الثقافة الرقمية...ترسيخ أم تزييف للوعي الديمقراطي العربي؟
بشّرت وسائل "الإعلام الجديدة" أو "الإعلام البديلة" بتمكين الأفراد من خلال توفير ما يساعدهم على اكتساب صفة المواطنة، فصار بإمكان المرء أن يتفاعل مع مختلف النصوص والأفكار والتجارب المعروضة على الشبكة العنكبوتية استهلاكا وتوزيعا وتعقيبا. وقد أدّت هذه التفاعليّة إلى حدوث تغييرات على مستوى البنى النفسيّة والذهنيّة والثقافيّة وكذلك على مستوى رؤية الفرد لذاته وللآخرين وللكون. هذه التحوّلات جعلت البعض يتحدّث عن دمقرطة وسائل التواصل وانفتاح الآفاق أمام المواطنين للمشاركة في نحت عالم جديد بفضل الثورة السياسيّة التي ستحدثها وسائل الإعلام الجديد.
وهكذا بدا لعدد من الدارسين أنّه ما كان بإمكان الشباب قيادة الحراك لولا توفّر وسائل جديدة أثبتت نجاعتها فكانوا عن حقّ صانعي التغيير. يقول نديم منصوري في هذا الصدد: "في العالم العربي اشتهر موقع الفيسبوك وانتشر بصورة مذهلة، واستطاع مستخدموه أن يستفيدوا من خدماته ليحققوا أهدافهم في تحريك وتعبئة الجماهير لإسقاط أنظمتهم الاستبدادية".
جدل في أهمية وسائل الإعلام الجديدة
غيرأنّ آراء الدارسين تباينت حول دور وسائل" الإعلام الجديدة" في نشر الوعي الديمقراطيّ واندلاع الثورات العربيّة، بين مادح للثقافة الرقميّة ومُشيد بـ "ثورات فيسبوكية الجوهر" من جهة، ورافض للتقليل من شأن التراكمات النضاليّة لأجيال من الناشطين، من جهة أخرى. وبين هذا الرأي وذاك مسافة تسمح لنا بإثارة سؤال حريّ بأن يُطرح بعد سنتين من الحراك العربيّ، أيّ دور اضطلع به "الإعلام الجديد" في الثورات العربيّة وإلى أيّ مدى استطاعت هذه الوسائل التواصليّة أن ترسّخ الوعي الديمقراطيّ؟
ونظرا إلى عسر استقصاء مسارات كلّ الثورات العربيّة ووعينا بالخصوصيات التي تميّز كلّ بلد، فإنّنا ارتأينا الانكباب على دراسة الحالة التونسيّة رغبة في تحديد الدور الذي اضطلعت به وسائل التواصل الحديثة.
موقع الإعلام الجديد في المسار الثوريّ التونسيّ
تستند حجج من يتبنّون الرأي المدافع عن الدور المركزيّ لوسائل "الإعلام الجديدة" في الثورة التونسيّة إلى انتشار المدوّنات السياسيّة والمواقع والمنتديات والفضائيات وصفحات الفيسبوك بشكل ملفت للانتباه في العقد الأخير، كما أنّ الإقبال على تداول الفيديوهات على اليوتوب وتبادل التغريدات والصور والمعلومات على تويتر ازداد في السنوات الأخيرة التي سبقت اندلاع الثورات. وممّا لاشكّ فيه أنّ سهولة استخدام هذه الوسائل التواصليّة وقدرتها على الحشد والتعبئة والضغط وسرعة نقلها للمعلومة واختراقها للحدود الجغرافيّة والزمنيّة قد ساهمت في اعتبارها المصدر الرئيسي لنشر الوعي بين المتعطّشين إلى الحرية والكرامة والعدالة والراغبين في الخروج من حالة التهميش أو الاستلاب أو العزلة.
وبيّن هذا الاستخدام أنّ الشبّان قد أفادوا من هذه الخدمات فنجحوا في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات والحملات وعقد شبكات تضامن ومناصرة واستغلوا هذه الشبكات التواصلية لنشر المقالات النقدية والتعليق على الأحداث وتوحيد التحركات في الشوارع ممّا جعلهم يستعيدون ثقتهم في أنفسهم ويتأكّدون من قدرتهم على الفعل في الواقع عبر تغييره.
