هل مصر على طريق طالبان؟

هل أضحت مصر تسير على طريق طالبان؟ وهل يستيقظ المصريون يوماً على تماثيل محطمة في معابد الكرنك والأقصر وأبي سمبل؟ قد تبدو هذه الأسئلة في غير محلها، أو يبدو أنها تثير مخاوف مبالغاً بها، غير أن المتتبع لما يحدث في مصر الآن ولما يسود المناخ الفكري من تزمت، لابد وأن يشعر بغُصة في حلقة، كما يرى سمير جريس.

احتفل الوسط الثقافي في مصر مؤخراً بمرور مئة عام على إنشاء كلية الفنون الجميلة في مصر. بهذه المناسبة أُقيم معرض خاص في دار الأوبرا بالقاهرة ضم ما يربو على الأربعمائة عمل فني أنجزها ما يزيد عن مئتي فنان تشكيلي مصري من أجيال مختلفة. عندما أنشأ الأمير يوسف كمال هذه الكلية من ماله الخاص في 12 مايو (أيار) 1908 كانت تلك محاولة من الأمير لبث روح النهضة في الفنون التشكيلية التي كانت ركناً أساسياً في
حضارة المصريين القدماء، مثل فن النحت والحفر والرسم.

وبالفعل، خرَجَت من كلية الفنون الجميلة أجيال من الفنانين الذين أثْروا حركة الفن التشكيلي في مصر والعالم العربي، كان كم أبرزهم وأشهرهم محمود مختار مبدع تمثال "نهضة مصر" الذي يقف اليوم في مواجهة جامعة القاهرة، وصاحب منحوتة "رياح الخماسين" الرائعة وغيرها من التماثيل التي أبدعها في النصف الأول من القرن العشرين محيياً فناً كان قدماء المصريين قد برعوا فيه، وتركوا أثاراً جرانيتة في الجيزة والأقصر وأسوان وأبي سمبل لم تستطع يد الزمن أن تنال منها عبر القرون.

أزمة عميقة تعيشها الفنون في مصر

غير أن احتفالات مصر بمئوية "الفنون الجميلة" لا تخفي الأزمة العميقة التي تعيشها الفنون في مصر وسط مناخ أصبح معادياً للإبداع عموماً، وللنحت خصوصاً. إذا تحدثنا عن الإبداع عموماً فإننا نتذكر جميعاً الأزمات التي تعيشها مصر والضجة التي تُثار بين الحين والآخر، بسبب كتاب فكري أو قصيدة أو رواية (على سبيل المثال: نصر حامد أبو زيد أو سيد القمني أو حلمي سالم أو أزمة الروايات الثلاث)، وما يعقبها من قضايا ضد المبدعين وصلت إلى التفريق القسري بين نصر حامد أبو زيد وزوجته.

أما إذا نظرنا إلى مجال الفنون التشكيلية، فسنجد أن عدد المتقدمين إلى كلية الفنون الجميلة في القاهرة قد آخذ يتقلص في السنوات الأخيرة، لدرجة أن قسم النحت لم يجد من يتقدم إليه هذه السنة سوى ... طالب واحد – فأسدى إليه القائمون على الكلية نصيحة مخلصة بالتحويل إلى قسم آخر حتى يستريحوا ويغلقوا باب هذا القسم الذي تأتيهم منه رياح قوية في السنوات الأخيرة.

فتوى بتحريم فن النحت

السبب المباشر لهبوب العواصف والأعاصير على كلية الفنون الجميلة هي الفتوى التي أصدرها أن مفتي الديار المصرية قبل عامين، إذ قضى الشيخ علي جمعه بتحريم فن النحت لأنه يتعارض مع الإسلام، وها هي نتائج الفتوى تظهر ملموسة ومجسمة كالتماثيل التي حرمتها. الغريب إن إنشاء كلية الفنون الجميلة جاء بناء على فتوى أخرى، ربما نساها أو تناساها الشيخ علي جمعة. قبل مئة عام أفتى الشيخ الكبير محمد عبده قائلاً إن التماثيل حرام إذا كان الناس يعبدونها، أي أن التحريم يخص العبادة وليس التماثيل في حد ذاتها. ولا أعتقد أن هناك خطراً اليوم على المصريين من الوقوع في الشرك أو في عبادة التماثيل حتى يعود مفتى الديار المصرية إلى تحريمها.

