ـ دار آمنة ـ مأوى نساء مهددات بقتل بشع في الأردن
تصاب رغدة العزة بالتوتُّر عندما يرنَّ جوَّالها. فقد يكون هذا الاتصال يتعلق بامرأة في حاجة إلى المساعدة: امرأة تطلب حمايتها من عائلتها التي تريد قتلها. ولكن هذا الاتصال جاء الآن من محامٍ يريد الحديث معها حول قضية.
رغدة العزة أخصائية اجتماعية حاصلة على الدكتوراه، تغطي رأسها بحجاب لونه بيج وترتدي بدلة سوداء، تشعر بالراحة بعد ردها على المكالمة وتجلس من جديد على كرسيها. إنها في منتصف الثلاثينات من عمرها، وتدير "دار آمنة"، وهي ملجأ لحماية النساء يقع في ضواحي العاصمة الأردنية عمّان. افتتحت وزارة الشؤون الاجتماعية ملجأ النساء هذا في شهر تموز/يوليو 2018، وفي شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه وصلت الدار أولى طالبات الحماية.
يهدف ملجأ "دار آمنة" إلى إرسال رسالة واضحة تفيد بأنَّ الحكومة جادة في محاربة جرائم القتل باسم شرف العائلة. إذ لا تزال توجد بحسب معلومات هيومن رايتس ووتش من عشر نساء إلى عشرين امرأة يتعرَّضن كلَّ عام لهذا المصير على الرغم من كلِّ الجهود المبذولة: يقوم إخوتهن أو آباؤهن بقتلهن لأنّهن تسببن مثلما يُقال بـ"تلويث" شرف العائلة.
وجرائمن هذه في الواقع ليست جرائمَ حقيقيةً: فقد يكن لديهن طفل من دون زواج، أو ربما يكن ضحية اغتصاب، أو حتى يردن الزواج من رجل ترفضه العائلة. لا تزال تعتقد حتى يومنا هذا أجزاءٌ من المجتمع الذكوري المتأثِّر بتفكير القبلية البدوي بأنَّ الذنب هو ذنب النساء دائمًا، وحتى عندما يكن ضحايا.
حملات توعية فعَّالة
ومع ذلك فإنَّ حملات التوعية المنظمة من قِبَل ناشطات حقوق المرأة ومنظمات غير حكومية بدأت تُظهر ببطء تأثيرًا إيجابيًا يتمثَّل في تراجع عدد هذه الجرائم. فقد بدأ المجتمع في إعادة التفكير، حيث يزداد عدد الناس الرافضين لأعمال العنف هذه.
والآن توفِّر "دار آمنة" الحماية للنساء. تقول الأخصائية الاجتماعية رغدة العزة: "بات يمكننا أخيرًا مساعدة النساء بشكل أفضل. بالنسبة لي تعتبر ’دار آمنة‘ هديةً من السماء. وهي بالنسبة لي بمثابة حلم تحقّق أخيرًا". عندما وصلت أوَّل امرأة الدار في شهر أيلول/سبتمبر 2018، كانت هذه لحظة عاطفية بالنسبة لمديرة الدار رغدة العزة، ولا يزال الأمر كذلك بالنسبة لها حتى يومنا هذا عندما تدخل امرأةٌ جديدةٌ الدار - عندما تفتح عينيها وهي مندهشة وتشعر على الفور بأنَّ هذا المكان جيِّد.
تم حتى الآن إيواء إحدى وثلاثين امرأة تتراوح أعمارهن بين تسعة عشر عامًا وأربعة وأربعين عامًا، من بينهن أربع عشرة امرأة غادرن "دار آمنة" بناءً على طلبهن. وحاليًا تعيش سبع عشرة امرأة هنا في ملجأ النساء.
لا تسامح مع "جرائم الشرف"
يشير اسم هذا الملجأ "دار آمنة" في اللغة العربية إلى الأمن والأمان. وهذه الدار يتم تمويلها من قِبَل "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" USAID، ويحيط بها سياجٌ مرتفع ويحرسها رجال شرطة بملابس مدنية، فالأمن ضروري هنا. تتقاسم كلَّ غرفة في الدار ثلاثُ نساء، وتوجد كذلك غرفة مشتركة مع مطبخ، ورعاية طبية بالإضافة إلى مكان للعب الأطفال. أثناء قيام رغدة العزة بجولة في الدار، كانت هناك حلّاقةٌ تقص شعر امرأة وتعرض على بعض النساء كيف يتم قص الشعر. وجوه النساء حادة وشاحبة، وضحكاتهن تبدو مكتومة. وحفاظًا على حمايتهن، لا يتحدَّثن إلى الصحفيين.
تقول أسماء خضر من جمعية معهد تضامن النساء SIGI في عمّان: لقد كافحنا فترة طويلة من أجل "دار آمنة". طالبت لعدة إعوام المنظماتُ غير الحكومية الأردنية مثل جمعية معهد تضامن النساء و"ميزان - مجموعة القانون من أجل حقوق الإنسان" بحماية أفضل للمرأة من العنف الأسري. ولفترة طويلة كانت لدى الوزارة تحفُّظات. ثم حصل التحوُّل في عهد وزيرة التنمية الاجتماعية الأردنية هالة بسيسو لطوف، التي لم تعد موجودة في هذا المنصب. ولكن نأمل في أن تحافظ "دار آمنة" على وجودها.