أمّا أصحاب الموقف الثاني فاعتبروا الزعم بأنّ الوسائل التواصلية اضطلعت بالدور الرئيسي في إنجاح الثورة قول مبالغ فيه، وفيه إجحاف بالدور الذي نهضت به أجيال من المناضلين في سبيل نشر الوعي وحفز الهمم. كما أنّ هذا القول يتجنّى على النشاط الميداني ويرصد عاملا واحدا ويهمّش بقيّة العوامل، والحال أنّ دراسة الأسباب التي أدّت إلى الثورة تُثبت أنّها مركّبة ومتداخلة ومعقّدة. وبناء على ذلك لا يمكن بأيّ حال الاكتفاء بالتركيز على دور الوسائل التواصليّة في خلق رأي عامّ نوعيّ.
وبالعودة إلى مسار الحركة النضاليّة نتبيّن تنامي الوعي في صفوف التونسيين من خلال الاطلاع على مختلف التجارب النضاليّة للناشطين الحقوقيين والسياسيين. ولئن حاول النظام السابق التعتيم على هذه التجارب فإنّها تحوّلت على مرّ السنين، إلى نماذج تغرس الأمل في عموم التوّاقين إلى غد أفضل، يكفي التوقّف في هذا الصدد، عند ما خلّفته أحداث الحوض المنجمي في الجنوب التونسيّ من وقع في نفوس الناس بالرغم من حرص النظام على قمع الاحتجاجات وعزل هذه المنطقة عن سائر المدن التونسيّة.
المنظور التاريخي ضروري لفهم الحراك التونسي
لقد حال الفقر والتهميش دون تعميم امتلاك وسائل التواصل الحديثة وقلّة هم الشبان الذين استطاعوا تصوير ما يجري ونقله عبر الإنترنت، ولكن إرادة مواجهة النظام الاستبداديّ كانت صلبة بحيث دفعت الرجال والنساء إلى الخروج إلى الشوارع غير مُبالين بقمع الأجهزة الأمنيّة. وهي إرادة تأسّست بفضل ما وفّرته الدولة البورقيبية لعموم التونسيين من فرص متكافئة بين الجنسين عبر إجباريّة التعليم ومجانيته وحركة تحرير المرأة التونسيّة على وجه الخصوص. ومعنى هذا أنّه لا يمكن فهم الحراك التونسيّ إلاّ من منظور مسار تاريخيّ تراكمت فيه الخبرات والتجارب التي عبّرت عنها أنشطة عدد من التونسيين والتونسيات من الذين استطاعوا كسر حاجز الخوف ودفع ثمن المقاومة.
ونذكر على سبيل المثال المنضوين تحت: رابطة حقوق الإنسان، جمعيّة القضاة، جمعية النساء الديمقراطيات، جمعية النساء والبحث والتنمية، منظمة العفو الدولية ونقابة الصحفيين، وفيما يتعلق بالأسماء نذكر: راضية النصراوي، كلثوم كنّو، الفاهم بوكدوس، كمال الجندوبي، نزيهة رجيبة، زهير اليحياوي، زياد الهاني وغيرهم. وهناك مساهمة عدد من المبدعين في السينما أمثال النوري بوزيد، سلمى بكّار ومفيدة التلاتلي، وفي المسرح أمثال الفاضل الجزيري، الأمين النهدي وعزّ الدين قنون، وفي الموسيقى أمثال مغنّو الراب وعلى وجه الخصوص: بلطي والجنرال. ويضاف إلى هؤلاء عدد من المثقفين والإعلاميين الذين كانوا ينتقدون الاستبداد وخنق الحريات.
يقودنا هذا الأمر إلى مراجعة تقييمنا لدور وسائل "الإعلام الجديدة" وترتيبها لا في الصدارة، بل في مرتبة أخرى كونها ليست سوى عامل من بين عوامل أخرى، وهي أداة مكّنت الفاعلين من جعل معاناتهم مرئية وفضحت النظام أمام العالم في لحظة تاريخيّة ما كان لها أن تحدث لولا ترسّخ الوعي الما- قبليّ بضرورة النضال.
