يوميات سجناء مصريين خلف الزنزانة

يعتبر إسكات المعتقلين على نطاق واسع من آثار السجن الجماعي، وغالبًا ما يعقب هذا الصمت فقدان عام للذاكرة، حيث ينسى المجتمع أولئك الذين جرى سجنهم. ولمقاومة ذلك، قرر محررو كتاب "Imprisoning a Revolution: Writings from Egypt's Incarcerated " أي "اعتقال ثورة: الكتابة من مصر الحبيسة" (2025)، الذين أطلقوا على أنفسهم فريق "أنتيغون"، خلق مساحة لأصوات أكثر من مئة سجين مصري، من نساء ورجال، أقباط ومسلمين وغير متدينين، سياسيين إسلاميين ويساريين، بالإضافة إلى سجناء ليس لديهم توجهات سياسية معينة.
وتمهيدّا لتلك الفكرة، ابتكر المحررون مصطلحًا جديدًا لوصف الحكومة المصرية بـ"حكم السجون"؛ وذلك بسبب استعمالها السجن الجماعي كوسيلة رئيسية لفرض السيطرة الاجتماعية.
وقد حُكم المصريون بأسلوب الاعتقالات التعسفية منذ عام 1914، عندما فرض الاحتلال البريطاني الأحكام العرفية، بحسب ما نقله محررو الكتاب. واستمر هذا الوضع في فترة ما بعد الاستعمار من خلال "قوانين الطوارئ" التي ظلّت سارية بشكل شبه مستمر منذ عام 1958، وأضافوا أنّ مصر شهدت ارتفاعًا حادًا في حالات الاعتقال بشكل "لم يسبق له مثيل في تاريخها" منذ عام 2013.

"أنت لم تهزم بعد"...رسائل من وراء القضبان
أيقونة الربيع العربي: جمع أصدقاؤه وأقرباؤه كتاباته من عام 2011 وحتى عام 2021 ونتج عن ذلك رسائل من السجن تحلل تاريخ مصر خلال عقد على الربيع العربي. كتاب قرأه يانيس هاغمان لموقع قنطرة.
جاءت فكرة كتابة هذه المختارات خلال نقاش مع ليلى سويف، والدة الناشط المسجون علاء عبد الفتاح، التي تخوض إضرابًا عن الطعام في بريطانيا احتجاجًا على اعتقال ابنها الذي يحمل الجنسية البريطانية أيضا، لمجموعة أنتيغون، وقالت إن أبرز ما يمكنهم فعله هو مواجهة النسيان القسري الذي يحيط بالسجناء المصريين.
وحثّت سويف المحررين على توسيع جهدهم ليشمل كتابات السجناء في جميع أنحاء مصر وليس ابنها فقط. ومع ذلك، يعدّ كتاب "اعتقال ثورة" ليس مجرد سلسلة شهادات ولا أدب توثيقي صريح، بل مجموعة من المشاهد العاطفية النابضة بالحياة التي "تشكّل تاريخًا مصغرًا من الأسفل للتاريخ المصري المعاصر من عام 2011 إلى عام 2023"، حسبما يقول المحررون.