كذلك حدثت في الأعوام الأخيرة تغييراتٌ كثيرة من الناحية القانونية. بعد مناقشات طويلة في مجلس الأمة الأردني، وافق في شهر تموّز/يوليو 2017 نوَّاب البرلمان على حذف المادة رقم ثمانية وتسعين من قانون العقوبات، التي كانت تنصّ على استفادة فاعل الجريمة من الحكم المخفَّف في حال "إقدامه عليها بصورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه" - أي في حال إقدام رجل على قتل أنثى من أفراد أسرته بسبب إتيانها عمل غير أخلاقي أو خطير. ولعقود من الزمن كان الجناة يفلتون من ذلك بعقوبات مخفَّفة بشكل لا تتعدى السجن لمدة عامين. ولكن هذا انتهى الآن. وقد صدرت أوَّل أحكام قاسية بالسجن لمدة خمسة عشر عامًا وعشرين عامًا.
تغيير المعايير الثقافية
أصدرت في نهاية عام 2016 دائرة الإفتاء الأردنية، وهي مؤسَّسة حكومية تفتي في المسائل الأخلاقية من المنظور الإسلامي، فتوًى تُحرِّم قتل النساء بدعوى الدفاع عن شرف العائلة وتعتبره "من أبشع الجرائم". وفي هذه الفتوى شدَّد الفقهاء على أنَّ "قيام أي شخص بقتل قريبته بدعوى حماية الشرف وصيانة العرض، فعلٌ محرَّم شرعًا وجريمة يجب أن يحاسب القاتل عليها".
لكن المعايير الثقافية لا تتغيّر بسهولة. النقاشات في المجتمع بعيدة كلّ البعد بالنسبة لنساء "دار آمنة"، السعيدات فقط لأنَّهن يتمتعن بالأمن وبإمكانهن الحياة بهدوء. تقول الأخصائية الاجتماعية رغدة العزة واصفةً طريقة عملها: "في البداية أشرح لهن حقوقهن. أخبرهن أنَّ بإمكانهن الحضور والذهاب مثلما يردن ولا أحد يحتجزهن في دار آمنة". تخبر النساء اللواتي كثيرًا ما ينحدرن من خلفيات بسيطة بالعروض الموجودة في هذا الملجأ: بإمكانهن أن يتعلمن كيفية استخدام الكمبيوتر وإصلاح الهواتف الذكية. أمَّا من يرغبن أكثر في الأعمال التقليدية، فبإمكانهن أيضًا تعلم الخياطة أو قص الشعر.
ولكن فقط عندما يصبحن جاهزات نفسيًا لذلك. لأنَّ الكثيرات منهن يحتجن أوَّلًا بعض الوقت لجمع قوتهن. فمن الصعب بما فيه الكفاية عليهن تحمُّل حقيقة محاولة أسرهن - آبائهن أو إخوتهن - القضاء على حياتهن. في مجتمع تعتبر فيه الأسرة فوق كلّ شيء، من الصعب للغاية أن تكون المرأة وحدها. تعاني بعض النساء من الشعور بالذنب لأنَّهن يفهمن أنَّ سلوكهن كان غير صحيح. وقد يغرقن بعد ذلك في حالة اكتئاب ويجلسن طيلة أسابيع أمام التلفاز. تحاول رغدة العزة وفريقها إيجاد حلّ للجميع.
تقول رغدة العزة: "بعد بضعة أيَّام نجري مناقشة أولى للحالة". يتم التشاور بالتعاون مع محامٍ وأخصائية نفسية وممثِّلات المنظمات غير الحكومية ودائرة حماية الأسرة (وهي وحدة خاصة في الشرطة لمكافحة العنف الأسري). تقول الأخصائية الاجتماعية إنَّ كلَّ حالة تختلف عن الأخرى. ولكن مصير كلِّ امرأة يتطلب جهدها الكامل. وترى أنَّ مهمة حياتها هي مساعدة هؤلاء النساء.
ولذلك فهي موجودة هنا ليلًا ونهارًا من أجلهن. كما أنَّها لا تذهب إلى بيتها إلَّا في عطلة نهاية الأسبوع. وبالنسبة لها يعتبر استقلال النساء أهم شيء. وحول ذلك تقول: "هؤلاء نساء بالغات يستطعن اتِّخاذ قراراتهن الخاصة بشأن حياتهن. ونحن نريد تشجيعهن على ذلك".
ولكن هذا الهدف غالبًا ما يتعارض مع تصوُّرات المجتمع التقليدي، الذي تملك فيه الأسرة أهمية أكبر من تحقيق الفرد ذاته. ولهذا السبب يجب على رغدة العزة أن تحاول أيضًا المصالحة والتوفيق بين هذه العائلات. وهذا جزء من مهمتها الرسمية.
