عمر كوش: تعقيباً على برهان غليون..عن الاستعصاء العربي حيال الديموقراطية
خلص الدكتور برهان غليون، في مقاله "الخصوصية العربية وفشل التحولات الديمقراطية" إلى أن "الخصوصية العربية الوحيدة في ميدان الانتقال الديمقراطي في البلاد العربية، إذا أردنا بالفعل الحديث عن خصوصية، تكمن في الإجهاض المنهجي لمشاريع الانعتاق والتحرّر والتحديث، السياسية وغير السياسية، وتفريغها من مضمونها، سواء حصل ذلك بالتدخل العسكري المباشر، أو بالامتناع عن دعم الحركات الديمقراطية والشعبية، أو بتشويه صورة ما يحصل منها وإدراجها جميعاً في دائرة الهبّات السلبية الطائفية أو الدينية أو القومية أو الإثنية".
يكتب غليون ذلك في معرض رده على باحثين استعادوا نظرية الاستثناء العربي القديمة حيال الديمقراطية، في حلّة جديدة، كما يقول، وذلك في سياق محاولتهم تفسير "فشل ثورات الربيع العربي الشعبية"، في إنجاز التحول الديمقراطي المنشود، محيلين ذلك إلى "الطابع الخاص للمجتمعات العربية، التي تبدو متشبثة أكثر من غيرها بالإرث الثقافي والديني الذي لا تريد الانفصال عنه".
غير أن ذلك لا يبرّر القول إن الخصوصية العربية الوحيدة في ميدان الانتقال الديمقراطي تكمن في الإجهاض المنهجي لمشاريع الانعتاق والتحرّر، عبر التدخلات الخارجية، العسكرية وغير العسكرية، مع أنه لا يمكن إنكار دور القوى الدولية والإقليمية في التأثير على مجريات الأحداث التي جرت في بلدان الثورات العربية، ولكن ليس بوصفه العامل الحاسم أو الوحيد، إذ هناك جملة عوامل داخلية وخارجية فعلت فعلها، في حين أن اعتبار التدخلات الخارجية هي التي أجهضت الثورات العربية، فإن هذا القول يعيدنا إلى الظنّ بأننا، نحن العرب، مستهدفون دائماً من خارجٍ يتربص بنا، ويتآمر علينا، ويعفينا من تحمّل أي مسؤولية أو أخطاء ارتكبناها في سياق الانتقال الديمقراطي.
ولعل الإطلاقية هنا، والتعميم، يفضيان إلى التنصل من مراجعة الذات ونقد الأخطاء وتعلّم الدروس، لأن كل "مشاريع الانعتاق والتحرّر والتحديث، السياسية وغير السياسية"، تقف بوجهها قوى الإجهاض الخارجية، التي تتآمر علينا طوال تاريخنا الحديث، لذلك لا طائل من حراكنا المجتمعي للخلاص من الاستبداد والتحول نحو التعددية والديمقراطية، طالما سيواجه بقوى إعاقة ومضادة عالمية، لا قدرة لنا على مواجهتها، وبالتالي ما علينا إلا أن نيأس ونستسلم، ونركن إلى الخنوع.
خطر التنصل من مراجعة الذات ونقد الأخطاء وتعلّم الدروس
يأتي ما كتبه غليون، المفكر والباحث، في سياق استدعاء الثورات العربية دراسات وأبحاث ومؤلفات عديدة، نظراً إلى أن المتغيرات التي حملتها تمثل تحولات كبرى في تاريخ المجتمعات العربية المعاصر، وسطّرت مرحلة جديدة، بدأت بالتشكل منذ قيام الثورة التونسية، ولم تهدأ رياحها بعد.
وستشكل مادة تفكّر وبحث ودراسة لسنوات عديدة لدى مفكرين وباحثين ودارسين كثيرين، بغية معرفة أسبابها وظروفها وسيروراتها، وتبيان مواطن قوتها وضعفها، ودراسة أبعادها وأساليبها وتداعياتها وإرهاصاتها، وتدوين أدقّ تفاصيلها، وخصوصا مكوناتها وفعالياتها وشعاراتها وأغانيها، والحفر في عوامل نجاحها وإخفاقها وسوى ذلك كثير.