ولكن، لندع الفتاوى جانباً، رغم أنها على ما يبدو باتت تسيّر كل صغيرة وكبيرة في حياة عدد كبير من الناس في العالم الإسلامي، ولنتساءل بجد: هل أضحت مصر تسير على طريق طالبان؟ وهل يستيقظ المصريون يوماً على تماثيل محطمة في معابد صعيد مصر؟ هل ستشهد المعابد الفرعونية في الكرنك والأقصر وأبي سمبل ودندرة وأبيدوس هجوماً من جماعات غيورة على دينيها تريد تنفيذ فتوى الشيخ الجليل وتمنع الناس عن الردة إلى عصر الكفر والشرك وعبادة الأصنام؟

هل علي المصريين إذن أن يهملوا تمثال أبي الهول، وألا يحاولوا حمايته من تأثير المياه الجوفية التي أكلت حجارته؟ ولماذا يثيرون المعارك لاستعادة رأس نفرتيتي وغيرها من الأعمال الفنية من متاحف برلين ولندن وباريس؟ أليست كلها شواهد كفر وإلحاد؟

تكرار لماذا بقيت الفنون في أبراجها العاجية؟

عجيب أمر المصري "الحديث" – إنه من ناحية يتفاخر بين أمم العالم "المتحضر" بما أبدعته الحضارة المصرية القديمة من منحوتات وتماثيل ورموز معمارية يحب دوماً أن يطلق عليها وصف "خالدة"، كما أنه يزهو بما تضمه متاحف العالم من روائع فن النحت، وعندما يقف أمام مسلة مصرية في باريس أو لندن أو نيويورك تنتفخ أوداجه كبرياءً واعتزازاً بالإعجاز الفني لأصحاب "حضارة الخمسة آلاف عام"، كما كان الرئيس السابق أنور السادات يكرر بمناسبة ومن غير مناسبة.

ولكنه ينظر نظرة شك وريبة إلى تماثيل القدماء التي ما زال البسطاء يُطلقون عليها كلمة "المساخيط" أو "الأصنام". نعم، الاقتصاد المصري يقوم على السياحة و"الحج" إلى معابد الفراعين، والمصري "الحديث" شرع يهتم في العقود الأخيرة بهذه الأعمال، ليس لاهتمامه بالفنون وعشقه لتلك الآثار، بل لأنها مصدر عملة صعبة له.
المصري "الحديث" – الساعي ليل نهار وراء لقمة العيش – لا تعنيه كثيراً هذه الأعمال الفنية، وهو لا يتذوقها، ولن يفتقدها إذا تحطمت. هذه الآثار مصدر فخر له فقط لأن السياح يأتون من أقاصي الدنيا لرؤيتها. غير أنها تظل في وعي الأغلبية الساحقة من المصريين – سواء في عام 1908 عند تأسيس الكلية أو بعدها بمئة عام - "أصناماً" و"مساخيط"
تستحق المنع والتحريم.

إن مئوية كلية الفنون الجميلة ينبغي أن تطرح سؤالاً مهماً على المثقفين في مصر والعالم العربي: لماذا بقيت الفنون بعيدة
عن اهتمامات الأغلبية؟ لماذا بقيت الفنون في أبراجها العاجية ولم تنزل إلى البسطاء؟ لماذا يتراجع الاهتمام العام بالفنون؟ لماذا تبقي آثار الحضارات القديمة وفنونها – سواء كانت آثاراً فينيقية أو آشورية أو فرعونية - شيئاً يثير اهتمام الأجانب أكثر من العرب؟ وأخيراً: هل من الممكن أن نتخيل اليوم أن يقوم رجل أعمال عربي بتأسيس كلية للفنون؟

سمير جريس
قنطرة 2008

سمير جريس درس الألمانية وآدابها في جامعة عين شمس بالقاهرة ودرس الترجمة في جامعة ماينتس بألمانيا. ويعمل صحفياً ومترجماً. نقل إلى العربية عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية الألمانية، منها "رجل عاشق" لمارتين فالزر و"عازفة البيانو" لإلفريده يلينك و"الكونتراباص" لباتريك زوسكيند.