هل تتفادى حكومة الشرع أخطاء الأسد التي أسقطته؟

رجل يبيع الوقود من زجاجات بلاستيكية على الطريق في سوريا
في ظل النقص الحاد للموارد الأساسية، يبيع رجل الوقود على جانب الطريق في دُوما، سوريا، في 6 فبراير/شباط 2025. (Photo: picture alliance / Middle East Images | R. Waked)

تُكثّف الحكومة الانتقالية السورية جهودها في تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية، كان قد اتبعها الأسد، تُعطي الأولوية للخصخصة والتقشف والاستثمار الأجنبي. بيد أن التعافي الاقتصادي الحقيقي يتطلب نهجًا جديدًا.

الكاتبة ، الكاتب: جوزيف ضاهر

تعززت الآمال بعد سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، بشأن مستقبل مزدهر لسوريا. لكن فيما تحاول البلاد إعادة بناء اقتصادها، تظل هناك العديد من التحديات الجسام أمام هذه الآمال.

لا يزال أكثر من نصف السوريون نازحين داخليا أو خارجيا. كما يعيش 90% منهم تحت خط الفقر، وكذلك يحتاج 16.9 مليون سوري، أي ثلاثة من أصل أربعة أشخاص إلى مساعدات إنسانية، وفقًا للأمم المتحدة.

كما يُعدّ تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية أمرًا بالغ الأهمية لمستقبل سوريا، ولتوسيع مشاركة الشعب السوري في عملية الانتقال السياسي الحالية. ويتطلب التعافي وإعادة الإعمار أشكالًا من المساعدة المالية الدولية، بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية.

وعلى الرغم من الجهود السورية لتحسين موقفها الجيوسياسي وتشجيع جذب الاستثمارات الأجنبية، إلا أن الحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام ما زالت تواصل العمل بسياسة النظام السابق النيوليبرالية، مما يؤدي إلى تعميق التفاوتات وتفاقم التحديات الاقتصادية الرئيسية.

سوريا بحاجة إلى استثمارات لتمويل إعادة الإعمار

تُقدَّر تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار. وتحتاج البلاد إلى استثمارات أجنبية، ينبغي توجيهها، بمساعدة الدولة، لإعادة إعمار مساكن النازحين ودعم القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد، بدلاً من تعزيز ديناميكيات التجارة والمضاربة.

وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الاستثمار يواجه عراقيل بسبب العقوبات المفروضة على كلٍّ من سوريا وهيئة تحرير الشام. في أواخر فبراير/شباط 2025، علّق الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على بعض القطاعات. كما رفعت المملكة المتحدة، الأسبوع الماضي، العقوبات عن 24 كيانًا سوريًا، بما في ذلك مصرفها المركزي.

فيما لا تزال العقوبات الأمريكية الشاملة تُشكّل العقبة الأكبر. في يناير/كانون الثاني، خففت إدارة بايدن العقوبات على قطاع الطاقة والتحويلات المالية الشخصية. أما إدارة ترامب الجديدة، فلم تُفصّل بعدُ سياسةً واضحةً تجاه سوريا أو موقفًا من العقوبات.

عملة غير مستقرة وبنية تحتية متضررة

وحتى في غياب العقوبات، تواجه سوريا تحديات اقتصادية عميقة قد تعيق عملية التعافي. 

يُعدّ عدم استقرار الليرة السورية مشكلةً جوهرية. ففي أعقاب سقوط الأسد، ارتفعت قيمتها في السوق السوداء، مدفوعةً بتدفق العملات الأجنبية، وتوقعات الدعم من المجتمع الدولي، والسياسات النقدية الهادفة إلى تقليص عرض الليرة السورية في السوق، والدولرة غير الرسمية. إلا أن الطريق لا يزال طويلاً قبل أن تستقر الليرة السورية، مما يُثني المستثمرين عن السعي وراء عوائد سريعة ومتوسطة الأجل.

تستخدم بعض مناطق شمال غرب البلاد الليرة التركية منذ عدة سنوات لتحقيق الاستقرار في الأسواق المتضررة من الانخفاض الحاد في قيمة الليرة السورية. كما يُتداول الدولار الأمريكي في جميع أنحاء البلاد، مما قد يشكل إعادة اعتماد الليرة السورية كعملة رئيسية، مشكلةً في حال عدم تحقيق الاستقرار.

ما تزال البنية التحتية لسوريا وشبكات المواصلات تعاني من أضرار جسيمة، وكذلك تكاليف الإنتاج لا تزال مرتفعة، بالإضافة إلى نقص حاد في السلع الأساسية وموارد الطاقة. كما تعاني سوريا نقصا في القوى العاملة المؤهلة، ولم يتضح بعد ما إذا كانت العمالة الماهرة ستعود أم لا.

