الشيخ إمام...أسطورة الأغنية السياسية في مصر
فبراير/شباط 2011، ميدان التحرير في القاهرة. وسط الجموع تُغنِّي فرقة "إسكندريلا" الصغيرة أغنيات احتجاجية مصرية معروفة. يقوم الناشطون الإعلاميون الشباب بتصوير هذه العروض وبنشرها على شبكة الإنترنت، حيث يشاهدها آلاف من المعجبين. تحظى أغاني الشيخ إمام بشعبية خاصة - على الرغم من أنَّ المطرب الاحتجاجي الأسطوري هذا كان قد مر على وفاته في ذلك الوقت أكثر من خمسة عشرة عامًا، وأنَّ حفلاته الدولية الكبرى مع الشاعر أحمد فؤاد نجم (توفى في كانون الأوَّل/ديسمبر 2013) تعود إلى نحو أربعين عامًا. من المعروف أنَّ تسجيلاتهما الصوتية الجيِّدة نادرة للغاية؛ وبما أنَّهما كانا يتعرَّضان للاعتقال مرارًا وتكرارًا خلال مسيرتهما المهنية المشتركة وكان يتم دائمًا حظر أغانيهما، فقد أُنتجت لهما فقط تسجيلات هواة مع استثناءات قليلة، كانت تصل على أشرطة الكاسيت إلى السوق. ولكن مع ذلك يبدو أنَّ سحر أغاني الشيخ إمام لا يزال مستمرًا - حتى في عام 2018، بعد مرور سبعة أعوام على المظاهرات في ميدان التحرير. قد يحدث في اللقاءات الخاصة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط أن يبدأ فجأة شخصٌ ما في غناء أغنية للشيخ إمام مثل "شيِّد قصورك"، التي يقول فيها: "شيِّد قصورك على المزارع، من جدِّنا وعمل أيدينا. والخمَّارات جنب المصانع والسجن مطرح الجنينة… وقِلِّ نومنا في المضاجع، أدي احنا نمنا ما اشتهينا!". تدندن لحن هذه الأغنية طالبةٌ مغربية في الخامسة والعشرين من عمرها وتقول ساخرة: "بالطبع، لقد كان جدي وجدتي يسمعان هذه الأغنية في السبعينيات، ولكن ما الذي تغيَّر منذ ذلك؟ لا شيء. الكلمات تناسب وضعنا الراهن مائة في المائة".
مضايقات من جانب رجال الدين المحافظين وُلِدَ الشيخ إمام محمد عيسى قبل مائة عام، في الثاني من تموز/يوليو 1918، في بلدة تقع بالقرب من القاهرة. وبعدما فقد بصره وعمره أربعة أشهر، أرسله والداه إلى مدرسة قرآنية ليتعلم التجويد ويصبح مقرئًا. ولأنَّه كان يمتلك صوتًا قويًا، فقد كان يُغنِّى في الحفلات العائلية أيضًا. وعندما بلغ هذا الصبيّ الموهوب سنّ الثانية عشرة، أخذه أحد أعمامه إلى القاهرة وسجَّله في جامعة الأزهر. بقي الشيخ إمام هناك خمسة أعوام، وكان من المفترض أن يصبح في الواقع إمام مسجد. ولكن بعد ذلك أخرجه رجال الدين المحافظون - وذلك بسبب الاشتباه بأنَّه كان يسمع الراديو في السرّ. ولما كان عليه الاعتماد على نفسه، عمل الشيخ إمام بشكل متقطع كمطرب في الأعراس والحفلات العائلية الأخرى. وهكذا أصبح معروفًا في منطقته، أي في حيّ الغورية التقليدي بالقاهرة. وبما أنَّه كشخص كفيف لم يكن لديه أي أمل في العمل والحصول على دخل ثابت، فقد وفَّر له بعض جيرانه وأقاربه البعيدين مسكنًا بسيطًا من دون مقابل. تعلم الشيخ إمام بمفرده العزف على العود، وأخذ دروسًا على يد الملحِّن المشهور حينها زكريا أحمد. وفي مرحلة ما، اكتشفت الإذاعة أيضًا هذا الفنَّان الكفيف، بحيث أنَّه كان أحيانًا يُغنِّي في الراديو. وفي عام 1962 التقى أخيرًا بأحمد فؤاد نجم، وهو شاعر موهوب وشخص عصامي من أسرة فقيرة، كان قد أمضى ثلاث سنوات في السجن بسبب مشاركته في احتجاجات ضدَّ الفساد. فكاهة "الشارع" المصري بدأ الاثنان العمل سوية: كان الشيخ الإمام يُلحِّن قصائد أحمد فؤاد نجم، التي أصبحت وعلى نحو متزايد سياسيةً أكثر وقد كان من السهل حفظها لعدة أسباب: أولًا لأنَّ أحمد فؤاد نجم كان يكتب بالعامية المصرية، وثانيًا لأنَّه كان يستخدم أشكالًا من الأغنية الشعبية مثل "الزجل" و"الموَّال"، معروفة لكلِّ طفل مصري، وثالثًا لأنَّه كان يستند في العديد من أبياته إلى أدب الحياة اليومية الشفوي المصري مثل الألغاز والأمثال وأغاني الأطفال. "الأسلوب التعبيري عند أحمد فؤاد نجم بسيط وأصيل"، مثلما كتب الباحث الأدبي كمال عبد الملك في دراسته الصادرة عن مطبعة بريل باللغة الإنكليزية في عام 1990: "ذلك لأنَّ أسلوبه على العموم