فجر جديد للعلاقات التركية اليونانية؟
يسود شعور عميق بالتعاطف، وكما قال أحد المعلّقين في صحيفة "تا نيا" في أثينا حول الشعور الجماعي في اليونان بعد كارثة القرن عند جارتها تركيا: "في المعاناة، نحن جميعاً أتراك". قد لا يكون التعليق مدعوماً بأي استطلاعات للرأي، لكنه يعكس بالتأكيد مزاج الرأي العام والرأي المنشور.
يدور الحديث هذه الأيام عن "مجتمع المصير" بين اليونان وتركيا؛ يربط بين البلدين إلى الأبد جغرافيتهما وقربهما، ويجبرهما، نتيجة ذلك، على التعايش السلمي.
تتسبّب الآراء العاطفية، وإن كان مؤقتاً، في إزاحة الخلافات العميقة التي تفصل بين أثينا وأنقرة، والتي أدّت في السنوات الماضية إلى توترات مستمرة، وإلى حافة الحرب أكثر من مرة.
خلق الزلزال الكارثي وضعاً جديداً. وهذا ينطبق على المجال السياسي كذلك. إذ بادر رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس وتحدث بالهاتف مع الرئيس إردوغان، قبل حتى أن تهدأ الأمور في شرق تركيا، للتعبير عن تعاطفه "باسم جميع اليونانيين". يقول ميتسوتاكيس: "حان الوقت لنترك خلافاتنا جانباً مؤقتاً. لدينا خلافات سياسية، لكن لا شيء يفصلنا عن الأتراك".
الزلزال يفرض إعادة التفكير
والمحادثة، بحد ذاتها، يمكن اعتبارها بمثابة ضجة دبلوماسية: فقد كانت العلاقات التركية-اليونانية في أسوأ حالاتها منذ عدة شهور. فهناك، أو ينبغي أن نقول الآن كان هناك، انقطاع اتصال بين أثينا وأنقرة. وكلما اقترب موعد الانتخابات التركية، تزايدت حدة الخطاب المعادي لليونان في أنقرة.
وكما أظهرت الأيام الأخيرة، أجبر الزلزال تركيا على إجراء بعض التعديلات في سياستها الخارجية. وقد تستفيد من ذلك العلاقات اليونانية التركية، في بلدين لطالما وُصِفا بأنّهما عدوين لدودين.
كان هناك أكثر من مكالمة هاتفية واحدة في يوم الاثنين (6 /شباط فبراير / 2023)، أي يوم الزلزال الكارثي: فبعد اتصال رئيس الحكومة اليونانية، تواصلت رئيسة اليونان كاترينا ساكيلاروبولو أيضاً مع إردوغان. وبعد ذلك بقليل، اتصل وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس بنظيره التركي مولود تشاووش أوغلو. كانت الرسالة واحدة في كل حالة: التعاطف والتضامن!
وكثافة الاتصالات الثنائية على أعلى مستوى بين أثينا وأنقرة، أمر نادر الحدوث بالفعل. كما كان للمكالمات بُعدٌ ألمانيٌّ أيضاً: نُسّقت المحادثات من قبل الدبلوماسية اليونانية آنا ماريا بورا، كما ذكرت الصحافة اليونانية.
بمبادرة من برلين، جلست مؤخراً بورا، الزميلة المقربة لرئيس الحكومة في أثينا، خلف الكواليس مع الذراع اليمنى لإردوغان، إبراهيم كالين. بعد شهور من الجمود، وافق كلا الجانبين على استئناف الاتصالات الثنائية. فقد أعطى الزلزال فجأة لهذا المشروع دفعة جديدة.
فريق إنقاذ من اليونان
ولم تكن كلمات التضامن هي كل ما قدمته اليونان. كان فريق إنقاذ من اليونان من أوائل الواصلين إلى منطقة شرق تركيا التي ضربها الزلزال. وفي الوقت ذاته، تنقل طائرات الشحن العسكرية اليونانية المساعدات التي تمسّ الحاجة إليها إلى البلاد. وتهيمن تغطية الزلزال الكارثي على وسائل الإعلام اليونانية، مع تخصيص مساحة واسعة لانتشار وحدات خاصة لإدارة الكوارث (EMAK). وتحتفل التقارير بكل عملية إنقاذ ناجحة على أنها انتصار للحياة على الموت، ودليل على الرابطة بين البلدين.
