هل تمثل العقوبات الاقتصادية سلاحا فاعلا ضد نظام الأسد؟
منذ ما يزيد على تسعة أشهر والقيادة السورية تمارس قمعا شديدا ضد شعبها. فالجيش وقوات الأمن اقتحمت مدنا وقرى عديدة في البلاد من حمص إلى حماة ودرعا ودير الزور، مستخدمة الأسلحة الثقيلة وسط قيامها باعتقال الأهالي وتعذيبهم وسحلهم في الشوارع، وسرقة البيوت والمحلات التجارية. ودفع هذا القمع المتواصل المجتمع الدولي إلى فرض عقوبات متفاوتة من حيث نوعيتها وشمولها. لكن ما مدى نجاعة العقوبات الاقتصادية لتكون وسيلة ضغط حقيقي على النظام السوري؟
يشير النقاد إلى أن التاريخ أثبت أن العقوبات الاقتصادية غالبا لا تصيب هدفها وإن كان لها من آثار تذكر، فإن تلك الآثار لا تصيب إلا المواطنين المدنيين. ومنذ تصاعد الانتقادات ضد الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية بحق المدنيين، وأبرز مثال على ذلك العراق، بدأت الدول والمنظمات التي تفرض العقوبات باللجوء إلى ما يسمى بـ "العقوبات الذكية"، التي يفترض أن تستهدف أشخاصا ومؤسسات محددة، دون الإضرار بالشعب.
العقوبات الغربية
تعتبر العقوبات أمرا غير جديد بالنسبة لسوريا. ففي عام 1979 وضعت الولايات المتحدة الأمريكية سوريا على قائمة الدول الداعمة للإرهاب وفرضت بحقها نتيجة لذلك إجراءات عقابية. وبعد تولي بشار الأسد مقاليد الحكم في البلاد تم تشديد هذه العقوبات، أولا عبر إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في إطار ما عرف بقانون "محاسبة سوريا وسيادة لبنان" في أكتوبر 2003، وبعد اندلاع شرارة "الثورة السورية" عادت الحكومة الأميركية لتتدرج في تشديد العقوبات ضد نظام الأسد.
وبدوره اتخذ الاتحاد الأوربي خلال العقد الأخير إجراءات عقابية ضد دمشق كان أبرزها تجميد التوقيع على اتفاقية الشراكة بعد التوقيع عليها بالأحرف الأول عام 2004، كرد فعل على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. أما العقوبات الأخيرة فبدأت في مايو/ آيار 2011 بمنع عدد من أعضاء النظام البارزين من دخول دول الاتحاد الأوربي، وبعد ذلك بفترة قصيرة شمل المنع الرئيس السوري نفسه، كما تم تجميد أموالهم الموجودة في البنوك الأوروبية. كما شهد مطلع سبتمبر/ أيلول وقف استيراد النفط السوري.
وبدوره حذا الاتحاد الأوربي حذو الولايات المتحدة الأمريكية وفرض حظر تصدير للأسلحة، وأخيرا حظرا لتصدير التجهيزات التقنية اللازمة لقطاع الوقود، بالإضافة إلى منع أي استثمار أوروبي في مجال توليد الطاقة. الأمر الغريب أن عملاق التقنيات "سيمنز" وقبل أيام من فرض آخر مجموعة من العقوبات كان قد وقع على صفقة كبيرة لبناء محطة لتوليد الكهرباء شمالي دمشق.
الجدير ذكره أن دول الاتحاد الأوربي تعد السوق الرئيسية باستيرادها لمايزيد عن التسعين بالمائة من صادرات النفط السوري خلال السنوات الأخيرة. الشركاء الأجانب، مثل شيل وتوتال، كانت قبل ذلك تحت الضغط المتواصل بأن تقلل من استخراج النفط في سوريا. وقد توقفت الحكومة السورية عن الدفع لهما منذ بضعة أسابيع ولذلك قررت شيل أن توقف كل نشاطاتها في سوريا. كل هذه العقوبات ضد قطاع النفط الذي يعد أحد أهم القطاعات إلى جانب السياحة والتجارة ويرفد الخزينة العامة بثلاثين إلى أربعين بالمائة من الإيرادات.