اختيار النصوص
بدأ فريق "أنتيغون"، بجمع أعمال السجناء الفنية والرسائل والأعمال الأدبية من مصادر متعددة، بما في ذلك عائلاتهم، ومركز النديم لمناهضة العنف والتعذيب، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومحامين حقوقيين مختلفين. وقال المحررون عبر البريد الإلكتروني لقنطرة، إن عدد الرسائل التي جمعوها "وصل سريعًا إلى الآلاف". ومن ثم، عملوا على اختيار حوالي 100 رسالة.
والأهم من ذلك، أنهم أرادوا إبراز تنوع وجهات النظر وكذلك الأعمار، ومزيج من الرجال والنساء. وكتبوا عبر البريد الإلكتروني لقنطرة: "ضمن هذا الإطار، بحثنا عن كتابة صادقة ومباشرة تكشف حقيقة السجن كما هي، في واحد من أسوأ أنظمة السجون في العالم".
كتب النصوص كُتّاب وشعراء بارزون ممن مرّوا بتجربة السجن في مصر: علاء عبد الفتاح، وأحمد دومة، وجلال البحيري، وعبد الرحمن الجندي، بالإضافة إلى ناشطات بارزات في مجال حقوق الإنسان، مثل سارة حجازي، وسناء سيف، وماهينور المصري. كما شارك أيضًا المصور محمود أبو زيد المعروف باسم شوكان، الذي لم يحظَ بشهرة واسعة إلا بعد اعتقاله، لكن الكثير من الكتّاب لا يزالون مجهولين تمامًا.
سجناء مجهولون
في مقدمة الكتاب، يتحدث الكاتب أحمد ناجي، عن أهمية الكتابة أثناء السجن، ليس فقط للمؤلفين المحترفين، بل للآخرين أيضًا. حُكم على ناجي بالسجن لمدة عامين بتهمة "خدش الحياء العام" بعد أن تسبب مقتطف من روايته "استخدام الحياة" في إصابة أحد القرّاء بأزمة قلبية. وانتهى به المطاف بقضاء عشرة أشهر خلف القضبان.
يصف ناجي كيف وثّق أحد زملائه السجناء، الذي يُطلق عليه اسم "أرسيل بروست"، "وقته الضائع" بالسجن. لم يكن بروست كاتبًا ولا سجينًا سياسيًا، بل موظفًا متهمًا بالفساد، وقد تم تبرئته بعد 4 سنوات قضاها خلف القضبان.
اكتشفت إدارة السجن مذكراته أثناء الإفراج عنه، وخيّرته بين إحراقها أو البقاء داخل السجن. في النهاية، استسلم الرجل وشاهد النيران "تلتهم وقته الضائع، والدموع تنهمر على خده، في طريقه إلى الحرية"، كما يقول ناجي، إن مذكرات هذا الرجل الذي لم يذكر اسمه لم تبق إلا كظلّ نص لم يعد موجودًا.
تغطي نصوص المختارات طيفًا واسعًا من الأشكال، وأحد الأقسام المؤثرة، الذي أشرف عليه مينا إبراهيم، يتضمن أعمال سجين مسيحي مجهول الهوية، كتب مساهمته على هامش نسخة من كتاب الإنجيل. سُجن هذا المسيحي المجهول الهوية بعد مذبحة ماسبيرو في أكتوبر/تشرين الأول 2011، بتهمة التسبب في "اضطرابات عامة"، ورغم أنه لم يمضِ سوى 4 أشهر في السجن، إلا أنه لم يتمكن من الاندماج مجددًا في مجتمعه، حتى غادر مصر عام 2017.