ترسيخ للفكر الجهادي؟
إنّ ما يستدعي الانتباه في علاقة وسائل أتاحها "الإعلام الجديد" بالثورة التونسية هو الآتي:
- ألا ترجع أسباب التنويه بدور وسائل التواصل إلى بيان فضل الغرب على العرب الذين ظلّوا عوّالين على الابتكارات والاختراعات التي جسدتها الثقافة المادية الغربية، فلئن نجح الشبّان في الثورة فإنّ للأمر صلة بالدعم الذي وفّرته الحضارة الغربيّة؟
- لماذا توارى أغلب المدوّنين وغيرهم من الناشطين في المجال الافتراضيّ عن الأنظار في مرحلة الانتقال نحو الديمقراطيّة، فنحن لم نلحظ التزامهم بالقضايا الرئيسية المطروحة في البلاد، لاسيما وأنّ حريّة التعبير صارت مكفولة؟ هل مردّ ذلك "الصمت" الركون إلى الراحة، خاصّة بعد أن تلقّى أغلب هؤلاء الدعوات لحضور المؤتمرات العالمية التي احتفت بنجوم الثورات الفيسبوكية؟ أم أنّ الأمر راجع إلى حالة إحباط عامّة جعلت الشبّان يفقدون الثقة فلا ينتجون عملا يحدث ضجّة؟
- إذا كانت وسائل التواصل قد مكّنت الشبّان غير المنتمين إلى أيديولوجيا محدّدة من امتلاك الصوت وإنجاز الثورة فإنّ مسار ما بعد الثورات قد احتكره شباب ينضوي تحت حزب النهضة أو التيارات السلفيّة فكانت فاعليتهم كبيرة مقارنة بغيرهم. فهل معنى ذلك أنّ نسبة المنخرطين في العالم الافتراضي لا تحقق التكافؤ، وأنّ قدرة الإسلاميين على التأثير في النفوس والتجييش مهمّة؟ ألا يطرح هذا الأمر ضرورة الاهتمام بالنظر في طبيعة دور هذه الوسائط التواصليّة وعلاقتها بالدين والأيديولوجيا وإثارة العواطف؟
- إذا قارنا نشاط الشبّان في مصر بالتجربة التونسيّة بدا لنا أن الفوارق هامة، فلمَ ابتكر شباب الفيسبوك المصريّ طرقا طريفة وخلاّقة في التوعية مثل حملات ضدّ التحرّش الجنسي، العنف ضدّ النساء، الدستور وتوظيف صور الفنانات في الحملات، في حين اكتفى شباب الفيسبوك التونسي في الغالب بالاحتجاج التقليدي عبر السخرية والشتم، والفضح...؟.
تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لتزييف الوعي
لا يمكن فهم ما ترتّب عن الحراك من نتائج في بنية المجتمع التونسيّ دون الرجوع إلى خصوصية الثقافة المرئية السائدة، ذلك أنّ ما وفّرته الفضائيات والمواقع وصفحات الفيسبوك ومقاطع الفيديو الوهابيّة من معلومات دينيّة سطحيّة وفتاوى... مثّل اعتداء صارخا على العقول وعاملا مساعدا على مأسسة الجهل واختطاف الدين.
وبدل أن يكون "الإعلام الجديد" مكرّسا لثقافة المساءلة والنقد وفي خدمة دولة المؤسسات والمواطنة والقانون ومسارا مستمرا من أجل تحقيق أهداف الثورة أصبحت الوسائل التواصلية غالبا في خدمة مشروع مجتمعيّ منمّط ونكوصيّ يدفع التونسيين قسرا إلى التماهي مع المشروع الوهابيّ. وعوض أن تكون هذه الوسائل مساهمة في تجذير ثقافة التربية على حقوق الإنسان وبناء السلم الاجتماعي وإحداث تغييرات جوهريّة في النظام الاجتماعي الثقافيّ وفي البنية الاقتصاديّة وتصوّر العمل السياسيّ، أضحت هذه الوسائط مشاركة في تزييف الوعيّ والزجّ بالشباب المهمّش في أتون العمل الجهاديّ.
آمال قرامي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
البروفسورة آمال قرامي تدرس الحضارة العربية الإسلامية وقضايا المساواة بين الجنسين في جامعة منّوبة التونسية. للأستاذة العديد من الكتب في حقوق المرأة والإصلاحات في العالم العربي.