دروس الكورونا: في توحّش الرأسماليّة، ونافذةٌ لمستقبل آخر
في كلّ أرجاء العالم، لم يبقَ في نقاشات الرأي العامّ، أو في نشرات الأخبار، أو حتى ثرثرات الأصدقاء والعائلة، شيء، سوى الكورونا المستجدّة، إذ تظهر -غالبًا- على شكل إحصاءات صرفة: أرقام، ومزيد من الأرقام، فوقها أرقام: أعداد الإصابات، أعداد الوفيّات، وإلى حد أقل، أعداد من تعافوا وتماثلوا للشفاء.
رغم أن الظهور الرقميّ المُرعب قد يكون طريقةً جيّدة لرفع الوعي بخصوص جديّة الجائحة، وأهميّة الالتزام بالإجراءات الصحيّة والوقائيّة والتباعد الاجتماعيّ، إلا أن حُمّى الأرقام، والذُّعر والإحباط المصاحبين لحالة الطوارئ العالميّة، تُزيح الانتباه عن إمكانيّة نقاش أعمق: نقاش الفشل الكبير الذي نشهده حتى الآن، لـ«نظام» عشنا في ظلّه بتسليم، ودون مساءلة، لوقتٍ طويل.
الفشل المستمرّ للرأسماليّة: ملاحظاتٌ كاشفةٌ قدّمتها الجائحة
أدخل الوباء تغييرات كبيرة على حياة البشر حول أرجاء العالم، وتوضّحت من خلاله مجموعة من الملاحظات الكاشفة الخاصّة بالنظام الاقتصاديّ السائد والمسيطر والذي «يعمل» على أساسه العالم.
صار واضحًا أن «السوق الحرّ»، و«العولمة الرأسماليّة»، والشركات والمؤسسات الماليّة التي تتسيّد الكوكب، لم تكن غير فعّالة في التّعامل مع الوباء ومع حالة الطوارئ العالميّة الناشئة عنه فحسب، بل تسبّبت (عبر آليات التنافس، وإضعاف الخدمات العامّة، ومنها الصحيّة، عبر عقود من السياسات النيوليبراليّة) في موت ومعاناة ملايين البشر. وكما حصل في خضمّ الأزمة الماليّة العالميّة 2007-2008، ينحو هذا «النظام» إلى امتصاص المليارات من أموال دافعي الضرائب لصالح الشركات، بدلًا من ضخ هذه الأموال لصالح الناس المتضرّرين أنفسهم. فحين تسوء الأمور، ويسقط النظام الرأسماليّ وسوقه «الحرّة» في أزمة، يتطلّب الأمر اللجوء إلى وصفات «اشتراكيّة» مكثّفة لمداواته، يتم إنفاذها من خلال إجراءات حكوميّة، وتدخّل حكوميّ في جميع القطاعات، وخصوصًا الاقتصاديّة منها، وهو أمر معاكس تمامًا لأساسيّات النيوليبراليّة التي ترويجها بكثافة حول العالم، من قبل النظام الرأسمالي العالمي، منذ ثمانينيّات القرن الماضي، لإنتاج العالم الذي نعيش فيه اليوم.
من الطريف ملاحظة أنّ أهمّ أناس على كوكبنا اليوم، ليسوا المدراء التنفيذيّين للشركات الكبرى، ولا السياسيّين الذين يقعون داخل دائرة تفوذهم، بل الجيش العرمرم من صغار الكسبة والموظّفين المستغَلّين ذوي الرواتب المتدنيّة من الممرّضين والأطباء وعمّال النظافة والسّائقين والمزارعين والفنّيين وكوادر الخدمة العامّة ممن يسيّرون أساسيّات الحياة والبقاء ويعملون على استدامتها. فما يهمّ حقًّا اليوم ليس السّلع الفاخرة الباذخة التي يمكن الاستغناء عنها تمامًا، بل أساسيّات الغذاء، والدّواء، وأجهزة التنفّس، وتغطية صحيّة-علاجيّة مجانيّة تشمل الجميع. وبينما تصرف مليارات فوقها مليارات على «الدّفاع» والقطاعات العسكريّة (الاستثمار في قتل الناس)، تتناقص وتتلاشى حجم الموازنات المخصّصة للاحتياجات الاجتماعيّة والصحيّة (الاستثمار في إنقاذ الناس وتحسين مستوى معيشتهم)، الأمر الذي يجعل الدّول «القويّة»، بالمعنى العسكريّ والسياسيّ، في حالة ضعفٍ شديد أمام جائحة فيروسيّة، وتفقد أمامه مئات آلاف الضحايا.
