الإنسانية أو الفناء - وما كورونا سوى "بروفة"!
عندما ظهر فيروس كورونا في الصين، نُظر إليه، خارج الصين، بحسبانه فيروساً صينياً داخل السور العظيم. ومع تصاعد تفشي الفيروس في العالم، قامت أمريكا ودول أوروبية باتهام الحكومة الصينية بعدم التعامل بشفافية من جهة الكشف عن البيانات ومشاركتها مع العلماء حول العالم.
ولا شك أن الصين، بغض النظر عن مصداقية الاتهام من عدمه، تُدار بنظام حكم توتاليتاري، بمنطق الأخ الأكبر في عصر الذكاء الاصطناعي، وهو نظام معادٍ بطبيعته لشفافية المعلومات والبيانات المفتوحة.
"لستُ فيروساً"
والحال أنه قد حدث ما حدث، ونجم عن سرعة انتشار "الفيروس الصيني" في بقاع العالم ذعرٌ جماعي ولّد عنصرية بغيضة تجاه الصينيين. وإلى الصينيين طاولت العنصرية عموم الآسيويين ذوي "اللون الصفر". فبات كل الصُفر صينيين، سواء كانوا مقيمين عابرين لفترات مؤقتة أو متجنسين منذ أجيال كما في أوروبا وأمريكا. وكأن جميع أعراق الألوان الأخرى اتحدوا في كراهية "الصُفْر". يرمونهم بنظرات النبذ والمقت ويتجنبون مخالطتهم أو الاقتراب منهم في الأماكن العامة أو الجلوس جنبهم في وسائل الموصلات.
وسجلت الأخبار والتقارير الإعلامية قصصا كثيرة عن تعرضهم للمضايقة والشتم والسب، وتعرض أطفالهم للتمييز والتنمر في المدرسة. وراجت في منصات التواصل الاجتماعي، وحتى في وسائل إعلام محترفة، معلومات مغلوطة أو مبالغ فيها حول المطبخ الصيني ووصف جميع الصينيين باشمئزاز على أنهم أكلة خفافيش وثعابين وكلاب وفئران، بينما أقلية منهم هم من يأكل هذه الأنواع من الحيوانات، لدرجة أن الفرنسيين المتحدرين من أصول صينية اضطروا إلى إطلاق وسم هاشتاغ: "أنا لست فيروسا".
ثم وبعدما أصاب الفيروس من أصاب من جميع أجناس البشر على مختلف أعراقهم وألوان جلودهم، وبات الجميع يخشى من الجميع، تلاشى وصم الصينيين به. فقد تثبت اسمه الطبي باسم (كوفيد-19) واسمه الإعلامي (كورونا)، إذ صار جائحة كونية وحش خفيّ يفتك بالأجساد ويبلبل النفوس والأذهان والأفكار والمعتقدات الماورائية.
"هرطقات"
ولم ينفع في شيء تعويل أتباع الخرافات على الدعاء والتعاويذ والتوصية بشرب بول البعير (هرطقة إسلامية) أو بول البقر (هرطقة هندوسية) على سبيل المثال فقط. وخضعت دور العبادة لجميع الأديان والمعتقدات لغلق أبوابها. فلا مصلّين في الحرم المكي، ولا عابدين طائفين حول الكعبة. لا مؤمنين في ساحة كنسية الرسول بطرس. وحده البابا بمعية بعض كرادلته يؤدون صلوات عيد الفصح. ولا باكيين على حائط المبكى.
أما اليهود الحريديم المتزمتون، الذين خالفوا التعليمات الصحية على أمل أن يأتي المسيح المنتظر قبيل عيد الفصح لينقذهم من عدوى كورونا، بحسب ما يعتقدون، فقد وصلت نسبة المصابين منهم إلى أكثر من 50% من نسبة المصابين في إسرائيل، قبل أن يرتعبوا فيلتزمون بتعليمات الدولة.
وفي شوارع الهند المحجورة تجوب أبقار الهندوس المقدسة تصاحبها القرود والكلاب السائبة. لقد صار العلم وحده المنقذ المرتجى. وباتت منظمة الصحية العالمية المرجع الأممي في تنمية الوعي الصحي والحفاظ على سلامة العالم وخدمة القطاعات الأكثر ضعفاً، بغض النظر عن اتهامات ترامب لها وقطع التمويل الأمريكي عنها، في وقتٍ يواجه العالم فيه الوحش الخفي الذي يُمزّق الروابط الاجتماعية، ويجبر الأفراد (نحو أربعة مليار ونصف) على عزل أنفسهم قسراً أو طوعاً.