وبما أن العقوبات شملت الشركة العامة للنفط أيضا فسيكون من الصعب على الحكومة السورية مستقبلا استيراد حاجتها من المشتقات النفطية المكررة، مما يضع مستهلكي القطاع الخاص والمؤسسات أمام مشاكل جدية، خاصة وأن مساهمة مصفاتي النفط الوحيدتين في سوريا قد تراجعت كثيرا في تغطية الاحتياجات السورية.
العقوبات العربية والتركية
وفي منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 قررت الجامعة العربية تجميد عضوية سوريا لديها. وفي خطوة تالية لذلك قرر أعضاء الجامعة فرض عقوبات على الحكومة السورية وتشمل هذه العقوبات حظر تصدير الأسلحة، وتضييق تدفق رؤوس الأموال ودفع الحسابات، وإيقاف التجارة الحكومية، ووقف المساعدات والاستثمارات الرسمية وتجميد أصول الحكومة السورية في البنوك العربية.
واعتبارا من منتصف ديسمبر/ كانون الأول يفترض أن يكون قد بدأ تقليص عدد رحلات الطيران بين الدول العربية وسوريا إلى النصف. كما تم منع شخصيات معينة من دخول الدول العربية، بالإضافة إلى تجميد أموالهم لديها. القائمة تشمل أعضاء بارزين في الحكومة والجهاز الأمني، بالإضافة إلى رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري، رجل الأعمال السوري الأشهر، والمتهم بأنه أحد أبرز وجوه الفساد، وقد لقي مخلوف عداء واضحا من الثوار تجلى في شعاراتهم التي رفعوها بحقه، منذ بداية الاحتجاجات.
وبعد ذلك بأيام قليلة فرضت تركيا عقوبات ضد سوريا، ومن بينها إيقاف كل أنواع المعاملات المالية وحظر السفر ضد بعض المسؤولين السوريين. وتؤكد الدول العربية والاتحاد الأوربي وتركيا وبشدة عبر تصريحاتها الرسمية بأن العقوبات موجهة فقط لعرقلة قمع الحكومة السورية للمحتجين. وبما أن الإجراءات العقابية، كما ورد آنفا، تدخل في إطار "العقوبات الذكية"، فمن المفترض أن تؤتي العقوبات أكلها. ولكن لابد من التساؤل حول البدائل المطروحة أمام النظام السوري؟
التضامن الإيراني بشراء النفط السوري
يأمل أنصار العقوبات بأن تسهم العقوبات الاقتصادية والمالية في التضييق على النظام بحيث لا يتمكن من تمويل عمليات القمع، وأن تسهم كذلك في إقناع رجال الأعمال والتجار السوريين ليغيروا موقفهم ويوقفوا دعمهم للنظام. ولتحقيق ذلك لابد من التطبيق الفعال للعقوبات من جهة، ولا بد من أن يقدم تصور سياسي مقنع لمرحلة "ما بعد الأسد"، حتى ينخرط أولئك الصامتون في الحراك الثوري.
لكن الدولتين الجارتين العراق ولبنان صوتتا ضد فرض العقوبات، فيما طالبت الجارة الثالثة الأردن بمنحها وضعا خاصا واستثنائها من تطبيق العقوبات ضد سورية. وكذلك الأمر على المستوى الدولي؛ فهناك بعض الدول التي لا زالت ترفض فرض أي عقوبات من قبل الأمم المتحدة، رغم سقوط أكثر من 5000 قتيل حتى الآن، بحسب آخر إحصائية للأمم المتحدة. وأبرز هذه الدول روسيا والصين. فيما لا تزال إيران وحزب الله اللبناني يقدمان دعمهما المطلق للنظام السوري. وحتى تثبت تضامنها أعلنت إيران عن شرائها للنفط السوري، وهنا لابد من التساؤل عن مغزى ذلك، لأن إيران ذاتها بحاجة للمشتقات النفطية وليس للنفط الخام.
وشهدت السنوات الأخيرة تطورا كبيرا في العلاقات التجارية بين سوريا والدول العربية، بحيث أمست هذه الأخيرة أبرز أسواق التصريف للبضائع السورية. كما أن كل الاستثمارات الأجنبية، باستثناء قطاعي الغاز والنفط، تدفقت من المنطقة. إضافة إلى المساعدات العربية لتنفيذ برامج إنمائية وتغطية بعض الاحتياجات الماسة، مثل تحديث البنى التحتية في سوريا.