وفيما تتواتر التحليلات والدراسات إلى إيجاد معادل مفهومي، وتأطير نظري، لما جرى في ثورات تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن وغيرها، فإن تعجلا وقصورا كثيريْن أصابا قسماً منها، نظراً لصدورها عن منهج التفكير القديم نفسه، والعدة البحثية أو الدراسية القديمة نفسها، بينما تتطلب الثورات منهج تفكير جديدا، وعدّة معرفية جديدة، نظراً إلى جدّتها وفرادتها، حيث لم يشهد تاريخ البلدان العربية الحديث، من قبل، ثوراتٍ شعبيةً بهذا الزخم والفرادة، وبالتالي لا تمكن معالجة المتغيرات والأوضاع الجديدة بأداوت وطرق تفكير قديمة، يسيطر عليها منطق الإسقاط والمقايسة المحكوم بالأدلجة.
والقول بوجود استثنائية عربية حيال الديمقراطية يجد ماهيته ومركباته وحمولاته في تلك الأسئلة التي نعثر على مرجعيتها الفكرية، فيما طرحه قسطنطين زريق وياسين الحافظ وإلياس مرقص وصادق جلال العظم وسواهم ممن انحازوا إلى الخيار الديمقراطي. وخصص عزمي بشارة، كتابه "في المسألة العربية" (بيروت 2007) للبحث في هذه الإشكالية، حيث أكد، في أكثر من مناسبة، على وجود استثنائية عربية وليس إسلامية، حين يتعلق الأمر بالانتقال إلى الديمقراطية، إذ الخصوصية عربية، ولذلك وضع عنواناً فرعياً لكتابه، هو "مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، وفي ذلك دلالات وإشارات واضحة.
والغريب أن غليون لم يفطن إلى أن من أولى ثمرات الثورات العربية، في كل من تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، هي سقوط المقاربة الثقافوية التي سوقتها، عقودا عديدة، أوساط فكرية وثقافية غربية، ورددتها بعض الأوساط الفكرية والثقافية العربية، بعد أن أشاعت أفكاراً ونظرياتٍ وأطروحات، أجمعت على أن المجتمعات العربية تمتلك خصائص وطباعا معينة وثابتة، تجعلها مختلفةً عن جميع المجتمعات البشرية الأخرى، وأن للشعوب العربية قوانين تغيّر وتطور، لا تشارك بها قوانين التغير والتطور المطبقة على الشعوب الأخرى، وأطلقت هذه الأطروحات والآراء ما كان يسمى "الاستثناء العربي"، أو الاستعصاء العربي حيال الديمقراطية.
سقوط المقولات الثقافوية
غير أن ما جرى في المجتمعات العربية، بعد نهاية العام 2010، ضرب عرض الحائط جملة المقولات الثقافوية والماهوية والجوهرانية التي نهضت على تلك الخصوصيات الدينية والثقافية، وأسالت حبراً كثيراً في الكتابة عن الاستعصاء العربي حيال الديمقراطية والحرية وممانعة الحداثة، وعن الخنوع والذل، بل والرضا العربي بالاستبداد والمستبدين، والاستئناس بالظلم والظالمين.
وقد فاجأت ثورات الشعوب العربية، وليس الربيع العربي كما يعتمدها غليون، أصحاب المقاربة الثقافوية، فكان معظمهم متحفزاً ومستفزاً من تحول الحركات الاحتجاجية إلى ثورات مدنية، سلمية وعارمة، تفضي إلى نهاية النظام القمعي والتسلطي الذي بني منذ عقود عديدة. لذلك كان بعضهم مندهشاً مما حدث، ومستاء لسقوط معتقداته وأفكاره التي عممت صورة للإنسان العربي، بوصفه كائناً دينياً، ماضوياً وتقليدياً، وممانعاً للحداثة وقيمها.
ولم ينتبه أصحاب المقاربة الثقافوية إلى ما يختزنه الواقع المعاش في البلدان العربية من مشاعر ومكنونات وطاقات، مع أنها كانت تتفجر على مرأى من عيونهم في أشكال مختلفة من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي قمع في أكثر من مناسبة، وكان يتمخض، في كل مرّة، عن أزمة عاصفة، تثبت وجود قوى حيّة، تنشد التغيير نحو الأفضل.
