القلق العربي من "ذراع إيران الطويلة"
"ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية الإسلامية. وصنعاء أصبحت في طريقها للالتحاق بالثورة الإيرانية الإسلامية، وبالتأكيد فإنَّ الثورة اليمنية لن تقتصر على اليمن وحدها، وسوف تمتد بعد نجاحها إلى داخل الأراضي السعودية!"
هل يبدو هذا إعلان عن تحقيق انتصار من قبل ضابط ميداني، يقوم بكلّ فخر واعتزاز بالتبشير باقتراب الانتهاء من عملية عسكرية ناجحة؟ أم يتعلق الأمر ببشارة من لاعب اقترب من تجميع جميع مكونات لعبته؟
لقد كان ذلك بعض ما قاله النائب الإيراني علي رضا زاكاني في الثامن عشر من شهر أيلول/ سبتمبر 2014 بعد أن قام بحشد جمع من طلاب قوّات الباسيج شبه العسكرية في مدينة مشهد الإيرانية في شمال شرق البلاد، ليشرح لهم وضع الحملة الإيرانية في المنطقة.
مجرّد ادّعاءات أم الحقيقة
وفي اليوم التالي اضطر علي رضا زاكاني إلى تلقي انتقادات شديدة في العديد من الصحف الإيرانية، بسبب إفشائه أسرار الدولة وتعريض الأمن القومي للخطر. ولكن هذا النائب عن منطقة طهران والبالغ من العمر خمسين عامًا يتمتع على ما يبدو بحرية سياسية تُجيز له فعل ما يريد بكلّ راحة ومن دون مبالاة.
قد تكون سيرة حياة علي رضا زاكاني رأس ماله الحقيقي. فقد شارك في سنّ الخامسة عشرة في الحرب ضدّ العراق. وفي فترة دراسته الطب كان علي رضا زاكاني المحارب القديم المصاب بندوب من الحرب ناشطًا ينشط في الصفوف الأولى لقوّات الباسيج ضدّ المجموعات الطلابية المنافسة. وهذا النائب الفصيح عضو في مجالس لجان مهمة في داخل البرلمان الإيراني وخارجه، وكثيرًا ما يكون حاضرًا في استقبالات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي، كما أنَّه يتمتّع -كونه قائدًا سابقًا في الحرس الثوري- بثقة أقوى رجل في البلاد. وربما لهذا السبب يسمح لنفسه بإلقاء خطابات مذهلة، ويعتقد لهذا السبب أيضًا أنَّ بإمكانه في أي وقت الكشف عن الأسرار السياسية.
قرع نواقيس الخطر في العالم العربي
لكن لقد أدّى خطابه هذا الذي ألقاه في مدينة مشهد، أي إعلانه الانتصار في اليمن قبل تحقيقه بوقت قصير، إلى خلق عواقب خطيرة بالنسبة للسياسة الخارجية الإيرانية. فبعد انتصار الحوثيين الشيعة سرت عبر وسائل الإعلام العربية موجةٌ من التعليقات المناهضة لإيران. وكان العنوان الرئيسي في معظم الصحف العربية: "اليمن تحت سيطرة إيران"، وذكر الجميع خطاب علي رضا زاكاني، الذي تنبأ فيه بانتصار المتمرّدين واستهدف المملكة العربية السعودية.
بعد بغداد ودمشق وبيروت باتت صنعاء الآن رابع عاصمة عربية تدين لإيران بالولاء، مثلما كتب على سبيل المثال أحد المعلقين على موقع قناة الجزيرة، وطابق بين المتمرّدين الحوثيين الشيعة في اليمن وحزب الله في لبنان؛ حيث كتب: من المعروف أنّهما ذراع إيران الطويلة.
كذلك ركّزت صحف عربية أخرى مثل صحيفة الحياة اللبنانية اهتمامها على شخص علي رضا زاكاني وعلى ذلك الجزء من خطابه، الذي تنبأ فيه للمملكة العربية السعودية بتطوّر مماثل. وجميع هذه التعليقات والتحليلات المنشورة في الصحف لا تعتبر علي رضا زاكاني شخصًا يتصرّف بمفرده أو متطرّفًا يدّعي ادّعاءات. فعلى سبيل المثال كتب أحد المعلقين على موقع قناة العربية أنَّ علي رضا زاكاني شخص يقول بصراحة ما يفكّر به وما يفعله الكبار في جهاز السلطة في إيران.
