موسيقى عابرة للإثنيات واللغات وداعية للسلام من اسطنبول

تعزف فرقة "لايت إن بابيلون" نغمات موسيقية وتؤدي أغانيَ ذات مذاق عالمي من مدينة اسطنبول ذات التنوع الثقافي الملحوظ. ورغم أن بداية الفرقة كانت من أحد أشهر شوارع اسطنبول، إلا أنها نجحت في حجز مكانها في صالات أشهر المهرجانات الدولية. جيداء نورتش التقت بمغنية الفريق ميشيل وتحدثت معها، لموقع قنطرة، عن هذه التجربة الفنية.

الكاتبة ، الكاتب: جيداء نورتش

بدأ الأمر كله قبل خمسة أعوام في أحد أكثر شوارع التسوق حيوية في اسطنبول، وتحديدا على أحجار الطريق الذي يمر عليه يوميا نحو مليوني شخص يجتازون واجهات المحلات، التي يعبر أمامها أكثر من مرة في الساعة الترام الأحمر التاريخي الذي تحول إلى رمز لمنطقة بيوغلو.

وفي شارع الاستقلال يحاول عازفو عود سوريون إثبات قدراتهم بجانب عازفين أكردا يقفون هنا من سنوات إلى جوار عازفي الآلات المعدنية من أصحاب جدائل الشعر الكثيفة وأغنيات البوب الأمريكي وعازفي الغيتار والديدغريدو (آلة نفخ أسترالية) والسنطور الذي يجمع بين موسيقى الاسترخاء والهيبيز.

تتذكر ميشيل، قائدة فريق "لايت إن بابيلون"، كيف اكتشفت "الإمكانيات الموسيقية الكامنة والهائلة في اسطنبول كمدينة متعددة الثقافات" عندما التقت في الماضي مع جوليان لتبدأ رحلة البحث عن موسيقيين آخرين. وأثناء البحث التقت ميشيل وجوليان مع ميتيهان، الذي يعزف في شارع الاستقلال آلة السنطور ذات الأوتار المشدودة على قطعة خشبية والتي يتم العزف عليها باستخدام مضارب خشبية.

التقى الفنانون الثلاثة وتفاهموا بشكل جيد على المستوى الفني في المقام الأول خاصة وأن الثلاثة لا تجمعهم لغة واحدة، فالمغنية ميشيل إليا كمال، إسرائيلية منحدرة من أصول إيرانية أما عازف الجيتار جوليان ديمارك فهو فرنسي بالإضافة إلى التركي ميتيهان تشيفتشي. اجتماع هؤلاء الثلاثة ولد فكرة "لايت إن بابيلون".

Light in Babylon während eines Straßenkonzerts in Istanbul; Quelle: 1. Gezi Soul Festival 2014
بدأت فكرة وجود عازفين يقدمون فنهم في شارع للتسوق بالانتشار بشكل كبير في تركيا خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي يعكس الشجاعة وحب السلام. وجاء رد فعل المارة في الشارع على هذه الظاهرة إيجابيا في معظم الأحيان، كما تقول ميشيل.

شجن ونغم شرقي

صار الفريق يتولى كتابة وتلحين أعماله الخاصة كما أنه لم يعد يعزف في الشوارع بل على خشبات مسارح المهرجانات الدولية في مختلف أنحاء أوروبا ويتعاون مع فنانين دوليين آخرين. تقدم المغنية ذات الصوت الناعم والشعر الأسود الطويل، أغاني الفريق التي تتميز غالبا بالشجن وتتناول موضوعات مثل الحب والشوق والوطن والبحث عن المفقود. وتتميز موسيقى الأغاني بالإيقاع المطعم بطابع شرقي بفضل آلة السنطور الذي يكتسب جاذبية أكبر بفضل الصوت الآخاذ للمطربة.

 يعكس الاسم الذي اختاره الفريق لنفسه، طريقة تفكير وخبرات تم جمعها في الشارع وهو أمر توضحه ميشيل بقولها: "الشارع كان أول مسرح لنا..يسير الناس في اتجاه منازلهم أو على طريق الذهاب للعمل أو بعد العودة منه، لا أحد ينظر للآخر ولا أحد يضحك، لكن بمجرد أن تبدأ الموسيقى، يقف الناس ويسمعون ويضحكون ويبكون ويرقصون ويتحدثون مع بعضهم". كلمة "بابيلون" هنا هي عبارة عن وصف لنظام يجبرك على النظر في اتجاه معين، كما تقول ميشيل مضيفة أن التاريخ تغير بعد "برج بابل" نتيجة فصل الثقافات عن بعضها وإرغام الناس على الحديث بلغات مختلفة.

ويعكس الفريق هذا التنوع في الثقافات واللغات كما توضح ميشيل: "ينحدر أعضاء فريقنا من مناطق مختلفة ويتحدثون لغات متنوعة لكن ما يجمعنا هو ثقافة ولغة واحدة وهي ثقافة ولغة الموسيقى".