"كيف يمكنني البقاء في مجتمع قائم على الكراهية؟"
تم اعتقال الناشطة المصرية المثلية سارة حجازي عام 2017 في القاهرة، لأنها رفعت في حفل غنائي علم ألوان قوس قزح، رمز المثلية وحرية الميول الجنسية. وها هي سارة قد انتحرت في الأراضي الكندية. الصحفي الألماني كريستوفر ريش يتناول هذا الموضوع على موقع قنطرة.
كُل تأمل من تأملات الكاتب المجهول كُتبت إلى جانب آية من الكتاب المقدس، وكانت العديد من هذه الآيات تتحدث عن السجن. يمكننا تخيّل ذلك الرجل وهو يتصفح إنجيله باحثًا عن أيّ قصة تتعلق بالاحتجاز أو الحبس — مثل قصة يونان وهو داخل بطن الحوت، أو يسوع وهو مسجون في مقرّ الحاكم.
لم تكن هذه الكتابات أعمالًا فنية؛ ومع ذلك فهي تتيح لنا رؤية واضحة، إذ كتب السجين المجهول: "يبدو أنّ السجناء المصريين أقل حظًا في نيل المعجزات مقارنةً بسجناء الرومان في بدايات المسيحية. هل يعود ذلك إلى تحالف الجيش المصري مع الكنيسة؟ لا أعلم إن كان يسوع في حيرةٍ بشأن إنقاذي وإطلاق سراحي مثل الرسل، أم أن قوات الأمن المصرية أقوى منه".
فيما بدا كاتب مجهول آخر مصدومًا من "أصوات غرفة الإعدام من الغرفة المجاورة"، في نصه المؤرخ في 4 سبتمبر/أيلول 2019، ومأخوذ من أرشيف مركز النديم، ويكتب فيه: "يُصاب أولئك الذين يُقتادون إلى الموت بالرعب بمجرد وصولهم إلى باب غرفة المشنقة، فيُسارعون إلى أقرب باب - باب غرفتي - طالبين النجاة من الموت. من خلال ثقب الباب، رأيت رعبًا لا أستطيع وصفه".
نظرة إلى الداخل، نظرة إلى الخارج
ليست جميع مساهمات الكتاب مكتوبة بل هناك رسومات أيضًا، إذ شارك محمود محمد عبد العزيز، الذي غيّر اسمه إلى ياسين، أعماله الفنية التي رسمها داخل السجن، التي لا تعكس ما كان موجودًا فحسب، بل أيضًا نقص الإمكانيات، إذ رسم بورتريه لامرأة بعينين محجوبتين، مستخدمًا أصابع يده لأنه لم يكن لديه فرشاه رسم، ولوّنها بالأزرق والأصفر، والأخضر؛ لأنه لم يكن لديه سوى هذه الألوان.
ومن بين أعماله أيضًا، لوحة بالحبر تُصوّر ظهر رجل مسنّ يجلس على كرسي، مرتديًا زي الاحتجاز الإداري، وقد كُتبت على ظهره كلمة "التحقيق". الممر الغريب ذو الشكل الصندوقي يتناقض بشكل لافت مع هيئة الرجل الجالس بتوتر على مقعد خشبي صغير، مواجهًا للجهة الأخرى، بينما يظهر في البعيد باب مفتوح بشكل مغرٍ.
وفيما لم تتضمّن المختارات أيّ صورة التقطها المصوّر الصحفي محمود أبو زيد، المعروف باسم "شوكان"، إلا أنها اشتملت على صور التُقطت له أثناء محاكمته، حيث لم يكن يحمل كاميرته التي اعتاد أن يوثّق بها الأحداث، بل أصبح هو نفسه موضوعًا للتوثيق.
شوكان، الذي اعتُقل أثناء تغطيته لمجزرة رابعة في 14 أغسطس/آب 2013، ظل قابعًا في الحبس الاحتياطي حتى ظهوره أمام المحكمة في مارس/آذار 2016. حينها، لم يكن قادرًا على ممارسة مهنته، لكنه لجأ إلى استخدام يديه لتشكيل كاميرات وهمية، يلتقط بها "صورًا وهمية" للحدث.
وقد ضمّت المختارات أربعًا من هذه الصور الرمزية التي انتشرت حول العالم، التقطها كل من مصطفى الشيمي وهبة الخولي، ويظهر فيها شوكان مُصرًّا على تأطير الواقع، وعلى إنتاج المعنى، حتى من داخل قفص الاتهام. هذا الفعل – إعادة التأطير – هو ما يُشكّل جوهر هذه المختارات، التي لا تتيح فقط للمعتقلين التعبير، بل تمنحهم كذلك حق صياغة شروط السرد.

نظرية تكميم الخيال: عندما تنتشر الخرافة ينكسر حلم التقدم
حرية الرأي والتعبير في العالم العربي أمام ماكينة مجتمعية جادة لتكميم الخيال تعمل بكفاءة. الكاتب والروائي خالد الخميسي يكتب لموقع قنطرة عن آليات القمع المجتمعي وأسباب دفاع غالبية العرب بشراسة عن وجود آليات رقابية سياسية على ابداع الفنانين والكتاب.
ضدّ نظام السجون حول العالم
لا تقتصر مقدمة كتاب "اعتقال ثورة" وتمهيده على الاعتقالات الجماعية في مصر فحسب، بل تشمل أيضًا رواندا والسلفادور وكوبا والولايات المتحدة.
وتصف مقدمة المحررين كيف أصبح نظام السجون الأمريكي وسيلةً جديدةً للسيطرة على المواطنين السود في البلاد بعد عام 1865، وفي مقدمته، يناقش ناجي تجربته في تحكيم جائزة أدبية للسجناء الأمريكيين.
ومع ذلك، لا يتوقع محررو الكتاب أن تُشكّل هذه المختارات - أو أي شيء آخر - ضغطًا على مصر لإنهاء أزمة السجون في أي وقت قريب، وما يهدفون إليه هو أن يُلهم كتاب "اعتقال ثورة" الآخرين "لمواصلة النضال - ليس فقط في مصر، بل عالميًا - ضدّ الاعتقالات السياسية الجماعية".
يكتبون: "أظهر الانقلاب الثوري المفاجئ على نظام الأسد، أن الموازين يمكن أن تتحول في أي لحظة، ويمكن للأصوات التي تم إسكاتها لفترة طويلة أن تصبح فجأة حرة حتى تتحدث، تبكي أو حتى تصرخ بحقائقها".
"اعتقال ثورة: الكتابة من مصر الحبيسة" الصادر باللغة الإنجليزية
فريق أنتيغون
دار نشر جامعة كاليفورنيا
2025
النصّ مترجم من الإنجليزية
قنطرة ©