لكن القمع كان أكبر، ومع قمع الحراك الاحتجاجي كان التسلط يزداد والظلم يكثر. كما لم يكُن عالم المقاربات الماهوية يفتقد إلى المنهجية اللازمة، لكن النظرة الثقافوية والعنصرية كانت الغالبة، وكانت تحجب مفاعيل حراك الإنسان في بلداننا العربية ومسبباته، الأمر الذي كشف عن مشكلة إيديولوجية تحجب إمكانية معرفة القوى التي كانت ترفض التغيير والإصلاح، وتحاول الالتفاف على المطالب الشعبية مع كل أزمة وعاصفة تغيير.
المؤسف أن غليون لم يناقش الحجة الإشكالية التي بنى عليها أصحاب نظرية الخصوصية العربية، وهي "انتشار الحركات السلفية والإسلاموية الواسع، وانتزاعها القيادة في الثورات العربية"، وخصوصا في مصر وسورية وليبيا وتونس واليمن، والتي استلهمها "أنصار الاستبدادين، الديني والسياسي"، كي يبرّروا حرمان مواطني مجتمعاتنا العربية من حقهم في التخلص من الاستبداد وبناء مجتمعات ديمقراطية وتعددية، إنما اعتبرها "جزءاً من ثقافة جديدة، هي ثقافة الرد على حالة التهميش والإقصاء والعنصرية التي تعيشها الأغلبية الساحقة من الكتل الشعبية المنتزعة من أي هويةٍ وثقافةٍ، وهي ثقافةٌ مختلفةٌ تماماً تعبر عن ميولٍ وتوجهاتٍ ومخاوف وتناقضاتٍ وتطلعاتٍ واختناقاتٍ نشأت في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية القائمة في حضن المجتمعات بعد، وبسبب إجهاض محاولاتها الرائدة للانعتاق منذ قرنين. وهي ما أسمّيها ثقافة الضد أو الثقافة المضادة أو مقلوب الثقافة".
وإن كان غليون مصيباً في القول إن الثقافة، وخصوصا في عالمنا الراهن، " ليست مطابقة للإرث الثقافي"، وأن "مظاهر تشبث المجتمعات العربية بالإرث الثقافي والديني القديم ليس لها علاقة بهذا الإرث نفسه"، فإن على التناول النقدي لهذا الإرث، الثقافي والديني إدراك أن الإسلام الذي يعدّ ميراث العرب وسندهم التاريخي هو أيضاً، بوصفه ديناً يعتنقه المسلمون المؤمنون من مختلف الفئات والانتماءات، حولته حركات الإسلام السياسي إلى إيديولوجيا سياسية، في سعيها إلى توظيف الدين من أجل الوصول إلى السلطة، والتي تعتبر الإسلام استثناءً، وتضعه فوق القواعد العامة والقوانين الموضوعية، وذلك بهدف التلاعب بالدين لأغراض الدنيا ومصالحها، وهو الذي قامت بعمليات واسعة لتوظيفه، بغية إضفاء الشرعية على السلطات السياسية، وتسويغ مطامحها الدنيوية.
ويجد غليون بحق أنه، في الحالة السورية، جرت عمليات "محو الصورة المدنية والسياسية تماما للثورة"، لكنه لا يشير إلى قوى الداخل التي عملت على ذلك، وخصوصا قوى الإسلام السياسي وحركاته التي لعبت دوراً كبيراً في حرف الثورة السورية عن مسارها وأهدافها، وكانت السباقة إلى عسكرة الثورة، وإلى الهيمنة على تشكيلات المعارضة العسكرية وكياناتها السياسية، وحاولت الدفع باتجاه صبغ الثورة بصبغة إسلامية، حتى أنها روّجت مقولة "أسلمة الثورة" المزيفة، على الرغم من أن الثورة السورية كانت ثورة وطنية بامتياز في بداياتها، ورفعت شعارات سياسية واجتماعية مختلفة، ولم ترفع أي راية أو شعار ديني أو مذهبي أو قومي.
