رغم تماثل الرئيس السبسي للشفاء: مخاوف من فراغ دستوري في تونس
فيما يتعافى الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي من آثار الوعكة الصحية الحادة التي ألمّت به، بدأ التونسيون في الوقوف على خطورة المأزق الدستوري الذي كادت البلاد أن تنحدر اليه، نتيجة تقاعس المُشرّعين في انشاء المحكمة الدستورية العليا، وتعتيم المقرّبين من الرئيس على حقيقة وضعه الصحيّ ومدى قدرته على أداء مهامه التي يضبطها الدستور.
يوم 27 يونيو 2019 لم يكن يومًا عاديًا في تونس، فقد شهد عمليّتين انتحاريتين في قلب العاصمة، أعقبهما نبأ تعرّض الرئيس التسعيني الباجي قايد السبسي إلى وعكة صحية حادة استوجبت نقله إلى المُستشفى.
ومع البيان المقتضب والغامض لرئاسة الجمهورية التونسية، وتكتّم المحيطين بالرئيس على حقيقة وضعه الصحيّ، انتشرا شائعات وفاة الرئيس السبسي في وسائل الاعلام الدولية قبل المحليّة، وانتابت الحيرة الساحتين الشعبية والسياسية جراء عدم اليقين والتصريحات المتضاربة التي بلغت حدّ الاعلام بوقوع "انقلاب طبي أبيض" على شاكلة الانقلاب الذي قاده الرئيس السابق زين العابدين بن علي ضدّ الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي كان على فراش المرض حينها.
ورغم وعود الرئاسة بتقديم تقرير طبي مستفيض عن صحة السبسي، فإنّ ذلك لم يحصل رغم مرو أكثر من أسبوع على خروجه من المستشفى.
ما زاد الطين بلّة والوضع غموضا وارباكا، هو غياب المحكمة الدستورية، التي تضطلع بمهمة اعلان شغور منصب الرئيس بشكل نهائي أو وقتي، وهي التي تضطلع كذلك بوضع أسس انتقال السلطة من الرئيس "العاجز" أو "المستقيل" إلى من سيخلفه.
خاض التونسيون في جدل قانوني شائك عقب تعرض الرئيس الى مرض مازال مجهولا نظرا للتعتيم الشديد على ملفّه الطبي.
ومع تسرّب أنباء عن وفاة الرئيس نسبتها وسائل اعلام عربية ومحلية إلى "مصادر موثوقة في رئاسة الجمهورية"، فقد كثر الحديث عن الإجراءات الدستورية المتبعة في هذه الحالة، خاصة في ظل عدم وجود المحكمة الدستورية.
ينص الدستور التونسي على فرضيّتين في حالة شغور منصب رئيس الدولة، إذ يؤكد الفصل 84 على حالتي شغور:
الأول "شغور وقتي"، ففي حال عجز رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وقتياً عن القيام بدوره "تجتمع المحكمة الدستورية بشكل عاجل لمعاينة الشغور الوقتي لمنصب رئيس الجمهورية، لأسباب تحول دون تفويضه سلطاته، وتقرّ الشغور الوقتي، فيحل رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية. ولا يمكن أن تتجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوماً".
أما في حالات الشغور الدائم، "إذا تجاوز الشغور الوقتي مدة الستين يوماً، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أو في حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فوراً، وتقرّ الشغور النهائي، وتبلّغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فوراً مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوماً وأقصاه تسعون يوماً".
ويؤدي رئيس البرلمان في حالة الشغور النهائي اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب وعند الاقتضاء أمام مكتبه، أو أمام المحكمة الدستورية في حالة حل المجلس.
ويمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية، حسب الفصل 86، المهام الرئاسية لكن بحدود، إذ لا يحق له المبادرة باقتراح تعديل الدستور، ولا اللجوء إلى الاستفتاء، ولا يحق له كذلك حل البرلمان ولا حتى تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
وخلال المدة الرئاسية الوقتية التي لا تتجاوز 3 أشهر يُنتخب رئيس جمهورية جديدا لمدة رئاسية كاملة.
