"الذاكرة الجمعية منهجية لفهم التحولات الثقافية وليست ترفا نوستالجيًّا"
أصدرت مؤخرا كتاب "مدخل إلى دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية". ما سرُّ اهتمامك بهذا الحقل؟
زهير سوكاح: هذا الكتاب هو ثمرة اشتغالي على تيمة الذاكرة منذ ست عشر سنة تقريبا. بدأ اهتمامي بهذا الموضوع الحيوي والجديد نسبيا أثناء دراساتي العليا في كلية الفلسفة بجامعة هاينرش هاينه بدوسلدورف الألمانية، وخاصة حينما وقع بين يدي سنة 2005 أول مرجع باللغة الألمانية حول دراسات الذاكرة من تأليف الباحثة أستريد إرل عنوانه "الذاكرة الجمعية وثقافات التذكر"، حيث لاحظت غياب مراجع عربية متخصصة في ميدان "دراسات الذاكرة"، مما جعلني اهتم بهذا الحقل البحثي والأكاديمي المزدهر منذ العقود الأخيرة، حيث بدأت ثمار هذا التعاطي الفردي المكثف مع الموضوع تظهر مع مرور السنوات في شكل مقالات ثم دراسات نُشرت في دوريات عربية وأجنبية مُحكمة، ومشاركات في مؤتمرات دولية، إضافة إلى هذا الكتاب، الذي يعتبر أول مدخل باللغة العربية حول "دراسات الذاكرة" بوصفها مجموع مقاربات بينتخصصية في العلوم الإنسانية والاجتماعية تهتم بالذاكرة وأبعادها الاجتماعية والثقافية.
كيف يمكن أن نُعرّف دراسات الذاكرة لغير المتخصصين؟ وما أبرز مراحل تشكّل هذا الحقل المعرفي؟
زهير سوكاح: يمكن القول إن حقل "دراسات الذاكرة" في العلوم الإنسانية والاجتماعية يهتم بالتمثلات الفردية والجمعية للمجتمعات والثقافات حول ماضيها، بمعنى أنه يسعى منهجيا إلى محاولة فهم الطرق المتنوعة التي يتعامل بها الناس مع الزمن، وهذا التعامل لا ينحصر في معالجتهم للماضي فحسب، بل يشمل أيضًا فهمهم للحاضر وتمثلاتهم للمستقبل؛ ذلك أن معالجة الماضي لا تتم إلا في الزمن الحاضر، أي أن فعل التذكر (أو حتى النسيان) هو ضمن زمن الحاضر وغالبا ما يكون استجابة لاحتياجات ثقافات التذكر المجتمعية، وليس صورة فوتوغرافية للزمن الماضي كما كان عليه.
على هذا الأساس ينظر هذا الحقل المعرفي إلى الذاكرة البشرية ليس من كونها ظاهرة قارة في الزمان والمكان، لا تتبدل، بل هي عملية دينامية في تحول مستمر تعكس دينامية التمثلات الاجتماعية والثقافية. وهنا تظهر الأبعاد السوسيوثقافية وأيضا التاريخية لهذا الحقل الذي ابتدأ في مرحلته الأولى سوسيولوجيا مع عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس، الذي صكّ مفهوم الذاكرة الجمعية، والذي يُعتبر المؤسس الفعلي لحقل دراسات الذاكرة الجمعية. امتدت هذه المرحلة الأولى بين عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وأسهم في تطورها في تلك الفترة ـ إلى جانب كتابات هالبفاكس ـ أعمال كل من كارل مانهايم، وفالتر بنيامين، وآبي فاربورغ.
وفي ثمانينات القرن الماضي انطلقت المرحلة الثانية مع العمل الضخم للمؤرخ بيير نورا "أماكن الذاكرة"، وهو مشروع تنظيري جديد لم يُسهم في تطوير حقل دراسات الذاكرة فحسب، بل أيضا الدراسات التاريخية ذاتها، ولاسيما من خلال ما يُعرف بـ "التاريخ الجديد". وقد وجد هذا المشروع مُناصرين له خارج فرنسا، حيث ظهرت مشاريع مُماثلة في كل من ألمانيا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، وكندا وغيرها.