كذلك يتألف معظم القطاع الخاص من مؤسسات صغيرة ومتوسطة ذات قدرات محدودة، بحاجة إلى تحديث وإعادة بناء كبيرين بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب. كما أن موارد الدولة مقيدة بشدة، مما يحدّ أكثر من الاستثمار في الاقتصاد.

وتقع موارد النفط الرئيسية في سوريا في الشمال الشرقي، الخاضع حاليًا لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا. ونتيجةً لذلك، استمر إنتاج سوريا من النفط والغاز الطبيعي في الانخفاض بشكل حاد. فقد انخفض إنتاج النفط من 400 ألف برميل يوميًا عام 2010 إلى حوالي 91 ألف برميل عام 2023، وهو ما لا يكفي لتلبية الاحتياجات المحلية. وكانت إيران قبل سقوط الأسد تُزوّد سوريا بمعظم احتياجاتها من النفط، لكن هذا الدعم توقف منذ ذلك الحين.

ومع استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض قيمة الليرة السورية، أصبح السوريون يعتمدون بشكل متزايد على التحويلات المالية، وهي على الأغلب تحويلات مالية من أقاربهم في الخارج. ويفوق حجم هذه التحويلات حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في سوريا، الذي ظلّ في حدّه الأدنى منذ عام 2011، والمساعدات الإنسانية، التي تراوح متوسطها ملياري دولار أمريكي في السنوات الأخيرة.

النيوليبرالية بين حكم الأسد وهيئة تحرير الشام

اتبعت هيئة تحرير الشام منذ وصولها لسدة الحكم، نفس السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي أسسها النظام السابق. وكان بشار الأسد قد عجل بالإصلاحات النيوليبرالية عند توليه السلطة عام 2000.

وفي عام 2005، تبنى حزب البعث، استراتيجية نظام اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي يعمل على جعل القطاع الخاص رائدًا في عملية التنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل. إلا أن انسحاب الدولة من مجالات رئيسية لتوفير الرعاية الاجتماعية، فاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة. وكانت الخصخصة وتحرير الاقتصاد وخفض الدعم من السمات الرئيسية لهذه السياسة.

فقد تمكنت الطبقة العليا والمستثمرون الأجانب من تحقيق مكاسب من السياسات النيوليبرالية وإجراءات التقشف على حساب معظم سكان سوريا، الذين تضرروا بشدة من التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. وفاقمت سياسات الأسد الاقتصادية في زمن الحرب الديناميكيات الاقتصادية القائمة قبل 2011، مما عزز من تراكم رأس المال الخاص، وقلّص المسؤوليات الاجتماعية للدولة، وأدى إلى تفاقم الفساد والممارسات الاقتصادية غير المشروعة.

ولا يمثل النهج الذي تتبناه المجموعة الحاكمة الجديدة - هيئة تحرير الشام - قطيعة مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية للنظام السابق، بل على العكس تماما. عقد زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع ووزراءه اجتماعات عديدة مع ممثلي غرف التجارة والصناعة السورية، بالإضافة إلى كبار رجال الأعمال داخل البلاد وخارجها، لعرض رؤيتهم الاقتصادية والاستماع إلى همومهم.

توجد بالفعل دلائل ملموسة على أن الحكومة الانتقالية تُسرّع وتيرة الخصخصة وتُطبّق إجراءات تقشفية. إذ صرّح وزير الخارجية أسعد الشيباني لصحيفة فاينانشال تايمز، قبل زيارته للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس - وهو مؤتمر يُجسّد النيوليبرالية الغربية -، بأن الحكومة السورية الجديدة تُخطط لإعطاء الأولوية "للشراكات بين القطاعين العام والخاص"، بما في ذلك خصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، لجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التجارة الدولية.

تقشف وتسريح جماعي للعمالة

نفذت هيئة تحرير الشام بالفعل عدة إجراءات تقشفية رئيسية. إذ جرى رفع سعر الخبز المدعوم من 400 ليرة سورية (وزن 1100 جرام) إلى 4000 ليرة سورية (كان وزنه في البداية 1500 جرام، ثم خُفِّض إلى1200 جرام).

ومن المقرر أن ينتهي دعم الخبز خلال أشهر، تماشياً مع تحرير السوق. في يناير/كانون الثاني، صرّح وزير الكهرباء عمر شقروق لموقع "سيريا ريبورت"، بأن هيئة تحرير الشام ستُخفّض أو حتى تُلغي دعم الكهرباء.

كما أعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، في الشهر ذاته، أنه سيتم تسريح ما بين ربع وثلث القوى العاملة في الدولة، مستهدفة الموظفين الذين، وفقًا للسلطات الجديدة، كانوا يتلقون رواتب، ولكنهم لا يعملون. وقد قاد العمال المفصولون والموقوفون عن العمل الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد ردًا على ذلك.