لكن عدم إرساء المحكمة العليا، يعقّد هذه المساعي الدستورية ويضعفها.
وأمام هذا الوضع، يجتهد بعض القانونيين بالقول إنّ البرلمان هو المؤسسة الأقدر على تولي مهمة إقرار الشغور النهائي بموجب الوفاة عبر شهادة طبية تثبت ذلك، على اعتبار أن المحكمة الدستورية، لو كانت موجودة، لن يمكنها إقرار الوفاة والشغور النهائي، في كل الأحوال، إلا بموجب شهادة طبية يقدمها أطباء الرئيس.
في حين رأى فريق آخر من القانونيين أن "الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين" يمكنها معاينة الشغور النهائي في منصب الرئيس، رغم أن الأحكام الانتقالية والقانون المنظم لها، يحصر مهام هذه الهيئة في اختصاص وحيد وهو مراقبة دستورية مشاريع القوانين.
غياب التوافق... ومعضلة التعتيم
وصلت تونس إلى هذا الحال نتيجة سببين مباشرين، أولهما تلكّؤ البرلمان في التوافق على أعضاء المحكمة الدستورية، التي ينصّ الدستور على ضرورة تشكيلها بعد عام واحد من الانتخابات التي أجريت في 2014.
إذ مازال المُشرّعون يكابدون لإيجاد تفاهمات واتفاقات على أسماء بعينها مرشحة لعضوية المحكمة الدستورية، في ظل حالة من الاستقطاب الحاد بين الكتل الكبرى المختلفة على أدق التفاصيل.
أما السبب الثاني، فتتحمّل مسؤوليته رئاسة الجمهورية ومستشارو الرئيس وبعض أعضاء عائلته، ممن تركوا الحبل على الغارب في موضوع صحة السبسي وفسحوا المجال واسعا أمام مروجي الاشاعات، ما جعل السلم الأهلية والأمن القومي مهددين بشكل واضح.
في الديمقراطيات الحقيقية، لا يستطيع الرئيس الانفراد بقرارات مهمة مثل اعلان السلم والحرب حسب اهواءه ومزاجه، فالحالة الصحية للرئيس تساعده على اتخاذ القرارات السياسية الصحيحة والصائبة، وهذا كفيل بجعل الحالة الصحية للشخصية العامة تتجاوز "الخصوصية الفردية" لتقترب كثيرا من حقوق المواطنة، إذ من حق المواطن أن يعرف الحالة الصحية لرئيسه أو لمرشح الرئاسة، حتى يتجنب اختيار الشخص الذى تعوقه أمراضه العضوية أو النفسية عن اتخاذ القرارات المناسبة.
ولتونس تاريخ طويل مع التعتيم على مرض الرؤساء، فلطالما كان الموضوع من "التابوهات" التي تسبب مشاكل بالجملة لسياسي يتطرّق اليها، أو لصحافي يستقصي عنها أو لطبيب يتساءل عنها.
ويبدو أن الرئاسة التونسية لم تتقبّل بعد أنّ صحة الرئيس لم تعد "خطا أحمر" كما في السابق، وأن الشفافية من أبرز أسس الديمقراطية، فالحالة الصحية للشخصية العامة، وخاصة رئيس الدولة، من أهم حقوق المواطنين والشعوب، حتى تستطيع الدول تجنب العديد من الكوارث الناتجة عن الخلل الوظيفي الذي يلازم بعض الأمراض الجسدية والنفسية لمن يتولى منصبا رفيعا.
كما أن أحداث الخميس 27 يونيو، وما جرى في الجارة الجزائر نتيجة مرض الرئيس السابق بوتفليقة وعجزه، جعلت التونسيين يستفيقون على حقيقة أنّ من حقهم كشعب يعيش انتقالا ديمقراطيا صعبا، معرفة حقيقة الوضع الصحي لمن يتقدم لاستلام منصب بارز، وأن يعرف ما إذا كان زعيمه لائقا صحيًا لتحمل أعباء المسؤولية وهل يملك الأهلية اللازمة لاستمرار شغله لهذا المنصب أم لا.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
إسماعيل دبارة، صحافي وعضو الهيئة المُديرة لمركز تونس لحرية الصحافة.