وسائل الإعلام التركية تنضمّ إلى جوقة الشعور الأخوي
"يشاركنا جارنا الألم" كما أعلنت صحيفة "يني شفق" التركية. وتشير الصحيفة إلى أنّ التلفزيون الحكومي اليوناني قد استخدم الموسيقى التركية في تقاريره حول كارثة الزلزال، وهذا أسلوب تستخدمه وسائل إعلام أخرى من جزيرة كريت إلى مدينة كافالا منذ وقوع الزلزال.
وكانت زيارة وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس يوم الأحد (12 / شباط فبراير / 2023) إلى منطقة الكارثة عبارة عن موقف سياسي هام، إضافة إلى كونها أول زيارة لوزير من دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. وحدث مشهد نادر في مطار أضنة، حين تعانق السياسي اليوناني ومضيفه التركي. ومثل هذا التعبير الواضح عن الودّ غير عادي على الإطلاق في السياق اليوناني-التركي.
كانت رسالة الوزير اليوناني: "ستفعل اليونان كل ما بوسعها لمساعدة تركيا خلال الأوقات الصعبة، سواء على الصعيد الثنائي أو عبر الاتحاد الأوروبي". وليست تركيا واليونان المكانين الوحيدين اللذين يشهدان موافقة واسعة لوقوفهما جنباً إلى جنب. فقد أشادت كل من برلين وواشنطن بهذا التقارب خلال أزمة تركيا.
ووسط ترحيب جميع الأطراف، يشيد المستشار الألماني أولاف شولتس بالتطورات الجديدة في العلاقات اليونانية التركية. وغرّد السفير الأميركي في أنقرة على تويتر: "هذا رائع"، في إشارة إلى إظهار الصداقة بين نيكوس ديندياس ومولود تشاووش أوغلو في مطار أضنة.
تقارب دبلوماسي؟
يعيد الوضع ذكريات عام 1999. ففي فترة قصيرة من الزمن، ضربت زلازل قوية غرب تركيا أولاً ومن ثم العاصمة اليونانية أثينا. هرع رجال الإنقاذ اليونانيين بدايةً إلى تركيا، وبعد ذلك بقليل، جاءت فرق الإنقاذ التركية لمساعدة اليونانيين.
أدّت الكوارث الطبيعية على جانبي بحر إيجة إلى مرحلة من تخفيف التوترات في العلاقات الثنائية، والتي دُوِّنت في سجلات العلاقات اليونانية التركية بوصفها "دبلوماسية الزلزال". وسرعان ما وقّعت أثينا وأنقرة على 33 اتفاقية وسلسلة من إجراءات بناء الثقة، بقيادة وزيري الخارجية جورجيوس باباندريو وإسماعيل جيم.
يقول الآن جورجيوس باباندريو: "نعمل اليوم من نقطة انطلاق مختلفة تماماً". وبدأت تظهر بعض التلميحات إلى التقارب السياسي، لكن مقارنة بعام 1999، فالسياق السياسي مختلف بشكل جوهري. ففي أواخر التسعينيات، كان كلا الجانبين قد بدأ بالحديث قبل وقوع الكوارث الطبيعية، مما أرسى الأساس السياسي لتخفيف التوترات.
وبعد ربع قرن، دخلت العلاقات الثنائية في أزمة طويلة الأمد. فتركيا اليوم هي ليست البلد الذي كانت عليه في عام 1999، وقد يكون هذا، قبل أي شيء آخر، الاختلاف الحاسم. ففي ظل قيادة إردوغان، تزايدت المسافة تدريجياً بين تركيا وأوروبا (والغر ب ككل). وتركيا ليست بأي حال اللاعب الوحيد المسؤول عن هذا التطور.
يوفّر الزلزال الكارثي فرصة لتقليص تلك الفجوة مرة أخرى. ويمكن أن تلعب أثينا دوراً مركزياً في هذه العملية.
رونالد ميناردوس
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023