، بل إنها دفعت الدول العربية المشاركة في التحالف الدولي، الذي تقوده أمريكا لمحاربة داعش، لتغيير مواقفها الاستراتيجية والانخراط أكثر في الحرب على هذا التنظيم الإرهابي، الذي يجد تأييدًا في صفوف سنّة العراق وسوريا، ولكنه لا يمتلك قواعد شعبية واسعة في بلد مثل الأردن.
الأردن موحداً في قلب الحرب على تنظيم إرهابي شرس
ومن المؤكد أن المتعاطفين معه قد نقصت أعدادهم الآن، بعد مقتل الكساسبة، أو أنهم على الأقل باتوا أكثر حذرًا وخوفًا من الغضب الشعبي قبل أن يخافوا من تحقيقات جهاز المخابرات الأردني، المعروف بقوته في المنطقة، معهم واتهامِهم بتشجيع الإرهاب.
الأهمُّ من ذلك هو أن الأردن يجلس الآن في عين العاصفة. فبِغَضِّ النظر عن قدرة النظام السياسي الأردني على حشد الشعب حوله، ودفعِه المجتمعَ (المُكَوَّن من أصول فلسطينية وأردنية إضافة إلى أعراق أخرى شركسية وشيشانية بصورة أساسية) إلى تناسي خلافاته ومشكلاته والتفاوت الحاد في مستويات الدخل، والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وارتفاع الأسعار المستمر، فإن الأردن بات، بصورة لم يتوقعها قبل أيام قليلة، في قلب الحرب على تنظيم إرهابي شرس لا يتوَرَّع عن الذبح، وصولاً إلى الحرق والتباهي بأفعاله الإجرامية أمام سَمْعِ العالم وبصره.
فخري صالح
حقوق النشر محفوظة للكاتب ولصحيفة نيو تسوريشر تسايتونغ 2015
فخري صالح، كاتب وناقد ومترجم معروف عمل في الصحافة الأردنية والعربية مراسلاً وكاتباً، ثم محرراً أدبياً لعدد من الصحف والمجلات المرموقة. يكتب بصورة منتظمة في الصحف والمجلات الفصلية والشهرية العربية. شغل منصب النائب الأول للأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، ونائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين. وهو رئيس جمعية النقاد الأردنيين. قبل أسابيع صدرت الطبعة الجديدة من كتابه «النقد والمجتمع»، الصادر عن الدار العربية للعلوم– ناشرون في بيروت.