في هذه المرحلة الوسطى ظهرت أيضا نظرية "الذاكرة الحضارية" لكل من أليدا ويان أسمان. أما المرحلة الثالثة والراهنة فقد انطلقت مع مطلع الألفية الجديدة واكتسبت زخمًا كبيرًا ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث اتسعت رُقعة اهتمام هذا الحقل لتشمل القضايا الذاكرية العابرة للقوميات والمجتمعات والثقافات.
.................
طالع أيضا
انفتاح العقل العربي الإسلامي على الحضارات المجاورة والبعيدة
مكتبة قنطرة: خير جليس في الزمان كتاب
حين حلم المأمون بأرسطو
.................
ما الذي يُميّز دراسات الذاكرة عن الدراسات التاريخية؟
زهير سوكاح: بخلاف الدراسات التاريخية ذات الصبغة الكلاسيكية، التي تسعى بالأساس إلى توثيق الماضي كمادة تاريخية مُكتملة الأركان، فإن دراسات الذاكرة الجمعية تهتم بدراسة العلاقات المتبادلة بين الماضي والحاضر وأيضا المستقبل أثناء تشكّلها في السياقات الاجتماعية والثقافية.
ورغم هذا الاختلاف الجوهري، والذي عبّر عنه هالبفاكس بقوله إن الكتابة التاريخية لا تبدأ إلا حين تكتمل الذاكرة، فإن ميدان "التاريخ الجديد" كثيرا مع يتقاطع مع دراسات الذاكرة، ممّا نجم عنه ما يُعرف بالمبحث التاريخي في حقل دراسات الذاكرة، وهو مبحث لم يعد مُنحصرا في التعاطي مع الوثيقة المكتوبة بل تجاوزها إلى وسائط التاريخ الشفوي مثل التسجيلات الصوتية والمرئية والمقابلات الآنية إلى جانب الاستعانة بعدد من وسائط الذاكرة المتنوعة.
دراسات الذاكرة الجمعية هي إذًا منهجية للكشف عن التحول الثقافي، وليست تعبيرا على النوستالجيا الجمعية إلى الماضي، فهي تساعدنا على إدراك متى وكيف تُسهم الذاكرة الجمعية في صياغة الحاضر والمستقبل معًا. وهذا ما جعلها حقلا بينتخصصي بامتياز عكس الدراسات التاريخية على الأقل التقليدية منها.
ما الحاجة إلى هذا الحقل في السياق العربي وما وضعه الحالي؟
زهير سوكاح: بخلاف الطفرة الكبيرة التي تشهدها دراسات الذاكرة على المستوى العالمي والمُتمثلة في تزايد المراكز البحثية والمؤتمرات والمنشورات المتخصصة في هذا الحقل المعرفي الجديد نسبيا إلى جانب تدريسه في بعض الجامعات العالمية كمواكبة أكاديمية للاهتمام المجتمعي والثقافي المتزايد بالذاكرة وقضاياها في معظم أرجاء المعمورة، يُلاحَظ شبه غياب لأي اهتمام عربي بحقل دراسات الذاكرة الجمعية، كما يبرز غياب مصادر ومراجع عربية متخصصة في هذا الحقل، وهذا ما أسميته في كتابي الجديد بالغفلة العربية عن هذا المشهد العالمي الجديد، وهي غفلة غير مُبرَّرَة بالنظر إلى أهمية وراهنية قضيتي الذاكرة والنسيان في السياق العربي.
صحيح أن هنالك بعض الاستثناءات المتفرقة، والتي تعد على رؤوس الأصابع، غير العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية، إضافة إلى الساحة النقدية العربية، قد بالغت في إهمال دراسات الذاكرة الجمعية. ويبدو لي أن مرد التأخر العربي عن هذا الركب المعرفي يرجع بالأساس إلى غياب وعي إبستيمولوجي عربي بأهمية هذا التوجه العابر للتخصصات وراهنيته العلمية رغم العدد الذي لا يستهان به من الدوريات ومراكز الأبحاث العربية المُهتمة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي بإمكانها استدراك هذا التأخر العلمي عن طريق توظيف الإمكانيات المنهجية والتطبيقية الغنية التي يتيحها هذا الحقل للباحثين في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فدراسات الذاكرة تُشكّل مفتاحا مُهما لفهم وتحليل عدد من القضايا العربية بكيفية بينتخصصية، مثل مسألة التراث، والفكر العربي المعاصر، والمُنتج الأدبي العربي ومسألة الهويات، والإعلام العربي وغيرها من القضايا ذات البعد السوسيوثقافي، وهذه تحديد هي القيمة المُضافة لدراسات الذاكرة الجمعية إذا ما توفر لها قدر معقول من الحرية داخل الأكاديميا العربية.