دعم ومساندة تامة من طهران
وكأنما يريد الإعلام الإيراني التأكيد على صحة آراء المعلقين العرب، فمنذ ذلك الحين تحتفل الصحف والمواقع الإيرانية المتطرّفة مثل موقعي كيهان وفارس بـ"النصر الإيراني" في اليمن وتذكر مع ذلك أهم ضباط الجيش اليمني. وبعد ثلاثة أيّام من تغيير السلطة في صنعاء، نشرت وكالة أنباء فارس - وهي وكالة لديها أفضل العلاقات الاستخباراتية في جمهورية إيران الإسلامية - حوارًا مع أمير علي حاجي زاده، قائد القوّات الجوفضائية في الحرس الثوري الإيراني.
ومثلما تفاخر علي رضا زاكاني بانتصار حلفائه المنتظَر في اليمن، كشف كذلك أمير علي حاجي زاده عن تفاصيل جديرة بالاهتمام حول كيفية عمل الحرس الثوري في المنطقة برمّتها. فقد ذكر أنَّ الجنرال قاسم سليماني منع بسبعين رجلاً فقط سقوط مدينة أربيل العراقية في أيدي إرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية. وكذلك أشاد أمير علي حاجي زاده بـ"عبقرية قائد فيلق القدس في إدارة الحرب"، هذا القائد الذي يتم الاحتفال به منذ فترة طويلة في بعض وسائل الإعلام الإيرانية باعتباره بطلًا ذا قدرات خارقة للطبيعة. وضمن هذا السياق تنبّأ أمير علي حاجي زاده أنَّ الولايات المتّحدة الأمريكية وحالفاءها لن يتمكّنوا من إيقاف إرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، بل إنَّ مَنْ سيوقفهم بشكل جاد هو قاسم سليماني وحلفاؤه في العراق.
صداقة متينة بين رجلين عسكريين
قد تكون هذه مبالغة في تقدير الأبطال الإيرانيين داخل إيران، ولكن أن تُظهر عملية قاسم سليماني نجاحات في العراق، بحيث صار يتم الآن تقديره هناك أيضًا وأصبح بإمكانه الاعتماد على حلفاء موثوق بهم في العراق، فهذا ما تُوثـِّقُه أيضًا أحدث التقارير التي بثتها هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي.
يعرض تقرير تلفزيوني الوضع السياسي في ناحية سليمان باك العراقية، الواقعة على بعد نحو تسعين كيلومترًا شمال تكريت. الزمن: بعد ظهر يوم التاسع من شهر أيلول/ سبتمبر 2014، وبعد وقت قصير من تحرير قرية أمرلي المأهولة بغالبية شيعة، بعد حصار استمر ثمانين يومًا من قبل إرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية.
تُشاهَد سيارة عابرة، يجلس في داخلها جنرالان عادا للتو من معركة انتهت بنصرهما. وفي الواقع يعدّ هذان الرجلان - قاسم سليماني وهادي العامري - بالنسبة للناس الذين تجمّعوا حول مراسلة البي بي سي في هذه القرية، أسطورتين حيتين، بطلين ملحميين، أثرا تأثيرًا حاسمًا في جميع الحروب والحروب الأهلية في الثلاثين عامًا الماضية في هذه المنطقة. وإذا كان هناك مَنْ يستطيع إيقاف جرائم سفاحي تنظيم الدولة الإسلامية، فلا يمكن أن يكون حسب رأي الناس الحاضرين إلاّ هذين المحاربين الذين يقاتلا من دون كلل أو ملل، أي الإيراني قاسم سليماني والعراقي هادي العامري.
وهؤلاء الرجلان اللذان يبلغ عمرهما ستين عامًا يعرفان بعضهما البعض منذ أكثر من ثلاثين عامًا، أي منذ بدايات الحرب العراقية الإيرانية، عندما تمكّن العراقي هادي العامري - الذي كان في تلك الأيَّام ناشطًا شيعيًا شابًا - من الهرب من أزلام صدام حسين والوصول عبر طريق ملتوية إلى إيران. لقد كانت هذه بداية صداقة متينة بين رجلين، أصبحت مهنتهما ومهمتهما هما الثورة والحرب. واليوم يشغل هادي العامري منصب وزير النقل العراقي.
إيران في مركز السلطة العراقية
في الأصل كان من المفترض أن يصبح هادي العامري وزيرًا للدفاع أو للداخلية، أي أن يتولى منصبًا بمهام أمنية. ولكن النوّاب السُّنة في برلمان بغداد عارضوا هذا المشروع معارضة شديدة. وذلك لأنَّ هادي العامري قائد ميليشيا يبلغ قوامها نحو ثلاثين ألف رجل، أي فيلق بدر. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان سيشاركه -بحسب مخاوف السُّنة العراقيين- شخص إيراني في قيادة قوّات الأمن العراقية. وعلى الرغم من أنَّ هادي العامري من مواليد محافظة ديالى العراقية، إلاَّ أنَّه قضى ثلاثين عامًا لدى الحرس الثوري في إيران، حيث أسّس هناك مع غيره من المعارضين العراقيين فيلق بدر، الذي عاد إلى العراق بعد سقوط صدام حسين.
