إبراز لمغموري السينما دون رونقة الظهور ونرجسية الواجهة
فاز بجائزة "الفهد الذهبي" لعام 2016، أي بأعلى جوائز مهرجان الفيلم في لوكارنو السويسرية الفيلم البلغاري "امرأة لا رب لها" للمخرجة رالتسه بيتروفا وفازت بطلة الفيلم أرينا إيفانوفا بجائزة أحسن ممثلة. يدور الفيلم حول فتاة بلغارية تشرف على مرضى مصابين بداء التزهايمر، لكن إشرافها لم يكن من باب الرحمة والإنسانية بل سعيا لمنفعتها الاقتصادية، فقد دفعت صاحبها لبيع البطاقات الشخصية للمرضى في السوق السوداء لجني المزيد من الأموال. ولعت فيما بعد بمريض التحق لاحقا ببيت العجزة وأُغرِمَت بحبه للموسيقى لكن ذلك لم يؤدِّ إلى تحسين مصيرها.
أما الجمهور فقد اختار فيلم المخرج البريطاني كين لواك "أنا المدعى دانيل بلاك": أفضل فيلم عرض في الساحة الرئيسية لمدينة لوكارنو. كان هذا الفيلم قد فاز هذا العام 2016 بجائزة النخلة الذهبية لمهرجان كان.
مصنع لمشاهير السينما
مهرجان لوكارنو في كانتون تسين (تيتشينو بالإيطالية) السويسري الناطق باللغة الإيطالية يكاد يكون القطب المعاكس تماما لمهرجانات أوروبا الأكبر مثل كان وفينيسيا وبرلين التي تجذب كبار نجوم السينما وتعطي اهتماما فائقا لرونقة الظهور ونرجسية الواجهة مما جعل الكثيرين يعتبرونها احتكارا للذين يتمتعون بالشهرة والصيت أو في أضعف الحالات بالثراء والنجاح الاقتصادي والإعلامي.
رغم ذلك فقد استقطبت لوكارنو عددا كبيرا من مشاهير السينما مثل إزابيل أوبير وروجير كورمان وجونان ميكاس وبيل أوغيير. لكنها مازالت تحرص على سمعتها المؤلفة من عنصرين هما:
- الانفتاح نحو الجماهير بمختلف تركيبها الاجتماعي والطبقي
- عرض مئات من الأفلام لمخرجين مغمورين من شتى بلدان العالم خاصة من العالم الثالث وبمواضيع تكون في الأغلب غير تقليدية بل ذات طابع تحديثي سريالي. فيما بعد اشتهر الكثيرون من هؤلاء الفنانين ليصبحوا نجوما سينمائية لامعة.
أهم مهرجان سينمائي لسويسرا
مضى على تأسيس المهرجان 69 عاما وهو أهم مهرجان سينمائي لسويسرا حيث يحتل مرتبة أعلى من مهرجانات أخرى تجرى في زيوريخ ومونترو وفينترتور. سادت المهرجان في هذا العام لأول مرة مظاهر القلق والتحسب الأمني الشديد نتيجة لأحداث الارهاب التي شهدتها وما تزال تشهدها عدة دول أوروبية كفرنسا وألمانيا وبلجيكا، حيث تواجد رجال الشرطة وغيرهم من التابعين للأجهزة الأمنية الأخرى بأسلحتهم الثقيلة والخفيفة في كل أماكن عرض الأفلام التي بلغ عددها كالمعتاد عدة مئات.
عدد الأفلام التي شاركت بالمسابقة الدولية 17 فيلما ضمت بين مخرجيها سبع مخرجات. أحداهن السويسرية الأرجنتينية ميلاغروس مومنتالير التي شاركت هذا العام مجددا بفيلم درامي حول الحكم العسكري في الأرجنتين في غضون السبعينيات وانعكاساته على المجتمع. اسم الفيلم "ذكريات حول بحيرة".
