التحرر من الهوية الجمعية
تطور التفكيك في المجتمعات الغربية الليبرالية ليصبح عقيدةً تقريبًا في الأوساط الفنية. تفكيك الهويات والرؤى وإعادة تركيبها تراجع ليغدو نوعًا من "ثورة مُمَأسَسَة" في ميكانيكية مصانع الفن. وعلى العكس من ذلك، فإن هذا الفهم للفن قليل الانتشار في المجتمع الفلسطيني وكذلك الحال في المجتمع الإسرائيلي أيضًا. هنا يلعب توكيد الهوية وتعزيز اعتبارها دورًا أكبر بكثير.
الكاتب الذي يضع شخصية هامشية في المركز يكتب ضد إجماع مجتمع الأكثرية، وهذا بالضبط ما يفعله إدغار كيريت وسمير اليوسف، فهما يمتنعان عن إخضاع شخصياتهما القصصية للهوية الجمعية، ويخلقان البطل المضاد anti-hero في محيط يغذي هويته من عظمة أبطاله المزعومة ومن شهدائه.
ضد طغيان الرأي العام
هبت رياحٌ جليدية بوجه إدغار كيريت عندما قام بنشر قصة "موت رابين" في عام 1997. وعلى خلاف ما يوحي العنوان فليس رابين القصة هو رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين الذي قتل على يد مستوطن يهودي متطرف، بل يتعلق الأمر هنا بقطة أليفة أسمها رابين صدمتها دراجة نارية وأودت بحياتها.
كيريت كما سمير اليوسف يأسف كذلك لـ "طغيان الرأي العام والسياسة". فهو يرفض كما يكتب في حديث له عبر البريد الإلكتروني أن يتم فحص ومراجعة كل تعبير خاص عن المشاعر فيما إذا كان يتوافق مع "السياق القومي".
ويقول كيريت في هذا الصدد: "سمير وأنا "غير مسيّسين" بهذا المعني عندما نثور على النظرة الاختزالية التي تُبسِط فيها السياسةُ الواقع وتسطحه".
ويضيف: "بيد أنّ الواقع في الشرق الأوسط أكثر تركيبًا وحمال لعدة أوجه. الواقع بحد ذاته مركب. بيد أنّ هذه الحقيقة ليس لها أي مكانة تُذكر في النقاش السياسي في إسرائيل، فالأمر يتعلق في الأغلب فقط بتحديد من على حق ومن على خطأ".
إعتبار المواقف الليبرالية في إسرائيل مؤشرا على الوهن هو حافز قوي للنَفَس القومي الذي يمارس ضغطًا كبيرًا على النقاش العام.
صحيح أنّ ثمة نقاشات نقدية تُخاض، وصحيح أنّ التعارض بالرأي مسموح، لكنْ عندما جاء أدغار كيريت وسمير اليوسف إلى القدس، بعد جولة قدما فيها مجموعة من الأمسيات الأدبية في إنكلترا والقارة الأوروبية، ليقرءا من كتابهم المشترك "غزة بلوز - قصص مغايرة"، جاء استقبال الجمهور لهما مخيبًا كما يشرح سمير اليوسف في أحدى رسائله الإلكترونية.
ويقول: "لم نتوقع أبدًا أن نُستقبَل بالأحضان هنا، إذ أنّ الأمر واضح: موقفنا على النقيضٍ من مجتمع الأكثرية".
عقلية التقوقع عند الفلسطينيين
يرى سمير اليوسف في إستراتيجية التقوقع المتزمتة عند الجانب الفلسطينيين أن خطر اختزال الهوية الذاتية على دور الضحية أحادي الجانب.
وشرح في عددٍ كبيرٍ من المقالات أنّ الاحتلال ليس وحده، بل أنّ الموقف الرافض القاطع يساعد على نشر عقلية التقوقع عند الفلسطينيين، وأنّه في ظل هذه المعطيات لن تتطور ثقافة فلسطينية خاصة أبدًا. يناضل سمير اليوسف في مشاركته في "غزة بلوز" بقصة "اليوم الذي عطش فيه الوحش" من أجل أخذ الحق بهذا التفسير.
