صناع قرار سياسي ضلعوا في ابتزاز شعوبهم
اشتهر عملاق المسرح الدرامي الألماني برتولت بريشت BERTOLT BRECHT بأعماله الأدبية والفنية النابعة من إيمانه بالفكر الماركسي المبني على العدالة الاجتماعية. عارف حجاج شاهد مسرحية بريشت "صعود أرتورو أوي الممكن إيقافه" Der aufhaltsame Aufstieg des ARTURO UI التي تعتبر من أصعب ملاحمه المسرحية واكثرها واقعية في التنديد بالطغيان السياسي والفساد الإداري بحيث يمكن نقل فحواها السياسي والمجتمعي الى واقع عدد كبير من دول العالم بما فيها دول المنطقة العربية.
*******
أَلَّفَ برتولت بريشت ملحمة "صعود أرتورو أوي الممكن إيقافه" في فنلندا على النمط الرمزي المجازي "بارابل" فروى قصة محتال قاتل ينحدر من ضاحية برونس التابعة لمدينة نيويورك ثم انتقل في ثلاثينيات القرن الماضي منها إلى مدينة شيكاغو التي انتشرت فيها شتى أنواع الجرائم الفردية والمنظمة.
أسس هناك عصابة طاردت أصحاب المعامل الكبيرة والدكاكين البسيطة على حد سواء للاستيلاء على ثرواتهم ولجأت لهذا الغرض إلى ابتزازهم وفرض أموال "الحماية" عليهم وإلى قتل من لم يتجاوب معها عند الضرورة.
ساسة فاسدون وعصابات متعاونة معهم
أظهر بريشت تجانس المصالح بين الحين والآخر بين تلك العصابات وأصحاب المصالح التجارية والصناعية الكبرى بل كذلك بينها وبين بعض صناع القرار السياسي الذين ضلعوا في ابتزاز شعوبهم وفي توظيف أموال الدولة العامة لمصالحهم ومصالح ذويهم وحاشياتهم.
وقد عانت شيكاغو كغيرها من المدن الأمريكية والأوروبية من مشاكل الانكماش الاقتصادي الذي أسفر عن تصعيد البطالة والبؤس المجتمعي مما جعل أصحاب الاحتكارات الكبرى من تجار الخضروات والفواكه وممتلكي شركات الملاحة البحرية على سبيل المثال يعانون من تدهور أوضاع مؤسساتهم ويلجؤون لتسخير السياسيين المقربين منهم في سبيل إيجاد طرق سريعة فعالة لتجاوز تلك الأوضاع الصعبة بالوسائل الشرعية وغير الشرعية.
لكن الأمر لم يقتصر على التعاون مع أصحاب السلطة فقط بل أيضا مع الأوساط المشكوك تماما بسمعتها الأخلاقية. من هنا وجد أرتورو فرصة سانحة لتقديم خدماته لتلك الشركات الاحتكارية الأمر الذي لم يلقَ بدايةً صدى إيجابيا لكن الأمر تغير بعد أن اتضح لشركات الاحتكار أولا بأن تلك العصابات نجحت في تحييد التجار الآخرين المنافسين لها باستخدام العنف والتهديد والقتل وثانيا بكون عدد لا يستهان به من أصحاب النفوذ السياسي ضلعوا منذ وقت طويل بالتعاون مع تلك العصابات.
لقد أظهر بريشت في ملحمته هذه بأن الحديث عن استقلالية السلطة القضائية كثيرا ما اتسم بصفة السراب والوهم حيث أذعن العديد من كبار القضاة الى "تعليمات" الساسة الفاسدين والعصابات المتعاونة معهم فأصدروا أحكاما مناقضة للقوانين السائدة لقاء الحصول على امتيازات مالية أو مهنية.
ولم يَخْفَ على أرتورو أن بعض السياسيين يلجؤون إلى التلاعب على عواطف وميول عامة الناس في سبيل تحقيق مصالحهم الشخصية وتوطيد نفوذهم. لهذا كلف أحد أقطاب الحكم العتيدين بإعطائه دروسا نظرية وعملية في فن البلاغة اللغوية وأساليب التأثير على مشاعر الناس.
من أشهر أعمال بريشت الأخرى "أوبرا الثلاثة قروش" و"حياة غاليليو" و"سقوط مدينة مهاغوني" و"الأم المسماة شجاعة".