بجانب مختلف اللغات الأصلية للأفلام السينمائية المعروضة احتلت اللغةالانجليزية بطبيعة الحال المركز الرئيسي تليها بنفس الأهمية تقريبا اللغة الفرنسية وهي اللغة الثانية في سويسرا بعدالألمانية وقبل الإيطالية. قد يتساءل القارىء باستغراب لماذا لا تلعب اللغة الإيطالية في كانتون ناطق بالإيطالية سوى دور هامشي لا يذكر، كما أن اللغة الأولى للبلاد أي الألمانية التي يقطنها حوالي 65 بالمائة من السكان لا تلعب أي دور على الإطلاق. الإجابة على ذلك سهلة، ذلك أن سكان الكانتون يدركون بأن الإيطالية ليست بتلك اللغة المنتشرة انتشارا واسعا في العالم، وإن كانت من ناحية أخرى من أجمل لغات العالم كلها. فوقع الاختيار على الفرنسية باعتبارها كالإيطالية لغة "لاتينية" وأكثر انتشارا منها. ولم يقع الاختيار على الألمانية باعتبارها تقع لغويا وحضاريا بعيدا عن التراث اللاتيني الروماني.
الإسلامويون في أوروبا
عرض في المهرجان فيلم فرنسي هو "الجنة في انتظاركم" جاء ملائما للظروف الأمنية الدقيقة التي تجتازها أوروبا تحت وطأة الأعمال الإرهابية لتنظيم "داعش". أظهر الفيلم حقيقة يجهلها الكثيرون سواء في أوروبا أو حتى في العالم الإسلامي وهي أن داعش نجح في تجنيد أنصار لها في أوروبا ليس فقط في صفوف المواطنين المنحدرين من أصول عربية أو أفغانية أو تركية وإنما داخل أوساط الأوروبيين أنفسهم بالمفهوم "البيولوجي"، أي الألمان والفرنسيين أوالبريطانيين الذين ينتمون لفئات اجتماعية متوسطة على الأقل. لكن إحساسهم بكونهم من "الخاسرين" أو فاقدي االآفاق المستقبلية بالمفهوم الانتمائي لا الاقتصادي جعلهم يصبحون غنيمة سهلة في يد الإسلامويين. أما خلفيتهم حول الديانة والثقافة الاسلامية فهي شبه معدومة.
المدير (الإيطالي) لمهرجان لوكارنو كارلو كاتريان لم يخلف وعده بأن برنامج هذا العام لن يقتصر على العروض الغريبة السريالية، بل سيتضمن بجانب الدراما عروضا خفيفة مرحة. كما أنه شدد على أن أفلام هذا العام لن تكون كما في السنوات الماضية طويلة أكثر من تحمل المتفرجين.
بطبيعة الحال فإنه لم يوفِ بوعده بصورة مطلقة في هذا السياق فبعض الأفلام المشاركة بالمسابقة أو المعروضة بالمهرجان استغرقت ثلاث ساعات أو أكثر كالفيلم البرتغالي "المراسلات" الذي يصلح كتابا أدبيا أكثر منه فيلما سينمائيا، والفيلم الياباني الفرنسي التايلاندي "ليالي بانكوك"، والفيلم الهندي الذي عرض في الساحة الرئيسية "موهينيو دارو".
الساحة الرئيسية للمدينة تتسع لأكثر من 3000 متفرج
قمة فعاليات لوكارنو تتضمن أفلاما لا تشارك بالمسابقة إلا أنها تعرض مساء في الساحة الرئيسية للمدينة التي تتسع لأكثر من 3000 متفرج. كثيرا ما يقال إنه لولا عروض الساحة لما اتسم المهرجان بهذه الشهرة العالمية الفائقة، حيث أن الساحة تجسد الهوية المختلطة لكانتون تسين الواقع في جبال الألب السويسرية ولكن بثقافة ونمط حياة شبيهة بحوض البحر المتوسط اللاتيني.