في عالمٍ أُضعفت فيه القدرات والإمكانيّات الاجتماعيّة للدول، من اللافت أن تنتقل بعض المسؤوليّات الاجتماعيّة لتنظيمات أخرى كـ«المافيا» التي وزّعت المعونات الغذائيّة في المنطق الفقيرة في إيطاليا، أو العصابات «الإجراميّة» التي فرضت حظر التجوّل وإجراءات صحيّة أخرى في عشوائيّات ريو دي جانيرو في البرازيل. التحوّل النيوليبرالي للدّول صار واضحًا، وهو تحوّل أخذها نحو شكلٍ من الكيانات العسكريّة-البوليسيّة ذات الاهتمامات الاجتماعيّة الضئيلة التي تُرك أغلبها للتنافس في «السّوق الحرّ»، وكمادة لاشتقاق الأرباح، تاركةً الفقراء والشرائح الأكثر هشاشةً لمصيرهم المحتوم.
يحصل كلّ هذا بعد أن صفّت السياسات النيوليبراليّة القطاع العامّ في عدد من الدول في هَوْجَةِ الخصخصة، وأضعفت بشدّة قدرته على التدخّل بفعاليّة للصالح العامّ، تاركةً الأطباء والممرّضين في صراعٍ مع عددٍ يظلّ يتزايد من المرضى الذين لا يجدون أسرّة في المستشفيات، وفي حيرةٍ أمام قرارات تُحدّد من يعيش ومن يموت، نتيجة لنقص الموارد الذي أنتجته النيوليبراليّة.
أما بالنسبة لمنظّمات التعاون القاريّ الكبرى فحدّث ولا حرج: فمثالها الأسطع، الذي لطالما كان مضرب المثل ومثار الحسد: الاتّحاد الأوروبيّ، رسب في اختباره الداخليّ إذ تبعثرت دوله تبحثُ كلّ واحدةٍ منها عن مصلحتها الخاصّة، تاركة الدول الأكثر تأثّرًا والأضعف اقتصادًا (إيطاليا وإسبانيا) دون مساعدة تُذكر. هذه المنظّمات فعّالة فيما يتعلّق بمركزة القوّة وتسوية علاقاتها، أمّا في حالة وباءٍ عالميّ، يتحوّل «الحلفاء» إلى متنافسين بلا أخلاق للاستيلاء على إمدادات ومعدّات الوقاية الشخصيّة، وأطقم الفحص، أحيانًا بطرق مخابراتيّة مُلتوية، في دلالة أخرى على طبيعة هذا النظام التنافسيّ، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه.