برتولت بريشت ترعرع في وسط بورجوازي ثم مال إلى الماركسية
وُلِدَ برتولت بريشت في إقليم الغوي Allgäu البافاري وترعرع في وسط اجتماعي بورجوازي مرهف وانتقل الى عاصمة بافاريا بغرض دراسة الطب لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون ذلك.
ولاح أن الفن والعمل المسرحي على وجه خاص حازا على إعجابه بدرجات أكبر كثيرا من الطب وغيره من العلوم الطبيعية. لهذا غادر بافاريا طوع إرادته تاركا وراءه التيارات المحافظة دينيا والرجعية سياسيا السائدة فيها متوجها الى برلين التي شهدت في ثلاثينيات القرن العشرين تألقا مسرحيا وفنيا غير مسبوق رغم أو ربما بسبب توتر الأوضاع السياسية في العقود التي تلت الحرب العالمية الأولى. فكثيرا ما وَلد البؤس المجتمعي إبداعا خلاقا في المجالين الفني والأدبي.
تعين على بريشت مغادرة ألمانيا بعد وصول النازيين الى الحكم بسبب ميوله الماركسية وابتعاد نهجه الأدبي والمسرحي عن المقاييس التقليدية المحافظة التي تبناها النازيون والأحزاب الدينية المحافظة على حد سواء فعاش في المهجر سنوات طويلة في الدنمارك وفنلندا والولايات المتحدة إلى أن عاد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الى ألمانيا وتحديدا الى الشطر الشيوعي الشرقي منها.
درج بريشت على إدانة الصفات الإمبريالية والرأسمالية والفساد الاجتماعي التي اعتبرها من مقومات الأنظمة الرأسمالية الغربية. ومن أقواله المأثورة "أولا الطعام ومن بعد القيم الأخلاقية".
أسلوب ألماني لغوي "سهل ممتنع" كما هو لدى الأديب المصري الشهير طه حسين
تناولت ملاحمه دوما موضوعات اجتماعية وسياسية بعمق والتزام فكري، بينما اتسم أسلوبه اللغوي كالحال لدى الأديب المصري المشهور طه حسين بصفة "السهل الممتنع".
استخدم بريشت -الذي عانى من مرارة الهجرة والاضطهاد السياسي في كاليفورنيا الأمريكية وفي عدة دول أوروبية بسبب ميوله الماركسية- في هذه المسرحية كما سبق القول النمط الأدبي المجازي والرمزي خشية أن تزداد حدة الصعوبات التي واجهها في المنفى حيث لم تسمح له الدول المضيفة بممارسة أي نشاط سياسي خشية من أية ردود فعل من النظام النازي.
رغم ذلك ظلت رسالته الأدبية سياسية ملتزمة وهي التنديد بأنظمة الحكم القائمة على الطغيان والقمع وحرمان الشعوب من أبسط قواعد الحرية وحقوق الإنسان الأساسية.
بمعنى آخر جاء رئيس العصابة أرتورو تعبيرا رمزيا عن أدولف هتلر الذي حكم ألمانيا بعد فوزه الديمقراطي في الانتخابات التي جرت عام 1933 ليقلب نظام الحكم عن بكرة أبيه بحيث أصبح نظاما ديكتاتوريا مبنيا على عبادة القائد وسلب المواطنين من كافة حقوفهم المدنية.
وأوحى عنوان المسرحية "صعود أرتورو أوي الممكن إيقافه" بأن الطغيان يصل مهما طال زمنه يوما ما إلى درجة النهاية. وهنا قد يأخذ المحلل على الكاتب نظرته المثالية المبنية على الأمل نظرا لأن الوقائع القائمة تنفي ذلك في الكثير من الحالات.
لا شك أن بريشت كان شاهدا هاما للقرن العشرين الحافل بالتناقضات والصراعات والحروب والثورات، وقد لاحظ بمرارة أن السلطة الحاكمة الضعيفة في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين تآزرت مع رجال المال والصناعة لتسليم الحكم لهتلر وأنصاره الفاشيين.
يمكن أن نترجم هذه المسرحية ذات النمط المجازي إلى الواقع القائم في معظم دول العالم التي يسودها حكم الفرد المستبد أو الطغمة السياسية الفاسدة التي تراعي مصالحها المالية والسلطوية أولا وأخيرا وتنتهك أبسط القواعد والحقوق المدنية الأساسية لشعوبها.
ولا شك أن هذا الحال يسري كذلك وبصورة متزايدة وان اختلفت في درجات القمع والانفلات والبؤس الاجتماعي والتشدد الطائفي على عدد كبير من الدول الشرق أوسطية والعربية تحديدا.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023