ينهل من اللغة العامية اليومية ويجسِّد فكاهة ’الشارع‘ المصري". أصبح الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم معروفَيْن على مستوى البلاد فقط بعد هزيمة مصر ضدَّ إسرائيل في حرب حزيران 1967. انتقدا في أغانيهما الهزيمة العربية وطالبا باستعادة سيناء. حاول الدكتاتور المصري المصاب بنكسة شديدة، جمال عبد الناصر أن يستغل لصالحه شعبية هذا الثنائي وقد عرض عليهما الكثير من المال من أجل الظهور في التلفزيون. فنانان نزيهان لا يقبلان الرشوة ولكن الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم لم يبيعا نفسيهما، بل استمرا في الغناء ضدَّ دكتاتورية جمال عبد الناصر، وضدَّ عدم المساواة الاجتماعية والاستغلال والفساد. وعندما خرج في سنة 1968 آلافٌ من العمال والطلاب في مصر إلى الشوارع وقُتِل منهم أكثر من اثني عشر شخصًا، دعم الفنانان تلك الاحتجاجات. ومنذ ذلك الحين بدأ نظام عبد الناصر يراهن على القمع: ففي عام 1969 اتُّهم الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وحكم عليهما بالسجن مدى الحياة. وفي عام 1970 توفي جمال عبد الناصر. وبعد عامين أطلق سراحهما الرئيس الجديد أنور السادات في عام 1972، ولكن حرِّيتهما لم تستمر وقتًا طويلًا، وذلك لأنَّ الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم قد استهدفا بسخريتهما أهم حليف لمصر - أي الولايات المتَّحدة الأمريكية.
في عام 1973 انتهى المطاف من جديد بكلّ من الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وكذلك الموسيقي والرسام محمد علي خلف القضبان - وتحديدًا بسبب الأبيات التالية من أغنية "شرَّفت يا نيكسون بابا - يا بتاع الووتر جيت" بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى هبة النيل: "شرَّفت يا نيكسون بابا، يا بتاع الووتر جيت، عملوا لك قيمة وسيما، سلاطين الفول والزيت، فرشوا لك أوسع سكة، من راس التين على مكة، وهناك تِنْفد على عكا، ويقولوا عليك حجِّيت، ما هو مولد سايِر دايِر، شِيْ الله يا صاحب البيت؟". الموسيقى ضدَّ الاستبداد والظلم السياسي كذلك كان الثنائي إمام-نجم يغنيان ضدَّ الحرب الأهلية اللبنانية، وضدَّ معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية "كامب ديفيد"، ومن أجل حقوق الفلسطينيين في صراع الشرق الأوسط. وقد شاركت كثيرًا في حفلاتهما الموسيقية أيضًا الفنانة عزة بلبع، وهي مغنِّية وممثلة مصرية موهوبة. ومنذ عام 1977 بات بوسع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم السفر من جديد إلى خارج البلاد، حيث أقاما حفلات موسيقية في العالم العربي وفي دول أوروبية من بينها فرنسا وألمانيا. غير أنَّهما افترقا في عام 1981. ولعدة أعوام امتنع الشيخ إمام عن غناء أغاني أحمد فؤاد نجم. وأخيرًا حاول العمل كفنان منفرد، رغم أنَّه لم يحقِّق أي نجاح كبير. ثم غادر الشيخ إمام البيت الذي عاش فيه عدة سنوات مع أحمد فؤاد نجم، وانتقل إلى شقة أخرى تقع على بعد بضعة شوارع، مع أنَّه بقي مرتبطًا طيلة حياته بحارة خوش قدم في القاهرة القديمة.
"الإسلام يعني العدالة الاجتماعية. نقطة" في الأعوام الأخيرة من حياته، كان الشيخ إمام يظهر بشكل نادر فقط. ومن وقت لآخر كان يعمل في حفلات خاصة، غير أنَّ ذراعه اليمنى كانت ضعيفة ولم يعد بوسعه تقريبًا العزف على العود. وكانت نساء الحارة يغسلن ملابسه ويحضرن له الطعام ويساعدنه في الحفاظ على نظافة سكنه المتواضع. قبل وفاته ببضعة أعوام، كان الناس يجدون المطرب الكفيف غارقًا أحيانًا في تلاوة القرآن. أصبح طالب المدرسة القرآنية السابق في شيخوخته شخصًا متديِّنًا من جديد. ولكنه كان لا يزال يرفض التظاهر بالدين والتعصُّب الديني. وكانت عقيدته أنَّ "الإسلام يعني العدالة الاجتماعية. نقطة". توفي الشيخ إمام في السابع من حزيران/يونيو 1995. بيد أنَّه لا يزال حيًا كموسيقي وكشخص ملتزم. مارتينا صبراترجمة: رائد الباشحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de