عاصفة فيروسية
تنغلق الدول داخل حدودها عن الدول الأخرى، والمدن عن غيرها من مدن البلد الواحد. تُخلى الشوارع والساحات والملاعب والحدائق والمقاهي والملاهي والخمارات والبارات والمسارح ودور السينما والمعابد. وهو ماضٍ في هجماته غير المرئية بأجناده المتوالدة بأعداد لا تحصى كشهيق وزفير البشرية.
لقد شلّ رعب الوحش الخفيّ الاقتصاد الكوني فانهار منحنى مبادلاته التجارية والمالية مع ارتفاع منحنى جائحته صعودا بزيادة أعداد الإصابات والوفيات. تراجعت التجارة العالمية بنسبة الثلث. أكثر من ثلاثة مليار شخص اُغلقت أماكن عملهم، بشكل كامل أو جزئي، وفقد مئات الملايين من العمال حول العالم مصادر دخلهم، لا سيما عمال المياومة الذين يتقاضون أجورهم يوماً بيوم، وهم غير محميين بإعانات البطالة أو الضمان الصحي.
والمفارقة كما تبرز دراسة استطلاعية لمؤسسة إيبسوس الأمريكية أن من لديهم موارد أكثر، ويعتبرون الأقل عرضة للإصابة بالفيروس، هم من يشتكون من تضرر صحتهم العاطفية.
إنه قلق ناعم لا معنى له أمام الشعور بالخوف واليأس من المستقبل الذي يعصف بنفوس الطبقات الوسطى وما أدناها، الذين لا يعنيهم في شيء مشاهدة مشاهير الفن والرياضة حول العالم وهم يبثون فيديوهات عن كيف يقضون أوقات عزلتهم في منازلهم الفاخرة، ويسدون النصيحة الرائجة لمشاهديهم على انستغرام: خليك في البيت وأغسل يديك. بينما أكثر من مليار فقير يفتقرون إلى المياه النظيفة، والصابون أيضاً. ومليارات آخرون لا أمل لهم في الحصول على سرير وجهاز تنفس اصطناعي.
إنسانية
هل يمكن التعويل على استمرارية روح التضامن بعد كورونا؟
لكن ذلك لا ينفي أنه كما بثّتْ الجائحة مشاعر الخوف والفزع في نفوس البشر، كذلك بثّتْ فيهم مشاعر التضامن الإنساني لحاجة بعضهم إلى بعض في مواجهة عدو غير مرئي يهدد الإنسانية جمعاء. لقد تفشت النزعة الإنسانية واتسعت ممارساتها السمحاء (من تراحم وتعاطف وإيثار ... ) بين الناس في أنحاء العالم الموبوء.
نلمس ذلك في صور التضامن الإنساني الواسع النطاق من خلال المبادرات الفردية والجماعية التطوعية في مدّ أيادي العون للمحتاجين، مثل إيصال الغذاء والدواء إلى المسنين المعزولين في بيوتهم، وتوزيع المساعدات الغذائية على الفقراء، وإيواء المشردين والاعتناء بهم، والتطوع لتصنيع الكمامات والتبرع بها أو بيعها بسعر التكلفة. وتعبيرات الامتنان الجيّاش للكوادر وتطويبهم في منزلة القديسين. يحيونهم بالتصفيق من شرفات المنازل، ويعدون لهم في المطاعم ومطابخ البيوت وجبات الطعام المجانية.
ويبتكر الإيطاليون رومانسية تحدي الفيروس بالموسيقى والغناء من الشرفات لتتفشى الظاهرة في شرفات العالم، محمولة على المحبة والأمل والفرح ضد الخوف والقلق والعزلة.
ولكن، هل يمكن الرهان أو قُلْ التعويل على استمرارية روح التضامن الإنساني التي أبانتها الجائحة لتستمر مسرودات فعالياتها ما بعد اختفاء الفيروس (إذا ما كان اختفاؤه قريبا)؟! مَن يضمن؟! إن الطبيعة البشرية أنانية بطبعها، وهي مفارقة للماهية الإنسانية المكتسبة (حضارياً) والتي غالبا ما توهن طاقتها عند مواجهة "النوع البشري" الكوارث القياميّة كأفراد يطلبون النجاة بمنطق (نفسي نفسي) بدافع "المحافظة البيولوجية".