يشكل سمير اليوسف الشخصية الأولى لقصته من مثقفٍ فاسد الأخلاق لا يهتم بالمقاومة قيد أنملة. مثقفٌ يقضي معظم أوقاته في البحث عن المخدرات وأدوية التخدير، ويسعى بين الفينة والأخرى للحصول على تأشيرة للسفر إلى ألمانيا لكي يعمل هناك قوادًا إذا توفرت له الإمكانات، ويتعقب في النهاية امرأة يصفها هو بأنها تشبه "القرد".
بينما يشرح له صديقه المثابر أحمد الذي يعمل على مسرحية تتناول المقاومة أنّ "الانتفاضة بحد ذاتها عملٌ فني"، فيجيب بطل القصة الذي لا اسم له بان على أحمد أنْ "يُدخل هذه القضية العادلة في إسته".
بالرغم من هذه الألفاظ المباشرة الفظّة إلا أنها لا تشكل الصفة الأساس لقصة سمير اليوسف القصيرة المديدة، وهي ليست بذيئة إلا بمقدار وجيز. بتفكُّهٍ مدروسٍ ولغةٍ رذيلةٍ تتعارض مع شهامة مقاومة مزعومة يكشف اليوسف كيف أنّ الاحتلال يشكل مجازًا لهموم الحياة اليومية.
ويقول بطل القصة: "في كل مرةٍ كان أحمد يأتيني فيها قائلاً أنّ 'قضيتنا تمر بإحدى مراحلها الأشد صعوبةً' كنت أعلم أنه قد تشاجر مع أمه، ولا بد أنّ البقرة العجوز قد شتمته قائلةً له من جديد أنه لا يصلح لشيء".
هل بمقدور الأموات أنْ يموتوا؟
يتصرف سمير اليوسف بسرعة ونباهة، وبوقاحة جسور، وبشكل جدالي، حيث يدفع بطله للحوار ليطعن بحوار المثقفين العرب: "أسأل نفسي: هل بمقدور الأموات أنْ يموتوا؟ يمكن لسؤالٍ كهذا أنْ يكون موضوعًا حواريًا بين المثقفين العرب. وقد يتناول صحفيٌ ما يعمل في صحيفة خرقاء الموضوع: هل بمقدور الأموات أنْ يموتوا؟".
من يُهدِّف بهذا التحديد على مكامن الضعف يُعتبر ممن يُلحقون ضررًا ذاتيًا.
أتت المبادرة لهذا المشروع من سمير اليوسف المقيم منذ العام 1990 في بريطانيا، فبعد اندلاع الانتفاضة الثانية قام باتصالٍ هاتفي مع صديقه في تل أبيب ليكسبه في مشروعٍ مشترك يضع علامةً رمزيةً قوية لها أثر مستديم يستمر أكثر من النداءات السريعة التي لا تعد ولا تحصى والمطالِبة بالتصالح. يقول سمير اليوسف: "مشروعنا عبارة عن محاولة لكاتبين يسعيان لتحفيز أولئك الذين لم يفقدوا الأمل بالسلام".
بقلم لويس غروب
ترجمة يوسف حجازي
إدغار كيريت، سمير اليوسف: "غزة بلوز – قصص مغايرة" صادر عن زاملونغ لوخترهند، العنوان الأصلي: "Gaza Blues. Different Stories" صدر عن ديفيد باول بوكس، لندن. ترجمته للألمانية باربارا لينير وفيرا كيلشلينغ عن الإنكليزية. يقع الكتاب في 144 صفحة ويباع بسعر 8 يورو.
إدغار كيريت، من مواليد تل أبيب عام 1967، ينشر منذ عام 1991 قصصًا قصيرة وقصص كرتون، تُرجمت أنطولوجياته إلى ست عشر لغة، يكتب للتلفزيون ويُدرِّس في أكاديمية السينما في تل أبيب، أنتج ما يزيد عن اربعين فيلمًا قصيرًا، حاز إدغار كيريت على جائزة رئيس الوزراء الإسرائيلي للأدب، كما حصل على جوائز عدة عن أفلامه.
سمير اليوسف، من مواليد لبنان عام 1965، ترعرع في مخيم الرشيدية، له مجموعتان قصصيتان باللغة العربية، يكتب بشكل دوري في اللصحف العربية والإنكليزية وفي المجلات الأدبية العالمية، يقيم سمير اليوسف في لندن منذ العام 1990 حيث درس الفلسفة، حاز على جائزة توخولسكي التي تمنحها جمعية الكُتّاب العالميين PEN فرع السويد.