عجز باكستان أمام كورونا بسبب قوى دينية متزمتة
أعلنت باكستان مطلع شهر شباط/فبراير 2020 عن أولى الإصابات بوباء كوفيد-19 في البلاد. وللحد من انتشار الفيروس، فرضت حكومات الأقاليم الباكستانية تدابير مختلفة لحظر التجوال ولمنع حدوث تجمعات بشرية، بما في ذلك حظر التجمعات لأداء صلاة الجمعة وسواها من الصلوات في المساجد.
وقد أثارت هذه الإجراءات ردود فعل عجيبة من قبل القوى الدينية في البلاد. إذ رأت بعض هذه القوى فيها هجوماً على المتدينين، في حين عدتها بعض القوى الأخرى بمثابة مؤامرة من قبل الأميركيين تهدف إلى تدمير الإسلام.
وقد أعلن أهم ممثلي الإسلام السني في باكستان، خلال مؤتمر صحفي عُقد في 15 نيسان/أبريل 2020، أنهم لن يلتزموا من الآن فصاعداً بالقيود التي تفرضها الحكومة، وبأنهم سيعيدون فتح المساجد للصلوات اليومية ولصلاة الجمعة خلال شهر رمضان حالاً وبدون إبطاء، كما وقد تم سابقاً بالفعل خرق هذه التدابير بصورة متعمدة في أماكن عدة.
وأحدث الأمثلة على ذلك الجهود العبثية التي بذلتها قائدة شرطة إحدى مناطق مدينة كراتشي، شرفات خان، لتفكيك حشد من الناس اجتمعوا لتأدية صلاة الجمعة، بلغ تعداده مئات الأشخاص في أحد المساجد؛ حيث لم يكن بمقدور عناصر الشرطة إلا أن يقفوا متفرجين، عاجزين عن فعل شيء حيال هذا الانتهاك الجماعي لإجراءات الحظر، بل وانتهى الأمر بمهاجمة الحشد لعناصر الشرطة، فانسحبت الشرطة في نهاية المطاف خائبة دون تنفيذ المهمة التي جاءت لأجلها.
الإهمال والجهل
يُحجم علماء المسلمين في باكستان عن انتقاد مثل هذه الانتهاكات، حتى أن كلاً من رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان والرئيس الباكستاني عارف علوي لا يجرؤ أي منهما على إدانة هذه الانتهاكات بصورة رسمية. فالتشكيك في أفكار علماء الدين التي عف عليها الزمن يعد من المحرمات في باكستان، وهو ما ساعد على الانتشار فيروس كورونا مؤخراً في باكستان بصورة رئيسة عبر الحشود البشرية المجتمعة خلال المناسبات الدينية.
وقد تزامن الإعلان عن حالة الإصابة الأولى بفيروس كورونا في المنطقة في شهر شباط/فبراير 2020 مع سماح الحكومة الباكستانية للحجاج الشيعة بالعودة من إيران بدون إجراء الفحوصات المناسبة، وكانت الحكومة الباكستانية تعلم تمام المعرفة أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد أصبحت إحدى البؤر الخطيرة لانتشار الفيروس.
وبالإضافة إلى ذلك، سُمح في الوقت نفسه لجماعة التبليغ بعقد اجتماع في لاهور، شارك فيه ما يقارب المئة ألف مشارك، وانطلقت منه في وقت لاحق مجموعات من الوعاظ في بعثات دينية عمّت جميع أنحاء البلاد، ما عزز انتشار الفيروس في جميع أرجائها.
أسلمة المجتمع و"ثقافة الكلاشينكوف"
وفي الحقيقة، فإن سياسة غض الطرف عن مكائد القوى الدينية في باكستان خلال جائحة كورونا ليست إلا نتيجة لعقود من سياسة الاسترضاء التي اتبعها الحكومات الباكستانية تجاه رجال الدين في البلاد. ففي عام 1974 تعاونت الحكومة الاشتراكية لأول مرة مع الأحزاب الإسلامية في البلاد آنذاك، ما أتاح للقوى الدينية الولوج في جهاز السلطة الباكستاني، متحولين إلى أصحاب مصالح فيه بصورة لا رجعة فيها.
وبعد بضع سنوات، نادت الديكتاتورية العسكرية في عهد الحاكم ضياء الحق بجعل ما سُمي "أسلمة المجتمع" سياسةً رسميةً للدولة، فأصبح التلقين الأصولي جزءًا من المناهج الدراسية في البلاد وفي الحلقات الدينية التي تُطلق عليها تسمية "المدراس". وقد يسّر تسليم الأسلحة والمساعدات المالية من المملكة العربية السعودية ومن الولايات المتحدة الأميركية عملية تحويل المجتمع إلى التطرف، بحيث نشأ جيل كامل من الباكستانيين على أفكار متزمتة وعلى ما سُمي بـ "ثقافة الكلاشينكوف".
وبدا منذ ذلك الحين أنه من المستحيل ترويض تغوّل هذه السياسة، حيث لا يجرؤ أي شخص في باكستان في أيامنا هذه على مناقشة القضايا الدينية، وإلا فإنه سيعرّض نفسه لتهمة الزندقة والكفر وسيضع حياته على المحك.
تهديد الانهيار الاقتصادي
وقد يفضي الحال الراهن في باكستان إلى عواقب كارثية. إذ لا تزال البلاد في مرحلة بداية الوباء، وإذا ما ارتفع عدد الإصابات بشكل كبير فإن الاقتصاد الباكستاني المنهك بالفعل سيكون عرضة لخطر الانهيار.
وقبل بضعة أسابيع، نصح أحد كبار الاقتصاديين في العالم والأستاذ البروفسور في جامعة برينستون، عاطف ميان، باكستاني المولد، الحكومة الباكستانية بالعمل مباشرة على مواجهة أزمة كورونا عبر فرض إغلاق تام في جميع أنحاء البلاد، قبل أن يصل الوباء إلى مستوى يضرب فيه البلاد بشدة، إلا أن الحكومة الباكستانية نفسها تجد صعوبة مستمرة في تنفيذ تدابير الوقاية الطبية التي اتخذتها هي بنفسها.
غني عن القول إن تدابير الوقاية ليست معادية للتدين أو حتى للإسلام ولا بأي حال من الأحوال. فالإسلام يدعو في نهاية المطاف إلى اتخاذ تدابير وقائية مناسبة في أوقات انتشار الأمراض، ذلك أن حماية الحياة البشرية تُعَد أحد أعلى الأصول القانونية، أو ما يُسمى مقاصد الشريعة.
فعلى زمن النبي محمد [ﷺ] تم تعليق صلاة الجماعة في المساجد خلال الأحوال الجوية السيئة، كما أمر النبي [ﷺ] الناس بممارسة العزلة الذاتية في أوقات الأوبئة. ومن هذه التجارب استنبط رجال الدين المسلمون في مصر أو المملكة العربية السعودية فتاوى لحظر التجمعات في المساجد، حتى أن أقدس الأماكن الإسلامية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة قد خضعت لمثل هذه القيود.
إن رفض رجال الدين الصريح تطبيق تدابير الوقاية للحد من انتشار الفيروس يثير الذعر والاستنكار في بعض أوساط الشعب الباكستاني. وكلما نجح المجتمع والحكومة الباكستانية في تحجيم الزعماء الدينيين ضيقي الأفق أصبحت السيطرة على الوباء في باكستان أفضل وأكثر كفاءة، والأمر لا يتطلب إلا القليل من الشجاعة والجرأة.
محمد لقمان
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
ar.Qantara.de