"فجر ألمانيا الإسلامي الجديد"...تشويه للتنوع على الطريقة الترامبية
في الحقيقة ليس حريًّا بالمرء أن يضيع ثانيةً واحدةً في قراءة هذا الكتاب. بيْد أن مكانة المؤلف الاجتماعيّة وشهرته سببان كافيان للقيام بذلك.
إذ إن قسطنطين شرايبر هو مقدّم لنشرة أخبار التلفزيون العمومي الألماني المعروفة "بـالتاغِسشاو"، فقد أصبح شرايبر منذ بداية عام 2021 أحد المذيعين المنتقين بعنايةٍ لتقديم نشرة الثامنة مساءً، وهي النشرة الإخباريّة الأكثر متابعةً في ألمانيا. وهو ما يعني ببساطةٍ أنّ شرايبر قد أضحى من المشاهير.
وليس من المستغرَب أن تسهم هذه الشهرة في رفع مبيعات روايته "المرشّحة".
وعلى عكس كتابَيه السابقَين غير الروائيَين، وهما كتاب "داخل الإسلام" وكتاب "أطفال القرآن"، اللذين عرض فيهما شرايبر أفكاره بكلّ وضوح ودون مواربة، كان عليه هذه المرة أن يختلق قصّة ما لتأليف روايةٍ عن الإسلام.
ولا ريب في أنّ شرايبر قد لقي كل العون من لدن الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك الذي رسم في روايته "الاستسلام" صورةً لواقعٍ مستقبليٍ يؤول فيه حكم الجمهوريّة الفرنسيّة إلى رئيسِ مسلم.
هذا وقد حاول شرايبر التقليل من دور تأثير رواية ويلبيك تلك على روايته، إلّا أن التشابه بين القصّتين ماثلٌ للعيان.
فالسيّد "المذيع" قد نقل الإطار المكاني لروايته إلى ألمانيا، حيث بطلة الرواية امرأةٌ مسلمةٌ مترشّحةٌ لمنصب المستشاريّة.
امرأة مسلمة كعلامة للتنوع
وبحسب التنبّؤات المستقبلية للسيد شرايبر فإن صباح حسين مرشحّة "الحزب البيئي" هي الأوفر حظًّا للفوز بالانتخابات لتصبح المستشارة الألمانيّة القادمة.
ووفقًا لهذا السيناريو المستقبلي فإنّ "مميّزات التنوّع الثقافي" ستكون الورقة الرابحة داخل ألمانيا بعد 15 سنة من اليوم.
وهذا ما ستستغلّه صباح حسين دون تردّد حين تستخدم ميزة التنوّع الثقافي الخاصّة بها ("امرأةٌ مسلمة") لتصعد السلّم الوظيفي وترتقي في أوساط المجتمع الألماني.
وهي وإن قد نزعَت حجابَها من قبل لا تزال من أتباع القرآن المخلصين.
فنراها تلتقي في الخفاء بإمام مسجدٍ في حي نويكولْن [وهو حي برليني يتميّز بالتواجد الكثيف للجاليات العربيّة والمسلمة] بحثًا عن المشورة.
وفي حين ينشط إخوتها الذكور في عائلات الجريمة المنظّمة، تعمل هي على أن يظلّ ذلك طيّ الكتمان.
وتزور صباح حسين أثناء رحلة عمل إلى لبنان مخيّمًا للاجئين قررت الحكومة الألمانية منح حقَّ اللجوء لخمسة آلاف من ساكنيه كلّ شهر.
ولكن صباح حسين تطمح لرفع تلك الحصة الشهريّة لتصل إلى عشرة آلاف، فهجرة المسلمين إلى ألمانيا سوف تعزّز من فرصها الانتخابيّة.
إذ إن غالبيّة المهاجرين هم من فئة الشباب، وقانون الانتخابات يضخّم من وزنهم الانتخابي، فلكلّ من بلغ سن السادسة عشرة ممّن لديه تصريح إقامة الحقّ في التصويت، كما يصوّر لنا سيناريو التخويف الذي يعرضه شرايبر لقرّائه، فعلى الطرف المقابل لا يحق للألمان ممن تجاوزت أعمارهم سنّ السبعين المشاركة في الانتخابات.
وتعتبِر الرواية أن ألمانيا -التي جاءت إليها صباح حسين طفلةً لاجئةً وارتقت فيها أعلى السلم الاجتماعي- فردوس للمسلمين، إذ تسود فيها أنظمةٌ للمحاصصة الشاملة لتفضيل المسلمين في سوق العمل. وتُلزِم تلك الأنظمةُ المؤسّسات الخاصّة بأن يكون ربع موظّفيها من المسلمين الملتزمين.
وفي حال عدم الالتزام بتلك الحصص يمكن تسريح الموظّفين غير الحاملين "لمميّزات التعدّديّة" في أجلٍ أقصاه ستّة أسابيع.
