آخر الحكواتيين في المغرب...تعريف بسحر التقاليد المغربية
منذ سن العاشرة وعبد الرحيم الـمَكُّوري يتردد على ساحة جامع الفنا، الساحة الشهيرة في قلب مراكش الساحر. إنه يحكي حكايات للمتحلقين من حوله من الناس. إنها حكايات يحكيها حكواتيو مراكش منذ أجيال، تتضمن بداخلها، ونتعرف عبرها، على تقاليد المغرب وسحره.
ومن أجل تكريم هذا التقليد الثقافي والدعوة إلى ضرورة المحافظة عليه، أعلنت منظمة اليونيسكو في مايو 2001، أن الأعمال الفنية التي يحفل بها جامع الفنا "عملا رائعا من الأعمال المشكلة للتراث الشفهي، اللامادي، للإنسانية". ولكن، وكما الحال عليه في بلدان كثيرة، فإن الفن غير الممأسس في المغرب، يتهدده الضياع.
"إن الفنانين الشباب لا يقبلون ببضعة دراهم، كما جرت العادة"، يقول عبد الرحيم المكوري. "لقد تغيرت الحياة في المغرب بسرعة كما حدث في أماكن أخرى، والشروط الحياتية اليوم تختلف عن سابقاتها. وإذا لم تبدأ الدولة بتقديم دعم جدي لفن الحكواتي، فإننا لن نجد في المستقبل القريب حكواتياً في جامع الفنا".
"إن الأمر لا يتعلق بتقديم حكايات ترضي السياح. فأغلبهم لا يفهمون العربية". فحكواتيو جامع الفنا يتحدثون غالبا في إيقاع سريع، لكن دائما في اللهجة المغربية إلى جمهورهم المغربي، المستعد مساء بعد مساء للحضور إلى الساحة من أجل الاستمتاع بسماع بقية حكاية اليوم السابق.
في دائرة الحلقة
سافر في عام 2000 المخرج السينمائي توماس لادنبورغر إلى المغرب. فعبر مشاريع سابقة، تحمس للتعدد والغِنَى الذي يطبع الأدب العربي وازداد إعجابه بالحكواتيين. وطيلة سنة ونصف رافق حكواتيين من بينهم عبد الرحيم المكوري، أحد آخر حكواتيي المغرب، ليأخذ بيد الجمهور إلى العالم الحقيقي للأب والابن، الذي يمثل فيه فن الحكي صلة الوصل والسردية السرية، أو الميراث الذي سيخلفه الأب لابنه.
تحتاج عملية تصوير المشاهد إلى وقت. وبسرعة لاحظ توماس لادنبورغر أنه يحتاج إلى صبر وإلى ثقة الحلاقية أو الحكواتيين، من أجل أن يتمكن من عرض عالم الحلقة في ساحة جامع الفنا لجمهور أكبر.
"أردت اغتنام الفرصة المواتية"، يقول لادنبورغر. كان معي تقني صوت من الدار البيضاء، شخص رائع، لم يقم فقط بتسجيل الأصوات بل بالترجمة أيضا. لقد كنا فريقا صغيرا يتكون من ثلاثة أشخاص فقط. ولاحقا لم أصور فقط الحكواتيين، بل التعدد الذي يمثله كل الفنانين في الساحة، من أجل تسليط الضوء على الحياة والحماسة التي تكمن خلف عروضهم".
يمثل جامع الفنا بالنسبة لتوماس لادنبورغر "عصارة الثقافة المغربية". "إذا ما قفزت في حلقة ما، فإنك ستخرج من نقطة أخرى في البلد. لأن كل حلقة تحكي عن قديس، يوجد ضريحه في مكان آخر من المغرب، وهكذا فإن هناك علاقات قوية بين مختلف مناطق المغرب ومختلف الحلقات في جامع الفنا. لقد وجدت الأمر مثيرا للاهتمام، وعبر ذلك تمكنا من إنجاز بورتريهات كثيرة".
تتحدث إحدى تلك البورتريهات المثيرة عن قصة "حلايقي" كان يربح قوت يومه عبر الرقص على أنغام كمان، وهو يرتدي ملابس نساء.
الحلقة الافتراضية
وعلاوة على الفيلم الوثائقي المثير "الحلقة ـ آخر حكواتيي المغرب"، ومعرضا ناجحا في الخريف الماضي 2015 بالمتحف الإثنولوجي في داليم ببرلين، أنجز توماس لادنبورغر متحفا افتراضيا، يمثل محاولة "لخلق ذاكرة جمعية، أو بالأحرى، للحفاظ عليها. وعبر هذا المتحف، تتم دعوة آخرين لتقديم حكاياتهم واقتسامها مع الآخرين في العالم الافتراضي".
لقد نجح المخرج، واعتمادا على صور رائعة وريبرتوار غني من المواد المسموعة والمصورة حول تاريخ الساحة، في تقديم الفن المغربي الذي تختزنه ساحة جامع الفنا إلى جمهور واسع، وكل ذلك عبر شبكة الإنترنت.
"اُنظروا إلى هنا: إنه الفن المغربي"
يهدف العمل الذي يقدمه لادنبورغر إلى تقديم صورة عن فن تلك الساحة ورجالاته. "ما يتوجب أولا فهمه، هو أن فن الحكواتي تراث ثقافي مهم"، كما يعبر المخرج عن ذلك.
"خلال مرحلة تصويري للفيلم، كانت أغلبية المغاربة لا تعترف بالحكواتيين كفنانين حقيقيين. أو على الأقل لا تنظر إليهم كجزء من النخبة الفنية للبلد. لقد ركزت في مشروعي، وهذا كان قصدي، على عرض أعمال "الحلايقية" خاصة، والحكواتيين عامة في سياق معين، وعبر ذلك تأكيد قيمتهم الثقافية.
إن فن الحكواتي ليس مجرد حكي للقصص. إنه فن يتطلب تمرينا وطولَ نَفَسٍ وحماساً. " إن أولى الحكايات سمعتها من جدتي"، يتذكر الحكواتي عبد الرحيم المكوري ويتابع:
"ولما كنتُ بعدُ أتردد على المدرسة، كنت أمر عبر ساحة جامع الفنا. وهناك التقيت بحكواتيين، كانوا يقصون حكايات لم أسمعها من قبل من جدتي، حكايات أطول من تلك التي سمعتها منها. كانت تلك حكايات حول الحب والمغامرة والسحر. لقد جذبني ذلك إلى درجة صممت فيها أن أحفظ تلك الحكايات التي أسمعها في الساحة عن ظهر قلب. وكشاب، كانت الحكايات تسري في عروقي مسرى الدماء. ولم يلعب المال أي دور بالنسبة لي. وكانت أولوية الأولويات بالنسبة لي، أن أصنع لي اسما في ساحة جامع الفنا وأن أدافع عن هذه الساحة ضد قدماء الحلايقية.
وأتذكر هنا، كيف سافرت إلى فاس البعيدة، لأحفظ قصص حلايقي عن ظهر قلب، كنت قد سمعت أنها تتمتع بجاذبية لا تقاوم. إن هذا الحدث السعيد من ضمن لي مكانا في جامع الفنا ومعه اعتراف بقية الحكواتيين".
ميلاني كريستينا مور
ترجمة: وفاء حامد
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016