عرضت الدولة المضيفة عددا كبيرا من الأفلام والأفلام الوثائقية ولوحظ بأن إنتاج سويسرا الفرنسية كان له زخم أكبر كثيرا من المنطقتين اللغويتين الأخريين أي من سويسرا الألمانية (65 بالمائة من مجموع السكان) وسويسرا الإيطالية (8 بالمائة). أبرز أفلام سويسرا الفرنسية فيلم "تلقين اليهودي درسا" وهي قصة حقيقية حول ثري يهودي قام غلاة اليمين بقتله وتشريح جسده أثناء الحرب العالمية الثانية، لا لسبب إلا بحكم ولائهم لـ "الفوهرر" هتلر. وقد أثار هذا الفيلم حنق سكان القرية التي وقع فيها الحادث حقيقة في العهد النازي ولم يقتصر هذا الغضب على سكان القرية وحدها. أما الجمهور فقد أعجب كثيرا بالفيلم خاصة بالممثل برونو غانس الذي تبوأ دور البطولة فيه وهو أحد أشهر ممثلي سويسرا.
فيلم "ماريا" بإنتاج ألمانيا وسويسرا للمخرج الشاب ميشائيل كوخ يروي قصة فتاة أوكرانية نزحت إلى منطقة الرور في ألمانيا بحثا عن حياة أفضل إلا أنها انزلقت إلى مستنقع تسوده الجريمة والفساد الاجتماعي دون أن يجعلها ذلك تفقد كرامتها واستقلالية شخصيتها الأمر الذي جعلها في آخر المطاف تنجح في تحقيق أهدافها المعيشية والإنسانية.
من تقاليد مهرجان لوكارنو تقديم أفلام وثائقية عن شخصيات سويسرية أو دولية بارزة في مختلف المجالات. في هذا العام تناول الفيلم الوثائقي دور الأستاذ الجامعي والناشط في حقوق الإنسان جان تسيغلر المنحدر من سويسرا الألمانية والمقيم منذ عدة عقود في جنيف التابعة للمنطقة الفرنسية من سويسرا. لعل هذه الرجل أحد أهم الناشطين في العالم في حقول الدفاع عن حقوق الإنسان، لا النظري فحسب بل الميداني خاصة.
فقد كرس حياته لخدمة الضعفاء في أمريكا اللاتينية وفلسطين وأفريقيا. وعلى الرغم من انهيار الاتحادالسوفيتي فإن تسيغلر ما زال يعمل رائدا فيما يعتبره كفاحا ثوريا من أجل الاشتراكية والتغلب على الرأسمالية. هذا ولم يُخْفِ الفيلم الثغرة الكبيرة الكامنة بين نوايا هذه الشخصية المثالية وبين الوقائع الحية المغايرة كثيرا لها، لا سيما بعد تغلغل الليبرالية الجديدة في معظم دول العالم بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة. وكان المهرجان قدعرض عام 2014 فيلما عن الملياردير السويسري كريستوف بلوخر الذي يشكل فكريا واجتماعيا وأيديولوجيا النقيض المطلق لأفكار تسيغلر.
شاركت ألمانيا بالمسابقة الدولية بفيلمين أحدهما "ماريا"الذي سبقت الإشارة إليه وفيلم آخر يسمى "طريق بمثابة الحلم الرائع" حول الحب والحيرة في اتخاذ القرار المناسب. لكن هذين الفيلمين لم يكن لهما نصيب في حيازة أي جائزة.
على هامش المسابقة عرضت مجموعة كبيرة من الأفلام الألمانية المنتجة في خمسينيات القرن الماضي بالأبيض أسود مثل "الشباب الأشقياء" للمخرج رودولف فيرنر و"المحطة الأخيرة تسمى الحب" للمخرج غيورغ تريسلر و"المنضدة الذهبية" للمخرج هربيرت زيغلكه و"أناس في المعمل" للمخرج غيرهارد لمبرشت و"البرج الزجاجي" للمخرج هارلد براون.