تعهدت الحكومة الجديدة برفع الأجور بنسبة 400%، ليصبح الحد الأدنى للأجور 1,123,560 ليرة سورية (حوالي 86 دولارًا أمريكيًا)، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح. إلا أن التنفيذ لا يزال معلقًا، ولا تزال الزيادة غير كافية في ظل استمرار أزمة غلاء المعيشة. وتقدر صحيفة قاسيون أن أسرة مكونة من خمسة أفراد في دمشق تحتاج إلى ما لا يقل عن 9 ملايين ليرة سورية (692 دولارًا أمريكيًا) شهريًا لتلبية احتياجاتها الأساسية.

طاولة طويلة مع الكثير من الكراسي البلاستيكية بالخارج، بجوار الركام.
برزت تركيا كقوة مؤثرة في سوريا الجديدة. في الرابع من مارس/آذار، انضم دبلوماسيون أتراك إلى سوريين لتناول الإفطار في حي القابون المدمر بدمشق. (Photo: picture alliance / NurPhoto | R. Alsayed)

تستخدم حكومة الشرع السياسة الاقتصادية للحصول على شرعية دولية

وتعد السياسات الاقتصادية النيوليبرالية للحكومة الجديدة جزءًا من خطة أوسع لتعزيز سلطتها وتنفيذ انتقال مُحكم للسلطة. إذ تسعى الهيئة إلى تهدئة المخاوف الخارجية، وإقامة علاقات مع القوى الإقليمية، والحصول على الاعتراف بها كقوة شرعية يُمكن التفاوض معها. ورغم تصنيفها كمنظمة إرهابية، إلا أن تغييرًا في سلوك العواصم الإقليمية أصبح واضحًا بالفعل.

تُعدّ أنقرة، في الوقت الراهن، صاحبة النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري الرئيسي في سوريا الجديدة، وهي تُرسّخ مكانتها بدعمها لهيئة تحرير الشام. والهدف الرئيسي لتركيا، إلى جانب تنفيذ عمليات العودة القسرية للاجئين والاستفادة من الفرص الاقتصادية المستقبلية، هو حرمان الأكراد من تطلعاتهم للحكم الذاتي في سوريا.

ومن المرجح أن تلعب قطر أيضًا دورًا رئيسيًا كركيزة اقتصادية. وتقدم كل من قطر وتركيا بالفعل أشكالًا مختلفة من الدعم للحكومة الجديدة في دمشق. وقد زارت وفود أعمال تركية غرف التجارة والمجموعات الصناعية السورية لاستكشاف فرص الاستثمار المحتملة.

في أواخر يناير/كانون الثاني، خفضت دمشق الرسوم الجمركية على أكثر من 260 منتجًا تركياً. وارتفعت الصادرات التركية إلى سوريا بنسبة 35.5% على أساس سنوي، لتصل إلى 219 مليون دولار أمريكي حتى 25 يناير/كانون الثاني. كما اتفق المسؤولون السوريون والأتراك على إعادة فتح المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وسوريا لعام 2005، والمعلقة منذ عام 2011، مع خطط لشراكة اقتصادية أوسع.

وعلى الرغم من أن يكون لهذا عواقب اقتصادية وخيمة على الإنتاج المحلي لسوريا، خصوصا في قطاعي الصناعة والزراعة، اللذين قد يواجهان صعوبة في منافسة الواردات التركية. كان لاتفاقية التجارة الحرة الأصلية لعام 2005 تأثيرا سلبيا على الصناعات المحلية، مما أدى إلى إغلاق العديد من مؤسسات التصنيع، وخاصة في ضواحي المدن الكبرى.

هل يمكن أن تتعلم حكومة الشرع من أخطاء نظام الأسد؟

تواجه سوريا تحديات اجتماعية واقتصادية ملحة في ظل ديناميكيات جيوسياسية متسارعة. في هذا السياق، لابد من معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية بشكل سريع لتحسين الظروف المعيشية وتعزيز قدرة السكان على المشاركة في الحياة السياسية والمرحلة الانتقالية في البلاد.

رغم نجاح حكومة الشرع في إحداث تغيير في نظرة العواصم الإقليمية، إلا أن التوجه السياسي والاقتصادي للحكومة الجديدة لا يقدم بديلاً عن النهج النيوليبرالي للنظام السابق. وتُسرّع الحكومة، هذه التوجهات من خلال التحرير الاقتصادي والخصخصة والتقشف وخفض الدعم.

لن يؤدي هذا التوجه الاقتصادي إلا إلى المزيد من التفاوت الاجتماعي والإفقار وتركيز الثروة في أيدي أقلية وغياب التنمية الإنتاجية ــ وهي العناصر التي كانت وراء الانتفاضة الشعبية عام 2011.

قنطرة ©