"تحتكر حركات الإسلام السياسي مفهوم الدين الذي تحصره بالإسلام الأول أو المبكر"
ويدفعنا ذلك إلى طرح أسئلةٍ بشأن ممكنات العيش المشترك في مجتمعاتنا، وما يفرضه من تحدياتٍ كبيرة على الفكر الإسلامي السائد، وعلى سائر الحركات السياسية الإسلامية، إذ تصطدم قيم التعايش بين مواطني المجتمعات العربية بمعيقات فكرية وسياسية واجتماعية وحقوقية، لعل أهمها القطيعة السياسية والمعرفية المزدوجة التي تتجسّد، في شقها الأول، ما بين أفكار الإسلام الحركي السياسي وأطروحاته، وبين منظومة وقيم الاجتماع السياسي المعاصر والبنى السياسية والمؤسساتية والحقوقية للدولة والمجتمع. ويمتد الأمر إلى شق القطيعة الثاني الكائن ما بين الفكر السياسي لحركات الإسلام السياسي، وخصوصا العنفية منها أو بالأحرى العدمية، وقيم العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة ومنظومتها، وما ينشأ عن ذلك من تناقضاتٍ ومماحكاتٍ تفضي إلى فكر ميتافيزيقي، غيبي واستئثاري، ينهض على الإلغاء والإقصاء، حيث تحتكر حركات الإسلام السياسي، عموماً، مفهوم الدين الذي تحصره بالإسلام الأول أو المبكر، إسلام الرسول والصحابة، وتحتكر كذلك مفهوم الأمة، وتحصره بالمسلمين، السنّة أو في الشيعة، وتجعله شاملاً لكل السنة أو كل الشيعة، مع العلم أن واقع الحال يكشف أن السنّة ليسوا كلاً موحداً ولا الشيعة كذلك.
كما أن المسلمين ليسوا كلاً واحداً، بل نتاج شروطهم وظروفهم وتكوينهم المجتمعي، ولا ينتمون بأي شكل إلى السنية السياسية أو الشيعية السياسية، وغالبيتهم ليسوا إسلاميين بالمعنيين، السياسي والديني. يضاف إلى أن الإسلاميين يقفزون دوماً على مفهوم الوطن والمواطنة والدولة، من خلال تبنيهم مفهوم بلاد الإسلام، والأمة الإسلامية الواحدة، إذ لا يقرّ الإسلامي السوري مثلاً بسورية وطناً نهائياً له، ويشعر بالقرب والتحبب نحو أي إسلامي آخر في تركيا أو ماليزيا أو الشيشان أو سواها، ويعتبره أخاه في الدين والأمة، بينما ينفر من السوري الآخر غير الإسلامي، ولا يعتبره مواطناً أو أخاً له في الوطن نفسه أو الدولة نفسها. ومن هنا، ينشأ مفهوم الإقصاء والاجتثاث الذي يشكل الخلفية لمفهوم القتل والإبادة لغير المسلمين بالنسبة لحركات الإسلام السياسي العنفية، ويؤسس كذلك للتمييز بين المسلمين وسواهم الذين تتناثر تسمياتهم ما بين أهل الكتاب والذميين وبين الأكثرية المذهبية الدينية والأقلية، وما ينتج عنها من إرهاصاتٍ وتحدياتٍ تهدّد ممكنات العيش المشترك في الدولة والوطن. وبالتالي، من الطبيعي على من يحمل أطروحات وقيما كهذه أن لا يصدر عنه خطاب وطني ديمقراطي شامل لكل السوريين، الأمر الذي أثر بدوره على كل تشكيلات المعارضة السياسية، بالنظر إلى هيمنة المنخرطين في حركات الإسلام السياسي عليها.
[embed:render:embedded:node:20894]
وأظهرت التجربة السورية، خلال سنوات الثورة وامتدادات الحروب الإقليمية والدولية فيها، أن الإسلاميين ركبوا موجة الثورات، وركب معهم عديدون من شخصيات المعارضة من مختلف الانتماءات اليسارية والقومية، ولم يشاركوا بفعالية فيها، لكنهم انخرطوا فيها كي يتصدّروا المشهد السياسي المعارض، فساهموا في سلبها من أصحابها، وحرفوها عن مسارها الوطني العام. حدث ذلك أيضاً مع الإسلاميين في مصر الذين ظنوا أن كل من عارض نظام حسني مبارك مريد لهم، فاحتكروا السلطة حين وصلوا إليها، وأقصوا سائر القوى الوطنية التي شاركت في الثورة المصرية.