وتشمل نظام المحاصصة تسهيلاتٍ لجماعاتٍ أخرى ذات "مميّزاتٍ تعدّديّة"، مثل ذوي "البشرة غير البيضاء" والمثليّين والنساء كذلك.
ونشاهد أثناء مظاهرةٍ للحزب البيئي شابًّا ينادي المتظاهرين عبر الميكروفون: "هل تريدون سياسةً للتعدديّة المطلقة؟" فتجيبه الحشود بجوابٍ متوقّع: "نعم، نرغب في ذلك!".
لا أثر للأدب الساخر الأدبية في الرواية
وتؤكّد صباح حسين مجدّدا في مقابلةٍ صحفيّةٍ على أنّ حزبها ينوي فرض سياسة تنوّعٍ شامل، وذلك درءًا لأيّ سوء فهمٍ قد يطرأ تجاهها، معقبّةً أنّها، في حال إن فازت بمنصب المستشاريّة، ستعمل على إتمام إنجازات حزبها في هذا المجال.
وبينما تواصل الأحياء التي يقطنها الألمان البيض من ذوي الامتيازات -من قبيل الأحياء المطلّة على نهر الإلبه بمدينة هامبورغ- التقوقع على نفسها، تهدف المرشّحة المسلمة لمنصب المستشاريّة إلى توطين المهاجرين في تلكم الأحياء الثرية، ولديها من أجل ذلك تصوّرٌ واضحٌ عن كيفيّة تمويل مثل هذه البرامج الحكوميّة: عن طريق فرض "ضريبةٍ على البِيض".
ولا تتخلّل هذا النص الرديء غير القابل للتأويل أيّة نبرةٍ أدبية ساخرةٍ أو تهكميّة. فهو يجسّد رؤية مؤلّف كتاب "من داخل الإسلام" للمستقبل.
وقد أشار شرايبر في مقالات نُشرت تزامنا مع إطلاق الرواية إلى أنه أراد وضع تصوّر لتطوّر الأوضاع الراهنة مستقبلًا وإلى أنه اعتمد في ذلك على الوقائع وعلى النقاشات الدائرة بأمانةٍ لا تقبل الشك، كما يدّعي مذيع الأخبار السيّد شرايبر.
وقد أعلنت دار نشر "هوفمان أُوند كامبه"، ومقرّها هامبورغ، عن إطلاق مبيعات الرواية ببيانٍ صحفيٍ ورد فيه ما يلي: "(المرشّحة)، روايةٌ جريئةٌ ذات قوّة تفجيرٍ سياسيٍّ ورؤيةٍ مستقبليةٍ ثاقبة".
ولم تُجب هوفمان أُوند كامبه عن أسئلةٍ حول ما إذا كان لدار النشر تحفظّاتٌ بشأن نشر الرواية، بسبب رداءة النص الأدبيّة، على سبيل المثال لا الحصر.
فدار النشر والكاتب يَعلمان على حدٍ سواء أنّ بإمكانهما اتخاذ "الخيال الأدبي" ذريعةً إن اقتضى الأمر، وبحجة أن هذه الرواية هي قبل كلّ شيءٍ مجرّد خيالٍ ووهم، قد يرقى لأن يكون عملًا فنيًّا.
وكخطوة استباقيّة أَسرّ شرايبر في حواراتٍ صحفيّة أنّه ربّما قد "بالغ بوصف" بعض الأحداث وأنّ الكتاب تعتريه بعض اللمسات الساخرة والمتهكّمة.
أسلمة ألمانيا عبر الباب الخلفي
ولكن ستار الخيال رقيقٌ لا يخفي ما وراءه. فمن السهل النظر من خلاله ورؤية الأسلمة تزحف على مختلف أوجه الحياة داخل ألمانيا.
ففي الفصل العاشر من الرواية يغلق رجالٌ، ليسوا من جهاز الشرطة، يحملون سمات "التنوّع الثقافي" شوارعَ حيّ نويكولن البرليني كلّ يوم جمعة، ليُمكّنوا الساكنين من الصلاة في الشارع مع مراعاة عدم الاختلاط بين عبر الخطوط الفاصلة بين نِصفَيْ الطريق.
وهنا لا يفوّت شرايبر الفرصة، وهو الخبير بدقائق الدين الإسلامي، الإشارة بكل أمانة علميّة، بأن المصلين "يولّون وجوههم شطر الكعبة بالمسجد الحرام بمكّة".
"قطع الطريق أمام الإسلاميّين لكي لا يستولوا على الحكم بألمانيا"
ولكن شرطيّةً من جهاز الشرطة الفيدرالي الألماني تضيق ذرعًا بما يحصل وتطلق النار من بندقيّتها على صباح حسين لتتسبّب لها بإصاباتٍ خطيرة.