ألا يستوقف المرء قيام الولايات المتّحدة بمنع تصدير الكمّامات الواقية إلى أوروبّا؛ أو تباطؤ الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأوروبّا، في إنفاذ إجراءات حازمة وصارمة تخدم صحّة المواطنين، في محاولة لإبقاء عجلة الاقتصاد والبزنس دائرةً دون أن تتأثر، الأمر الذي يعني محاباة صبّ المزيد من الأرباح في جيوب قلّة ضئيلة مُتخمة استقلّت يخوتها إلى عرض البحر أو غادرت بطائراتها الخاصّة إلى ملاجئ خاصّة للكوارث مبنيّة تحت الأرض، هربًا بنفسها من الوباء؟
ألا تستوقف المرء حقيقة أن دور الأمم المتّحدة، أكبر منظّمة للتعاون الدوليّ، قد كان صفرًا، وأنّ هذه المؤسسة (بمجلس أمنها، وأعضائها الدّائمين، وحقّهم في النّقض) لا تعمل إلا عندما يتعلّق الأمر بمصالح الأقوياء، أما في الأزمات العالميّة الشموليّة، أو حينما يتعلّق الأمر بحقوق الضّعفاء (كالفلسطينيين مثلًا) فتقف عاجزة بلا حراك؟ ألا تستوقفنا حقيقةٌ أخرى بيّنت أن المؤسّسة الأمميّة المعنيّة بالصحّة، منظّمة الصحّة العالميّة، لم تلعب إلا دورًا استشاريًّا، وفشلت في تنسيق الجهود الدوليّة لمواجهة الجائحة لأنّ «اللّاعبين [على السّاحة الدوليّة] لم يتعاونوا»؟ ألا يستوقفنا قيام رئيس أكبر قوّة في العالم بقطع التمويل عنها في أهم لحظات حاجة العالم لمثل هذه المنظّمة؟
نقلت الكورونا المستجدّة نفاق مُدّعيي الحضارة والإنسانيّة، النفاق الذي خبره وعانى منه جنوب العالم وما يزال، إلى معقله مرّة أخرى، على نفس النّسق الذي يشرحه سْفِن لِنْدكْفِسْت في كتابه «تاريخ القصف الجويّ»، حين وجدت تجارب ومذابح قصف السكّان المحليّين في المُستعمَرات طريقها إلى المدن الأوروبيّة نفسها في الحربين العالميّتين الأولى والثانية، لنشهد معارك أوروبيّة – أوروبيّة حول برامج «المساعدات»، ونوعيّتها، وتضاربًا في المصالح بين الأوروبيّين الأفقر (كإيطاليا) وأشقّائهم الأكثر ثراءً (ألمانيا وهولندا) ضمن نفس المُحدّدات التي حكمت العلاقات بين شمال العالم وجنوبه: محدّداتٍ لا تجد بأسًا في الحديث عن «مناعة القطيع»، الذي يعني -عمليًّا- ترك كبار السنّ والأكثر هشاشة للموت، من أجل عيون «الاقتصاد»، مثلما لم تجد بأسًا في في بيع الطائرات المقاتلة لأنظمة ومجموعات حاكمة بالغة الإجرام بمليارات الدولارات، لترسل بعدها وكالاتها «للتنمية الدوليّة» و«الدعم الإنسانيّ» لتصنع للضحايا أطرافًا صناعيّة، وتقدّم لهم اسكتشاتٍ ترفيهيّة، بفتات الفتات من الأرباح التي تستعيدها لاحقًا على شكل أرباح إضافيّة من مشاريع الإعمار و«تطوير» (أي نهب) ثروات البلد بعد تدميره.
أما على صعيد البيئة، فصار واضحًا أن إمكانيّة إحداث تراجع كبير في نسب التلوّث الكارثيّة (التي اعتُبر سابقًا أن التّعامل معها «مستحيل»، أو «معقّد» في أحسن الأحوال)، ممكن؛ وأن النتائج المرجوّة يمكن أن تتحقّق، وضمن فترات زمنيّة قصيرة جدًّا.
بينما يُفرض حظر التّجول في بلدان كثيرة حول العالم، هذه هي الملاحظات التي تستوجب التبصّر فيها، وأن تشكّل مادّةً أوليّةً لنقاشٍ عامّ عالميّ يتعلّق بالإمكانيّة الحقيقيّة لمسار مستقبليّ آخر لنا نحن البشر، إمكانيّة لوجود أنظمة سياسيّة واقتصاديّة قادرة على عكس هذا الفشل، تفتحها لنا نافذة تجربة الوباء إذ نتأمّل واقعنا المأساويّ، الفجّ، من خلالها.