أمَّا زوجة هادي العامري، وهي امرأة إيرانية، فما تزال تعيش مع أطفالها الثلاثة في منطقة داخل طهران، يسكن فيها بصورة خاصة قادة الحرس الثوري. ولكن سيرة حياة هادي العامري وقاسم سليماني ليست الشيء الوحيد الذي يربط بين هذا العراقي وذاك الإيراني. إذ يتطابق هذان الرجلان تطابقًا تامًا في قناعاتهما السياسية والدينية. ففي مقابلة تلفزيونية قال هادي العامري قبل عام: "أنا أؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، سيادة الفقيه المطلقة، مثلما هي موجودة حاليًا في إيران".
سيف ذو حدين
ومثل هذه السير الذاتية، التي يمكن العثور عليها كثيرًا في جهاز السلطة العراقية الحالي، ساهمت في ابتعاد الكثيرين من السُّنة العراقيين عن الحكومة المركزية في بغداد. ولذلك يعود الفشل في تشكيل دولة قومية قوية بعد سقوط صدام حسين إلى أسباب متعدّدة. ولكن على الأرجح أنَّ العامل الحاسم يتمثّل في السيطرة على أجهزة الأمن العراقية من قبل فيلق بدر وعشرات الميليشيات الشيعية الأخرى. وعندما يتحدّث ذوو السلطة والحكام في إيران حول حلفائهم العراقيين، فهم يقصدون بالذات هذه الميليشيات داخل جهاز الدولة العراقي وخارجه.
ولهذا السبب فإنَّ الكثيرين من العراقيين ينظرون إلى عمليات إيران ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية بمشاعر مختلطة، وكذلك يعتبرونها -مثلما كتب معلق في قناة العربية- سيفًا ذا حدين.
استطاعت أيضًا مراسلة البي بي سي تكوين صورة مشابهة بعد تحرير ناحية آمرلي. كان قاسم سليماني وهادي العامري -اللذان تم تقديرهما من قبل الأشخاص الشيعة الحاضرين هناك كبطلي حرب- قد غادرا منذ وقت طويل، ولكن استمرت المراسلة بتحقيقها الصحفي، صوّرت حماس الأهالي للمساعدة الإيرانية، بالإضافة إلى تسجيلها عدد الأسلحة الإيرانية وأنواعها، ومن ثم سافرت إلى مدينة كركوك. وهناك التقت مجموعة من الأكراد والشيعة الخائفين، الذي اختبؤوا خوفًا من "المساعدين الإيرانيين" وحلفائهم العراقيين.
كان من بين هؤلاء الأشخاص الخائفين شيخ قرية شيعي، أخبر المراسلة بشيء مخيف للغاية. وهذا الرجل المسنّ المحنّك، والمنحدر من قرية قريبة من مدينة آمرلي -والذي كان بنفسه ذات يوم من المؤيّدين المتحمّسين للثورة الإسلامية في إيران- قال للمراسلة إنَّ هناك أعدادًا متزايدة في المنطقة من أفراد الميليشيات الشيعية الشباب، الذين كثيرًا ما يكونون أخطر وأعنف مما كانت عليه الحال في السابق، وحتى أخطر بكثير من فيلق بدر المعروف بوحشيته؟ لا بد أن يكون لهذا معناه في ظل غياب أية سلطة حكومية في العراق.
وربما يعرف الإصلاحيون والمعتدلون في إيران ما هو المستقبل المتوقع في العراق، إذا استمر ابتعاد أغلبية العراقيين عن دولتهم وعن تسلط الميليشيات. فمن دون المصالحة الوطنية ودمج جميع القوى في البلاد يعتبر فشل عملية المصالحة أمرًا حتميًا، مثلما حذّر قبل فترة غير بعيدة الرئيسُ الإيراني حسن روحاني رئيسَ الوزراء العراقي الجديد حيدر العبادي على هامش اجتماع للأمم المتّحدة.
بيد أنَّ طريق المصالحة وعرة على ما يبدو أكثير بكثير مما كان يعتقده الكثيرون. فقد بات رئيس الوزراء العراقي الجديد مهددًا الآن بأوّل أزمة حكومية. وكذلك لم يحصل مرشحاه الجديدان لمنصبي وزير الداخلية ووزير الدفاع على الأغلبية في الجلسة البرلمانية السابقة. ونتيجة لذلك يبقى رئيس الوزراء العراقي الشيعي حيدر العبادي شخصيًا وبشكل مؤقت القائد الأعلى في صراع إقليمي يدور على عدة جبهات.
علي صدرزاده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2014