وتدّعي المهاجمة، وهي "امرأةٌ ألمانيّةٌ شقراء من شرق ألمانيا"، بأنّ كثيرين من زملائها في جهاز الشرطة يشاطرونها الرأي، "فهُم قد أدركوا، مثل ما أدركتْ هي، الألاعيب التي يحوكها السياسيّون ". وتقرّ المتهمة أمام المحكمة بارتكابها الهجوم. وعند سؤال المدعية العامّة لها عن سبب إقدامها على إطلاق النار على صباح حسين تعلّل ذلك بقولها: "لقد أردتُ قطع الطريق أمام اعتلاء ناشطةٍ إسلاميّة سدّة الحكم بألمانيا".
وتواصل المتّهمة تبرير موقفها أمام المحكمة: "لماذا يقف الحزب المسيحي بلا حراكٍ أمام ما يحصل؟ لماذا ينشط الشباب الألماني للدفاع عن الحجاب، وحصص الدين الإسلامي في المدارس، والمزيد من المساجد والمآذن، ومن أجل جلب المزيد من المهاجرين المسلمين؟؟ إنّا نتّجه إلى الهاوية. إنّ الهدف من كل هذا ليس التنوّع، كلّا، بل السيطرة على بلدنا!".
ولكن لم يحالف الحظ دينيزه شتاين، المتّهمة الشقراء. فالقاضية المكلّفة بالقضيّة مسلمةٌ ترتدي حجابًا أسود اللون يعلو روب القُضاة الأسود، مما يجعلها تبدو وكأنها "امرأةٌ إيرانيّة تلتحف الشادور".
وقد رفضت السلطات طلب الالتماس الذي تقدّمت به المتّهمة لاستبدال القاضية المسلمة بحجّة أنّها غير محايدة. فقد قرّرت المحكمة أن هذه القاضية بخلفيّتها المسلمة هي الشخص المناسب تمامًا لتولّي النظر في قضيّةٍ تدور مجرياتها حول "العنصريّة وحول جريمة كراهيّة لا لبس فيها".
ثم يصدر الحكم على المتهمة بالإدانة، في حين تتعافى بطلة القصّة من إصابتها.
وتنتهي الحكاية قُبَيل إعلان نتيجة الانتخابات بلحظاتٍ قليلة مساءً.
إذ تقضي المرشّحة لمنصب المستشارة وقتها بالصلاة إلى أن تحين الساعة السادسة مساءً على سجّادة افترشتها على أرضيّة مكتبها، وقد اختارت صباح حسين الكلمات التي ستقولها إن هي فازت بالانتخابات: "لقد طلع فجر ألمانيا الجديدة".
وللمرء أن يتساءل عن المصداقية التي يتمتع بها السيّد مذيع الأخبار الذي يعمل في أهم برنامجٍ إخباريٍ ألماني، وهو شخص أبيض البشرة، في تناوله "الناقد" للشطط في سياسات التنوّع الثقافي.
ولكن هذا أمرٌ ثانويٌ في الحقيقة. فمن منظورٍ تأريخي أدبيٍ فإنّ روايته "المرشّحة" ما هي إلا استمرارٌ لجنسٍ أدبيٍ من الروايات الرخيصة راجت بكثرةٍ في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، والتي خاطبت في حينها هي الأخرى مخاوف الجماهير وأشعلت نار الكراهيّة داخلهم، محذّرةً إيّاهم من "سيطرة الآخرين على بلادنا".
وهذا ما تغافلت عنه التقارير الصحفيّة التي تناولت الرواية. فالعديد من وسائل الإعلام الرصينة تعرّضت للكتاب بإيجابيّة، مثل صحيفتَي "تاغسشبيغل" البرلينية و"هامبورغر آبِنْدبلات" من مدينة هامبورغ.
في حين نشرت كلّ من صحيفتَيْ "تسايت" و"فيلت" و"برلينر تسايتونغ" حواراتٍ صحفيّة مع مؤلّف الرواية.
ولا غرابة، فالماكينة التسويقيّة تسير على خير ما يرام، والقصص عن الانهيار الوشيك والمزعوم لدول الغرب ترفع من المبيعات.
وفي الآن ذاته يؤكّد قسطنطين شرايبر بأن كل ما يرمي إليه هو دعوة القرّاء للتفكّر والتمعّن، مضيفًا أنّ روايته في حقيقة الأمر ما هي إلا صرخة إنذارٍ في وجه التطرّف اليميني. بكلّ تأكيد.
شتيفان بوخن
ترجمة: صهيب فتحي زمّال
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
رواية "المرشّحة"، لمؤلفها قسطنطين شرايبر، دار نشر "هوفمان أند كامبه 2021، 208 صفحات.
يعمل مؤلف مقال موقع قنطرة كصحفي لدى مجلّة "بانوراما" التلفزية في القناة التلفزيونية العموميّة الألمانيّة الأولى.