فيلم "المراسلات" البرتغالي الذي سبقت الإشارة إليه لم ينل أي جائزة في المسابقة الدولية لكنه لقي في الإعلام السويسري والأوروبي عامة صدى إيجابيا كبيرا إلا أنه لم ينل إعجاب الجمهور لكونه يستغرق ثلاث ساعات تضمنت في أغلبيتها الكبرى نصوص تبادل وتلاوة الرسائل وافتقدت لعنصر الإثارة والحوار السينمائي.
انتقد البعض المدير الفني للمهرجان كارلو كاتريان لاختياره هذا الفيلم وأمثاله ولكن حجته هي أن الفن يتطلب الاختبار وينأى عن الجمود التقليدي. هذا محق من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن التوجه الطليعي تبعا لتيار أفاندغارد قد يعني الانزلاق إلى العدمية وتفاهة العرض.
كما رأينا في عدة أفلام مثل الفيلم الأرجنتيني "المستقبل الباهر" الذي تناول بمحض سطحية الحياة اليومية لمهاجرة صينية ذكية ومهاجر هندي بارع في اختلاق مهنته وخلفيته المالية والعائلية إلى الأرجنتين، دون أن يتعرض إطلاقا للتجارب الأكثر عمقا التي قد يكونا قد مرا بها بشأن الغربة كالحياة في غيتو بعيداً عن مجتمع الأغلبية أوالنجاح في الاندماج في هذا المجتمع الجديد.
أما الفيلم الأرجنتيني الأمريكي "هيرميا وهيلينا" الذي يروي مشروع ترجمة حديثة لعمل شيكسبير "ليلة في منتصف الصيف" إلى الإسبانية فقد كان شيقا وممتعا وحافلا بحوار عميق. الفيلم يعرض الدوامة القائمة في أحيان كثيرة بين الطموح بعيد الأفق والحنين إلى "العش" الوطني والمنزلي، بين الرغبات والقدرات، بين الأمل وأرضية الواقع.
فيلم أرجنتيني آخر "ذكريات حول بحيرة" طرح بحساسية وبعيدا عن روح الانفعال أو الرغبة في الانتقام مصير عائلة من الطبقة الوسطى عانت الأمرين من تداعيات استيلاء الجيش على السلطة في السبعينيات:
أفلام مصرية وعربية في سويسرا
عاد الفيلم المصري إلى لوكارنو بعد انقطاع دام عدة سنوات بفيلمين أحدهما "الماء والخضرة والوجه الحسن" للمخرج يسري نصر الله الذي سبق له أن شارك في هذا المهرجان، وفيلم ثان "أخضر يابس" للمخرج والمؤلف محمد حمد.
الفيلم الأول ميلودرامي يروي حكاية عائلة من البورجوازية الصغيرة نجحت في إنشاء مطعم كبير لمد حفلات العرس وغيرها بالأطعمة والمشروبات، لكنها اصطدمت بتداعيات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر مما جعلها تجبر على بيع هذا المشروع التجاري المدر بالأرباح لرجل أعمال ليس ثرياً فحسب بل ينتمي إلى أوساط اجتماعية أعلى ويتمتع باتصالات على مختلف المستويات مع صانعي القرار.
جمهور المهرجان أعجب كثيرا بالفيلم مما اقتضى عرضه لمرات أكثر. أما فيلم "أخضر ويابس" فإنه يروي قصة أو تحديدا دراما أختين فقدتا الأب والأخ الوحيد تجتازان محنة مالية ولكن هذا لم يسلبهما لا سيما في حالة الأخت الأكبر الوعي بالكرامة الشخصية واحترام الذات. عامل أقرباء الأختين كُلاً منهما بقسوة لكون الأخت الصغيرة رفضت الانصياع لتقاليد فرض الزوج على الفتاة، وشاءت أن تختار زوجها وفقا لرغبتها وإرادتها. تقبلت الأخت الأكبر هذا القرار على مضض وظلت في دوامة بين خياري التقاليد المتزمتة ومتطالبات العصر الحديث.
عرضت في المهرجان أربعة افلام عربية أخرى من بينها فيلم لبناني قصير "بحبال الهوا" والفيلم التونسي "زينب تكره الثلج".
عارف حجاج
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016