عسكرة الاستجابة في مجتمعات فُكّكت إلى أفراد
هناك ملاحظتان ثانيتان توضّحتا في خضمّ الوباء. الأولى هي حجم الموارد المستثمرة في الضّبط الشُّرَطيّ للمجتمعات، وفي عسكرة الاستجابة للطوارئ المحليّة، في كلّ أنحاء العالم. ففي الأردن (على سبيل المثال لا الحصر) كانت التحرّك سريعًا وحاسمًا منذ البداية، فتم فرض حظر التجوّل في فترة مبكّرة من بدء تسجيل حالات الإصابة، وتمّ عزل المحافظات بعضها عن بعض وإغلاقها، وأُغلقت المطارات ومُنعت الرّحلات من وإلى البلاد. نجحت هذه الإجراءات الحاسمة في السّيطرة على انتشار المرض، لكن ما أريد الإشارة إليه هنا هو الشّروط والأجواء شبه العسكريّة التي تمّت التعبئة في سياقها، فاستخدمت عبارة «الحرب على الوباء» على واسع عالميًّا، وكذا الإشارة إلى الكادر الطبيّ باعتباره «خطّ الدّفاع الأوّل»، واستخدمت «أجواء الحرب» عمومًا، مثل حشد التّأييد الشعبيّ للأجهزة الأمنيّة والعسكريّة، واستخدام صفّارات الإنذار للإعلان عن بدء سريان حظر التجوّل المسائيّ، وترأس عسكريّ خليّة إدارة الأزمة، فيما تمّ اللجوء ليس فقط إلى نشر أفراد الشّرطة على نطاق واسع، بل تم نشر الجيش وآليّاته داخل المدن والقرى، وفعّلت الحكومة «قانون الدّفاع»: قانون يشبه بصلاحيّاته الأحكام العرفيّة، ويُتيح التّشريع مباشرة بواسطة المراسيم (أوامر الدّفاع).
هذه المظاهر العسكريّة التي عمّت العالم (وإن بأشكال متفاوتة) تقودنا إلى ملاحظة أن الرأسماليّة القائمة على تفتيت المجتمعات إلى أفراد مستهلكين، أنانيّين، متنافسين، دمّرت (بنسبٍ متفاوتةٍ أيضًا) أشكال التّضامن والجماعيّة المجتمعيّة الطوعيّة، وكرّست (بل وحوّلت إلى ضرورة) الاستجابة العسكريّة أو شبه العسكريّة في ظرف وجود حالات الطوارئ الداخليّة.
يقودنا هذا إلى الملاحظة الثانية، والتي برزت في الصّين، واستخدمتها إلى حد أقلّ «إسرائيل» وسنغافورة وكوريا الجنوبيّة، وهي متاحة وممكنة الاستخدام في جميع أنحاء العالم: عمق، وطول يد، آليّات الرقابة والتتبّع والتحكّم والإكراه التي تُتيحها التكنولوجيا المعاصرة. التكنولوجيا التي استخدمتها الصّين لاحتواء كوفيد-19 يمكن استخدامها (وقد استخدمت) لاحتواء المعارضين، أو المجتمعات غير «المروّضة» داخليّا، أو، كما بيّن إدوارد سنودن، لاحتواء أوسع على نطاق عالميّ. هذه التكنولوجيا موجودة ويمكن تفعليها في كلّ أنحاء العالم بسهولة، خصوصًا مع الانتشار الواسع للهواتف «الذكيّة»، وعدّة حكومات في العالم أبدت اهتمامًا بتفعيل مثل هذه الآليّات، تحت ذريعة مواجهة جائحة الكورونا المستجدّة، سيرًا في ركاب نجاح «التّجربة الصّينية».
تُرى، هل ستتمكّن المجتمعات غير المنظّمة، المُفكّكة إلى أفراد، المُفرغة من السّياسة، من مواجهة أنظمة مُعَسكرَة، تستخدم الرّقابة على نطاق واسع وعميق؟
لا ضير من تخيّل عالم آخر، ولكن..
تضارب المصالح بين أركان النظام الرأسماليّ العالميّ نفسها؛ التعارض بين مكوّناته الأفقر ومكوّناته الأغنى؛ خطوط التصدّع التي تتوسّع وتهدّد هيمنته عالميًّا، وبالتالي تهدّد مؤسّسات وأدوات تلك الهيمنة (الأمم المتّحدة، الاتّحاد الأوروبّي، صندوق النقد والبنك الدوليّين)؛ انكشاف العيوب القاتلة للأنظمة الاقتصاديّة القائمة على الرّبح والتنافس، ووضوح خطورتها في حالات الطوارئ الدوليّة؛ تبيُّن عدم أهميّة الأنماط الاستهلاكيّة الفائضة وعدم الحاجة لمروحة كبيرة من السّلع غير الأساسيّة والقطاعات المصمّمة لسحب رواتب العمّال والموظّفين إلى جيوب الرأسماليّين ثانيةً؛ إثبات أن تعافي الطّبيعة مُمكن وسريع؛ كلّ هذه الأمور تمثّل مداخل لوعيٍ عامّ جديدٍ كان سابقًا غير قادرٍ (في خضمّ البروباغاندا الرأسماليّة التي تجزم باستحالة وجود نظام آخر) على مجرّد تخيّل عالم آخر. فهل سيستطيع النّاس أن يطوّروا هذه الانتباهات إلى تعبيرات سياسيّة فاعلة بعد أن يعود كلّ شيء إلى «طبيعته»؟
إحدى فضائل وضعيّة الإغلاق هذه كانت إعادة توجيه الإنتاج في عدّة بلدان في العالم نحو الحاجات والأساسيّات المحليّة، وهو توجّه نقيضٌ للعولمة بشكلٍ أو بآخر.
