لجوء من بؤس مدقع إلى عناء في فردوس منشود
ملحمة أوبرالية حول رحلة جوية ولاجئ إيراني يبحث عبثا عن حياة أفضل: عرضت دار الأوبرا لمدينة بون الواقعة على ضفاف نهر الراين الملحمة الاوبرالية "رحلة جوية" اتسمت بطابعين تراجيدي وكوميدي في آن واحد. وتمركزت الملحمة على مصير رجل إيراني هرب من بلاده بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية العسيرة إلى أوروبا الغربية بحثا عن حياة أفضل. هنا سرد لبعض تفاصيل الملحمة من زاوية اللجوء والهجرة الى أوروبا وتداعياتها المجتمعية والنفسية.
يلتقي العديد من المسافرين ولاجئ "ضائع" ينحدر من بلد واقع في الشرق الأوسط في مطار ما في غرب أوروبا. جميعهم باستثناء اللاجئ لديهم هدف واضح: الإقلاع إلى هدف سياحي أو وظيفي بحثا عن حياة أفضل أو سعيا إلى تجاوز العقبات التي تواجههم سواء في العلاقات الشخصية والعاطفية تحديدا أو فيما يتعلق بالتطلع إلى آفاق المستقبل الوظيفية.
عُرضت هذه الملحمة الأوبرالية الموسيقية في دار الأوبرا لمدينة بون التي كانت عاصمة ألمانيا لمدة عقود أربعة. كتبت نص الملحمة البريطانية المنحدرة من صقلية الإيطالية أبريل دي أنغيليس April de Angelis ولحنها الموسيقار البريطاني جوناثان دوف. وأبدع الممثل ومغني الأوبرا الألماني بنو شاختنر Benno Schachtner في تمثيل دور اللاجئ الغريب على نمط صوتي ناعم يسمى "كاسترات" لا تتقنه سوى قلة ضئيلة من مغني الأوبرا.
عالق في مطار منذ عقدين
يتعين على زوجين المغادرة إلى مينسك عاصمة روسيا البيضاء ليلتحق الزوج الدبلوماسي بالعمل في سفارة بلده ولكنه يجد نفسه مجبرا على المغادرة دون زوجته الحامل التي بقيت في المطار خوفا على حالتها الصحية وخشية من مستقبل غامض ليعود إليها الزوج في صالة المغادرين ومعالم الشوق والحب تهيمن عليه ويقنعها بالذهاب سوية إلى مينسك التي لم يعشقها كلاهما.
يريد زوجان آخران (تينا وبيل) تجديد علاقتهما المتوترة نوعا من خلال قضاء إجازة، وتنتظر سيدة مسنة عبثا وصول صديقها الشاب الذي يبلغ من العمر 30 عاما أصغر منها ويعمل في إحدى حانات جزيرة مايوركا الإسبانية. لا يملك اللاجئ أوراقا صالحة لدخول بلد ما، ولهذا السبب فهو عالق في المطار منذ عقدين من الزمن دون مال أو وثائق رسمية تنم عن هويته. لهذا يتعين عليه أن يستجدي المغادرين والواصلين دوما منحه ولو قلة من الطعام والشراب. لقاء ذلك يمنح اللاجئ كلا منهم ما يسميه الحجر السحري الكفيل بتوفير مستقبل أفضل زاعما لكل منهم بأنه الحجر الوحيد في حوزته. لكن بعضهم يكتشف الحقيقة فيغضبون عليه ويمتنعون عن تقديم المساعدة له. لكنهم سرعان ما يشفقون عليه مجددا بحكم أوضاعه الصحية والنفسية المزرية ويعدونه بتقديم المساعدة المالية الضئيلة وحمايته من ضباط الهجرة الذين كثيرا ما هددوه بالأبعاد لكنهم أشفقوا عليه في آخر المطاف وامتنعوا عن اتخاذ إجراءات رسمية صارمة ضده إدراكا منهم بأن دولا كثيرة أخرى امتنعت عن منحه اللجوء السياسي كما أن موطنه الأصلي رفض عودته إلى البلاد.
خلال المساء يتم إلغاء جميع الرحلات الجوية بسبب عاصفة شديدة وانهمار غزير للأمطار. لكن الأحوال الجوية تتحسن نوعا ما في اليوم التالي فيغادر الكل فيما يبقى اللاجئ وحده في المطار في انتظار مسافرين آخرين يتضرع إليهم ببعض المال أو الأكل لقاء منحهم "وحدهم" ذلك الحجر السحري.
ملحمة حول واقع طالبي اللجوء المأساوي
ترتكز هذه الملحمة الكوميدية والتراجيدية في آن واحد على واقعة مأساوية للمهاجر الإيراني مهران كريمي ناصري Mehran Karimi Nasseri الذي فر من بلاده هربا من الظروف السياسية والاقتصادية العسيرة وسعى لدى عدة بلدان في غرب أوروبا الى منحه صفة اللاجئ السياسي المضطهد. لكن كل محاولاته باءت بالفشل الذريع مما اضطره الى البقاء في صالة الترانزيت في مطار شارلز ديغول في باريس 18 عاما إلى أن لقي حتفه هناك بعد اصابته بسكتة قلبية عن عمر يناهز 77 عاما.
اتسمت هذه الاوبرا الموسيقية بغموض المحتوى وغرابته على نحو يتقارب من أدب الغرابة البعيد عن الواقعية مثل روايات الألماني التشيكي فرانز كافكا او الرواية التي ألفها الأديب الإيرلاندي صامويل بكيت Samuel Barclay Beckett بعنوان "في انتظار غودو". لكن غموض الإخراخ الأوبرالي لا يخفي الواقع المأساوي المر الذي يجتازه مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين الذي هربوا من البؤس المدقع في بلادهم بحثا عن حياة أفضل في الغرب إلا أن أغلبهم عانوا في الفردوس المنشود من أنواع أخرى من البؤس كالحنين إلى ديارهم والتعرض إلى أبشع أنماط العنصرية والكراهية والاضطهاد من قبل غلاة اليمين ومن حدة القيود المفروضة عليهم من الأجهزة البيروقراطية المعنية التي كثيرا ما نظرت إليهم كأرقام لا كبشر يعانون من العديد من المحن والحرمان.
الجدير بالذكر أن الممثل الأمريكي الشهير توم هانكس Tom Hanks مثل الدور البطولي في فيلم عالمي تناول أيضا مأساة هذا اللاجئ الايراني. أخرج الفيلم ستيفين سبيلبيرغ Steven Spielberg الذي حاز على عدة جوائز أوسكار.
عارف حجاج
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
Qantara.de/ar