لذلك فهي تتحدَّث مع زعماء العشائر وتلتقي بأفراد الأسر. وتتحدَّث مع الآباء والأزواج لتحاول إقناعهم بأنَّ زوجاتهم وبناتهم لم يقترفن عملًا فظيعًا، بأنَّهن يُردْن فقط الزواج من رجل أحببنه، وأنَّه ليس خطأهن إذا اغتصبهن شخصٌ ما. تحاول أن توضِّح شيئًا بديهيًا للعائلات: القتل لا يجوز.
بين الأسرة والاستقلال
تعتبر محاولة المصالحة والتوفيق بين الأسر عملًا بالغ الصعوبة. إذ كيف يمكن للنساء أن يعشن مع الأهل بعد تعرّضهن للتهديد بالقتل؟ تدرك رغدة العزة أنَّ هذا العمل مقيّد بحدود وتعلم أنَّها هي المسؤولة إذا حدث أي شيء خاطئ. تتوقّف للحظة. ثم تقول مفكِّرة: "نعم، هذا يُخيفني أيضًا في بعض الأحيان". وتعترف بأنَّ محاولة تحقيق التوازن بين متطلبات المجتمع وراحة الأفراد تمزِّقها في بعض الأحيان.
كذلك المنظمات المعنية غير الحكومية - مثل جمعية معهد تضامن النساء و"ميزان - مجموعة القانون من أجل حقوق الإنسان" - تراهن كثيرًا على محاولة المصالحة والتوفيق بين العائلات. وأحيانًا تذهب هذه المنظمات إلى أبعد مما تريده النساء المعنيات. ولهذا السبب فإنَّ ناشطة حقوق المرأة والصحفية الأردنية رنا الحسيني تنتقد هذه الجهود، وتقول إنَّ المنظمات تحاول فقط تجنُّب اتِّهامها بتدمير الأسر. عادةً ما يتم توجيه هذا الاتِّهام إلى نشطاء حقوق المرأة في الأردن. وتضيف أنَّ الخطر يكمن في احتمال عودة النساء إلى وضع قد يتعرَّضن فيه من جديد للخطر.
"الزمن يداوي كلَّ الجروح"
رغدة العزة تعرف حجم هذه المخاطر. فقد رأت كلَّ شيء، من مصالحات مليئة بالدموع ورفض عنيد ورؤًى متأخِّرة. كما أنَّها في بعض الحالات تنجح حقًا في إقناع العائلات بأنَّه من غير المعقول اعتبار النساء مسؤولات عن شرف العائلة. وهذه المناقشات والحوارات مع العائلات تتطلب الكثير من الصبر ومهارة كبيرة.
في بعض الأحيان "الزمن يداوي كلَّ الجروح". وحول ذلك تقول إنَّها ذات مرة تحدَّثت فترة طويلة مع والد امرأة، كان يهدِّد ابنته بقوله: "سأقتلك، لقد جلبت علينا العار". وتضيف أنَّ "هذا الرجل كان كبيرًا في السنِّ، ثم مرض مرضًا خطيرًا. وكان يريد التصالح مع ابنته قبل موته"، وهذه المرأة عادت فعلًا لأسرتها.
ولكن في حالات أخرى يستحيل فعل ذلك ببساطة. وهكذا تضطر المتضرِّرات إلى التكيُّف مع العيش بمفردهن. صحيح أنَّ هذا ممكن أحيانًا، ولكنه ليس سهلًا. تستطيع النساء اليوم في عمَّان أن يعشن بمفردهن أو مع نساء أخريات، ولكن قد يعني ذلك في المناطق الريفية الموت الاجتماعي بالنسبة للنساء الشابات.
يمكن للنساء الأكبر سنًا العيش بمفردهن إذا كن لا يُعِرْن أي اهتمام لكلام الناس. غير أنَّ اعتماد النساء على أنفسهن فقط يمثِّل لهن - ولسبب آخر - تحدِّيًا كبيرًا: "فقد اعتدن حتى ذلك الحين على اتِّخاذ أسرهن جميع القرارات المهمة بالنسبة لهن. والكثيرات منهن لا يعرفن حتى ماذا يردن من الحياة. نحن نساعدهن على معرفة ذلك".
حيانًا، تشعر رغدة العزة باليأس من حجم مهمتها. فتغلق باب مكتبها وتأخذ قسطًا من الراحة. ولكنها مع ذلك مقتنعة بأنَّ المجتمع الأردني يتغيَّر. وذات يوم سيتم تجاوز فكرة "تلويث شرف العائلة"، مثلما تعتقد أيضًا ناشطة حقوق المرأة أسماء خضر. وكمثال على ذلك تذكر لنا عمل "دائرة حماية الأسرة" في الشرطة.
عندما بدأت دائرة حماية الأسرة عملها في عام 1979، كان غضب الناس كبيرًا: كان الكثيرون في ذلك الوقت يقولون إنَّها تشكِّل خطرًا على وحدة الأسرة. أمَّا اليوم فقد باتت العديد من العائلات تنصح في حال حدوث مشاكل بطلب المساعدة هناك. تقول أسماء خضر: "مواقف الناس تتغيَّر، ولكن هذه مسألة وقت فقط".
كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020