إحدى فضائل وضعيّة الإغلاق هذه كانت إعادة توجيه الإنتاج في عدّة بلدان في العالم نحو الحاجات والأساسيّات المحليّة، وهو توجّه نقيضٌ للعولمة بشكلٍ أو بآخر. وبينما فقد (أو سيفقد) ملايين الأشخاص وظائفهم، وستتضائل مدّخرات الطبقة الوسطى بفعل الانهيار الاقتصاديّ المُصاحب، واللّاحق، للجائحة، وينضمّ مزيد منهم إلى صفوف الفقراء التي تتضخّم وتسوء حالتها باستمرار، قد يشكّل هذا الوضع فرصة لبناء الوعيّ الطبقيّ، وآليّات التّضامن الأمميّ، بين هؤلاء المسحوقين، كنقطة انطلاق لهذا العالم الآخر.
الإمكانيّات التي تفتحها أزمة كوفيد-19 لمستقبلٍ آخر، ستظلّ في دائرة المثاليّة والأمنياتيّة إذ تبرز أمامها تحدّيات العسكرة والرّقابة المذكورة أعلاه، وتحدّيات أخرى تتعلّق بعالميّة الرأسماليّة، وارتباط مصالح النخب الحاكمة في شمال العالم وجنوبه بمصالح النّظام الماليّ العالميّ، وقدرة المتنافسين على «تقسيم الكعكة» على حساب غيرهم حتّى بعد أن يخوضوا في مواجهة بعضهم البعض حروبًا طاحنة، وخلوّ العالم من تشكيل سياسيّ ثوريّ أُمميّ يشبه (مثلًا) الأُمميّة الأولى أو الأُمميّة الثانية ينسّق استجابة شعبيّة عالميّة لأزمة عالميّة، وسرعة ومرونة استجابة الرأسماليّة التي بدأت مباشرة باقتراح آليّات لمعالجة فقدان التوازن عبر المزيد من الإجراءات التدميريّة.
إن لم تقدنا هذه الملاحظات الكاشفة الناتجة عن تأثيرات كوفيد-19 لتطوير وعي طبقيّ وبيئيّ تضامنيّ، جماعيّ، يتغلّب على الفردانيّة، وعلى نزع السّياسة من الفضاء العامّ، والتي حقّقتها الأيديولوجيا النيولبراليّة عبر العقود الأربعة الماضية، مُثبّتةً بدلًا منها مقولاتها الإيمانيّة عن المسؤوليّة الفرديّة، الريادة، التّفكير الإيجابي، التطوّع، التّسلية، الخلاص الذّاتي، الاستهلاك كطريق للسّعادة، السّلع كتعبير عن التنوّع والحريّة وموضوع للرّغبة، فاحشو الثّراء وأنماط حياتهم كنماذج، عند العموم، وتبلوُر هذا الوعي في حركة عالميّة ذات أهداف سياسيّة-اقتصاديّة-بيئيّة نضجت اتّجاهاتها العامّة منذ الأزمة الماليّة العالمية 2007-2008، وصارت جوهر أشخاص مثل جريتا ثَنْبيرج وحركات مثل «ثورة الانقراض»؛ إن لم يحدث كل هذا، فسنشهد فرصة تاريخيّة أخرى تتسرّب من بين أصابعنا.
هل أتجرّأ وأقول أن هذه هي مهمّة اليسار اليوم؟
فلأتابع الحلم.