وعلى الرغم من أن انطلاقة الفريق كانت من شارع الاستقلال في اسطنبول، إلا أن أعضاء الفريق يرفضون لقب "فريق شوارع" كما تقول ميشيل: "نعم، عزفنا في شارع الاستقلال ومازلنا نعزف، لكننا لا ننتمي للشارع. نحن موسيقيون يرغبون في مشاركة موسيقاهم مع الناس في مكان مفتوح لكن هذا لا يعني أن الشارع هو تعريف لفريقنا أو لموسيقانا". اختلاف أوطان أعضاء الفريق وتجاربهم وذكرياتهم والأماكن التي عزفوا فيها هي التي تؤثر على موسيقاهم.

تعطش للموسيقى

فكرة انتشار عازفين يقدمون فنهم في شارع للتسوق، ظاهرة بدأت في الانتشار بشكل كبير في تركيا خلال السنوات الأخيرة. وجاء رد فعل المارة في الشارع على هذه الظاهرة إيجابيا في معظم الأحيان، كما تقول ميشيل التي يتحول جسدها كله إلى آلة موسيقية عندما تغني وتشارك أيضا بالعزف على الطبلة في بعض الأحيان.

وتظهر هذه التجربة بوضوح تعطش الناس للموسيقى والفن لاسيما الموسيقى في الأماكن المفتوحة وهو الأمر الذي تراه ميشيل كما يلي: "رصدنا وجود ثقافة عامة قوية في تركيا فالناس تحب التواجد في الشوارع بحرية، إذ يخرج الناس سويةً ويتناولون الطعام ويستمعون إلى الموسيقى ويرقصون".

وهنا تذوب الطاقة التي تشعها المدينة الضخمة يوميا في النغمات والألحان بشكل يجعل ضوضاء الشارع وصخب المارة يبدو وكأنه جزء من الموسيقى ويسرّع أيضا من نبضها. تضع اسطنبول بصمتها على شخصية موسيقى "لايت إن بابيلون" وأيضا على أداء الموسيقيين، كما تقول ميشيل.

وترصد مطربة الفريق خليطا من البشر والأشكال الموسيقية الموجودة في اسطنبول والتي يصعب وجود مثلها في مكان آخر في العالم، لكن الأمر لا يخلو من معاناة كما تقول ميشيل: "العيش في مدينة كبيرة كهذه، له ثمن يظهر في المشكلات البيئية المتزايدة على سبيل المثال. المدينة مثل الماكينة الضخمة التي تسحبك دون أن تلاحظ وتؤثر على عقلك والأهم من ذلك، على روحك".

موسيقى من أجل السلام

تعلمت المطربة من العيش في اسطنبول، أهمية وجود شجرة بجانب بيتها لضمان درجة مقبولة من جودة المعيشة، إذ تقول: "كل هذا يؤثر على موسيقانا بداية من الناس والمدينة وحتى الطبيعة".

"Light in Babylon" während eines Konzerts im Gezi-Park in Istanbul; Quelle: 1. Gezi Soul Festival 2014
تتصدى الفرقة الموسيقية "لايت إن بابيلون" لقضايا راهنة مثل تدمير البيئة والوصاية السياسية، ولعبت دورا في احتجاجات حديقة غيزي في صيف عام 2013.

وتدور أغاني ميشيل المكتوبة بنصوص عبرية، حول موضوعات مثل عبور البحور والحلم بالوصول إلى قارات مختلفة، وتتطرق إلى الحب الموجود خلف أفق البحر كما الحال مع أغنية "الريح" أو إلى فكرة الهروب ونداء البحر كما في أغنية "الطريق إلى البحر". وبين الحين والآخر تظهر شوارع اسطنبول المزدحمة وشعبها والنظرات الخائفة للمارة، في الأغنيات كما في أغنية "اسطنبول".

لا يعيش أعضاء الفريق الموسيقي بمنأى عن الوضع السياسي الراهن في تركيا والشرق الأوسط. ويضع الفريق في صفحته على موقع "تويتر" رسالة مفادها: "السلام في الشرق الأوسط" التي تلخص مبدأ الفريق الذي يرى أن إنتاج الموسيقى يعني تحقيق أفضل استفادة من الهدية المسماه الحياة، كما تقول ميشيل، التي توضح أن جمهورها ينحدر من كل أنحاء العالم سواء من باكستان أو إيران أو إسرائيل أو فلسطين أو الولايات المتحدة أو الهند أو دول أوروبا.

وتلخص ميشيل انطباعات جمهورها قائلة: "عندما يسمع الناس موسيقانا فهم لا يفكرون في حكومة معينة ولا في هذا السياسي أو ذاك لكن للأمر بُعد أعمق فنحن نعيش في الشرق الأوسط ونشعر بالتعاطف مع المعاناة الكبيرة التي يعاني منها الكثير من الناس في هذا المكان الرائع. نبعث برسائل وصلوات من أجل السلام من خلال موسيقانا".

 

جيداء نورتش

ترجمة: ابتسام فوزي

حقوق النشر: قنطرة 2015