المساعدة الفعالة هي تلك الأموال التي يقدمها بعض رجال الأعمال للنظام لقمع الاحتجاجات، إضافة لمعدات شركاتهم وحتى طاقم العمال بالكامل يضعونه في خدمة النظام. وخاصة كبريات المؤسسات في سوريا، التي تعد إما جزءا من النظام أو تتمتع بعلاقات ممتازة مع قادة الحكومة والإدارة وأبرز رجال الأمن في سوريا. وبهذا فإن مصالح هؤلاء شديدة الارتباط ببقاء النظام. ويفترض أن يتسبب تطبيق العقوبات العربية، على وجه الخصوص، بضائقة كبيرة للكثيرين ممن أيدوا النظام.
المعارضة المنقسمة
لدى جماعات المعارضة السورية تصورات مختلفة حول الوسيلة التي يجب من خلالها إسقاط النظام. فهناك أصوات منتقدة للعقوبات الاقتصادية، وقبل ذلك للمقاطعة التجارية والاستثمارية الشاملة، لأنها ستضر بالثورة ولن تضعف النظام. لأن الأخير يعرف كيف يؤمن نفسه، وذلك عبر شبكات التهريب المتشعبة والتي له فيها تجارب معروفة. أما أعضاء المجلس الوطني السوري فيطالبون بعقوبات اقتصادية أشد وبعزل دبلوماسي، كما أنهم أضحوا لا يستبعدون كليا المطالبة بالتدخل العسكري. ويطالب المحتجون في مختلف المدن السورية بممرات إنسانية أو بمنطقة عازلة لحماية المدنيين.
ولم تقدم الدول الموقعة للعقوبات حتى الآن أي خطة لرفع سريع للعقوبات ولإعادة إحياء شامل للاقتصاد السوري في حقبة ما بعد الأسد، باستثناء ما طرحه الاتحاد الأوربي حول "شراكة جديدة وطموحة مع سوريا شاملة لكل المجالات".
تردي الوضع الاقتصادي السوري
بحسب بعض التقارير فإن الاقتصاد السوري يعيش أزمة عميقة، والليرة السورية تتراجع باستمرار، وتم سحب أرقام كبيرة من الأرصدة المالية الخاصة الموضوعة في البنوك. كما أن أسعار البضائع، ومنها السلع الأساسية للحياة اليومية، شهدت ارتفاعا غير مسبوق. وأما ردود فعل الحكومة السورية على هذه الأوضاع أقل مايمكن أن توصف به بأنها متناقضة. فالحكومة السورية تحاول أن تضع السكان في مواجهة العقوبات الدولية، وتهدد الدول التي فرضت العقوبات بالمعاملة بالمثل. وصرح وزير الخارجية السورية وليد المعلم مؤخرا بأن بلاده ستنسحب من الاتحاد من أجل المتوسط. كما وصف المعلم العقوبات العربية بأنها بمثابة "إعلان حرب اقتصادية". وفي ظل هذه الأجواء شهدت العاصمة دمشق ومدنا سورية أخرى مسيرات مؤيدة للنظام ومنددة بالعقوبات العربية. في حين جاء موقف الإدارة السورية ضد العقوبات التركية بالإعلان عن وقف العمل باتفاقية منطقة التجارة الحرة مع تركيا. ولكن بعض العقوبات أظهرت يأس الحكومة السورية، والذي بدأ يستشف من خلال عبارات الصمود التي تذكر بشعارات فترة الثمانينات، عندما كاد الاقتصاد السوري أن يصل إلى حالة الإفلاس.
وبهذا يتضح بأن سوريا قد بدأت بالفعل في مواجهة مشاكل اقتصادية صعبة، وبدون شك ستتزداد تلك المشاكل حدة مع دخول العقوبات العربية حيز التطبيق. ولكن القليلين فقط ينتظرون بأن تكون العقوبات الاقتصادية سلاحا كافيا ليقدم النظام تنازلات مرضية أو ليسقط كليا.
أنيا زعرب وسلام سعيد
ترجمة: فلاح آل ياس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011
آنيا زعرب: أستاذة جامعية في مركز الدراسات السياسية للشرق الأوسط التابع لجامعة برلين الحرة.
سلام سعيد: باحثة اقتصادية سورية. صدر لها مؤخرا عن دار كلاوس شفارتس للنشر دراسة بعنوان "العولمة والأقلمة في المنطقة العربية".