شر وشراسة
وليس من غير دلالة مشاهد تعارك البشر في شراسة من أجل انتزاع لفائف ورق المراحيض والكمامات بعد تناقصها في الأسواق. وتزاحم الأمريكيين، مع بداية انتشار الفيروس في بلادهم، على محلات بيع الأسلحة مستشعرين أخطار السطو والنهب. وانتشار ظاهرة رفض دفن جثث موتى الوباء في المدافن القريبة من تجمعات الأحياء. ولا ننسى تزايد معدلات العنف الأسري وحالات الطلاق بإفراط في أجواء العزل الصحي.
ووصل الأمر بالدول إلى ممارسة ضربا من "القرصنة الحديثة" للحصول على بضائع دول أخرى من لوازم الوقاية من الفيروس. وقد قال ترامب: " نحتاج إلى هذه البضائع على الفور للاستخدام المحلي. يجب أن نحصل عليها".
وحتى أن إسرائيل لجأت إلى جهاز الموساد الذي استخدم، باعتراف أحد ضباطه، أساليب وطرقا غير مألوفة للوصول إلى حجم هائل من المعدات الطبية التي طلبتها وزارة الصحة لمواجهة فيروس كورونا.
إنها مؤشرات شريرة أولية لما قد يفعله البشر بعضهم لبعض (أفراداً وجماعات) إذا عاشوا مشهداً قيّامياً لنهاية العالم، فجائحة كورونا ليست سوى "بروفة" لما سوف يواجهه الجنس البشري (القاصر عن أن يكون إنسانياً بعد). فلا تزال هناك فيروسات تاجية أشد فتكاً، وكوارث الاحتباس الحراري قادمة أكثر شراسة وتدميراً، دون الحديث عن احتمالات اندلاع حرب أو حروب نووية كونية.
أينشتاين: المحبة × مربع سرعة الضوء = طاقة شفاء العالم
وفي الختام علّ تسعفنا رؤية أينشتاين عالم الفيزياء الخارق وقد تحول من البحث في خصائص طاقة المادة العامة إلى البحث في طاقة الماهية الإنسانية، كما جاء في رسالته التي كتبها إلى ابنته لِيسَرْل Lieserl عام 1938 ولم تنشرها حتى عام 1980. فقد طلب منها أن تحتفظ بها "لسنوات وعقود حتى يتطور المجتمع ويقبل ما أقوله".
وما أراد أينشتاين قوله، في رسالته الفذة تلك، هو أن: "في الكون طاقة جبارة جدا لم يعثر العلم بعد على تفسير علمي لها. تشمل هذه الطاقة كل الطاقات الأخرى وتتحكم بها كما أنها تقف خلف كل الظواهر العاملة في الكون ولم يحدد هويتها أحد بعد. هذه الطاقة الكونية هي المحبة عندما بحث العلماء عن نظرية موحدة للكون غابت عنهم هذه الطاقة. المحبة نور ينير مَن يعطيها ومَن يأخذها".
واستطرد أينشتاين: "المحبة جاذبية تولد الشعور بالانجذاب نحو الآخرين. هي طاقة تضاعف أفضل ما لدينا وتسمح للإنسانية ألا تختفي في الانانية العمياء المحبة تُظهر وتكشف. للمحبة نحيا ولها نموت. المحبة هي الله والله محبة. وحتى أظهرها على حقيقتها غيّرتُ قليلا في أشهر معادلاتي E=mc² [طاقة الجسم هي حاصل ضرب كتلة هذا الجسم في مربع سرعة الضوء]".
وأضاف أينشتاين: "أقول اليوم إن المعادلة هي أن: المحبة مضروبة بمربع سرعة الضوء تعطينا الطاقة التي تشفي العالم. المحبة هي القوة الأكبر في الوجود لأنها لا حدود لها. بعد فشل البشرية في استعمال قوى الطبيعة والسيطرة عليها من الطبيعي أن نثقف أنفسنا بطريقة بديلة إذا أردنا للجنس البشري أن يستمر وأن يجد معنى للحياة وأن نخلص العالم وكل كائناته الحية".
فرج العشة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:39675]