هل يمكن القول أن دراسات الذاكرة طريق للتحرر من خطابات الهوية؟
زهير سوكاح: في ظل انعدام الانفتاح الاجتماعي والثقافي الحقيقيين داخل الجغرافيا العربية فإن طريق التحرر من الخطابات الإنغلاقية عموما وخطابات الهوية خصوصا لا يزال بعيدا أمامنا. دراسات الذاكرة لا يمكنها أن تلعب هنا دور العصا السحرية، غير أنها وبفضل طابعها البحثي التعددي، الذي تتظافر فيه تخصصات علمية متنوعة، يمكنها المساهمة بشكل فعال إلى حد كبير في الوصول إلى هذا الهدف ولو من الناحية البحثية؛ فهي تشكل مفتاحا مُهما لتفكيك خطابات بل وحتى سياسات الهوية وفهم آليات تشكلها واشتغالها في الزمن الحاضر بوصف الهوية الجمعية صيرورة دينامية و"سائلة" وبالتالي غير جامدة حتى ولو ارتبطت بجذور ثقافية ضاربة في تاريخ المنطقة.
ورغم أن فهم وفحص خطابات وسياسات الهوية يشكل أهم القضايا الراهنة التي تشتغل عليها دراسات الذاكرة على الصعيد الأكاديمي الدولي، إلا أن المعالجة الأكاديمية العربية لهذه القضية وغيرها من القضايا المُلحّة بل والحسّاسة مثل علاقة السلطة بالذاكرة والذاكرة الطائفية، ونقد السردية "البطولية" لتاريخ المنطقة، والنقد الثقافي المزدوج لا تزال محتشمة، وتستلزم في المقام الأول مناخا من الانفتاح الفكري والتعددية الثقافية، وحرية التفكير والتعبير، وهي شروط اشتغال لا تتوفر عادة بشكل كاف في السياق العربي، وهو الأمر الذي يُفسّر أيضا الإهمال أو ربما التهيّب الأكاديمي العربي في تبني مُنطلقات ومُخرجات دراسات الذاكرة الجمعية.
ما الأعمال التي تشتغل عليها حاليا ضمن بحوثك في مجال الذاكرة الجمعية؟
زهير سوكاح: أشتغل حاليا على مشروعين؛ أولهما "معجم دراسات الذاكرة" كتكملة لكتابي "مدخل إلى دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية"، وهو معجم بينتخصصي يوفر للباحثين والمهتمين مداخل للمصطلحات الأساسية لهذا الحقل القادمة بدورها من تخصصات معرفية متنوعة، ابتداء من الفلسفة والتاريخ، مرورا بعلم الاجتماع والدراسات الأدبية ووصولا إلى الدراسات الإعلامية وعلم النفس. أما المشروع الثاني فهو على وشك الاكتمال، ويتعلق الأمر بكتاب "الذاكرة والمجتمع"، ويضم مجموعة من القضايا السوسيوثقافية من السياق العربي في علاقته مع محيطه الدولي، مثل الهجرة واللجوء والربيع العربي والمتخيلات الاجتماعية، يعالجها الكتاب من زاوية نظر دراسات الذاكرة.
حاورته فوزية حيوح
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
زهير سوكاح كاتب وباحث مغربي، حاصل على دكتوراه في الأدب الألماني من جامعة دوسلدورف الألمانية. مُحاضر في كلية الفلسفة بنفس الجامعة. له إصدارات عديدة باللغتين الألمانية والعربية، منها: "من حوار الحضارات إلى حضارات الحوار"، و"تمثلات الشرق في الأدب الرحلي الألماني"، وأصدر هذه السنة "مدخل إلى دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية ". حائز على عدة جوائز علمية عربية.
اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة
كتاب "ثقافة الالتباس": نقد أسلمة الإسلام الغربية
نقد الناقد: قراءة نقدية في فكر نصر حامد أبوزيد
لماذا فشل العالم الإسلامي وتقدم الآخرون؟
النهضوي الأخير: طه حسين في مواجهة الفرنسيين