ولم يناقش غليون الأسباب والعوامل الداخلية الذاتية المرتبطة بظروف الثورة وبالتشكيلات السياسية التي وضعت نفسها في موقع تمثيل الثورة والدفاع عنها، ذلك أن التحول الديمقراطي، كما يكتب عزمي بشارة في كتابه المذكور آنفاً، لا يمكن أن يرى النور "من دون مشروع سياسي وطني، وأجندة ديمقراطية وطنية، ومن دون ديمقراطيين ينتظمون لطرح مشروعهم الديمقراطي وتصورهم لمستقبل كل بلد". لذا حذر من الاعتماد على تحوّل ديمقراطي من دون ديمقراطيين، ومن دون عمل ديمقراطي، ومن دون حاجةٍ لأن ينظم الديمقراطيون أنفسهم، ذلك أن امتحان القوى الديمقراطية هو في تنظيم نفسها، وطرح برنامج ديمقراطي لإدارة البلد الذي يعيشون فيه، من دون التخلي عن الأجندات الوطنية".
وبالفعل، كان ذلك هو التحدي الأكبر للمعارضة السورية في مختلف تشكيلاتها السياسية، وكان غليون فاعلاً فيها، إذ إنها أثبتت عجزها عن طرح بديل ديمقرطي، والأهم أنها لم تكُن ديمقراطية بالمعنى المعروف للكلمة، إذ بينت تجاربها عدم تمكّنها من طرح مشروع ديمقراطي بديل وجامع لكل السوريين، بل أصابت معظم أفرادها أمراض الاستبداد نفسها، المتمثلة في الممارسات الفردية في اتخاذ القرار، وعدم الاستناد إلى العمل الجماعي، فضلاً عن الفساد الذي لعبه المال السياسي في أوساطها.
وعندما تشكلت الهيئات والتشكيلات السياسية السورية للمعارضة، كانت القوى والحركات الإسلامية سباقةً في الانخراط بقوة فيها، بدءاً من المجلس الوطني السوري الذي هيمنت عليه، وصولاً إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وانتهاء بالهيئة العليا للتفاوض. وفي كل هذه الكيانات، كان الإسلاميون يمارسون مختلف أنواع الهيمنة والاستحواذ، وكانت جماعة الإخوان المسلمين، إلى جانب رصيفاتها الأخريات، تسعى إلى الهيمنة على مختلف الفصائل العسكرية، مستفيدة من مصادر دعم مالية عديدة إقليمية ودولية.
وراح إسلاميون كثيرون يرددون أن الثورة السورية هي امتداد لثورة ثمانينيات القرن المنصرم التي قام بها الإخوان المسلمون، على الرغم من أنها لم ترتق إلى مصاف الثورة بالمعنى الحقيقي للثورة، وذهب الأمر بهم إلى حدّ إطلاق اسم غزوة "إبراهيم اليوسف" على ما سميت معركة فك الحصار عن حلب، وسبق لهم أن أطلقوا اسم مروان حديد وسواه على "غزواتٍ" أخرى.
ولا يختلف الإخوان المسلمون عن حركات السلفية الجهادية، من جهة اعتبار أن الوصول إلى الحكم هو الطريق الوحيد لإشادة الدولة الإسلامية، على الرغم من التطور الظاهري في رؤيتهم لكيفية الوصول إلى السلطة، من العنف العاري إلى ممارسة السياسة، لكن معظم حركات الإسلام السياسي ترفض الديمقراطية بالمعنى الحديث، ولا تقبل بقواعد اللعبة السياسية وفق صيغها المتجسدة عالمياً.
ودفعت المتغيرات التي طاولت مسار الثورة السورية إلى الواجهة، جملة إشكاليات أثارها تحكّم تنظيمي "دولة العراق وبلاد الشام" و"جبهة النصرة" وسواهما من الفصائل الإسلامية المتشدّدة بإدارة بعض المناطق، وسعي قادتهما إلى إقامة خلافات ودويلات وإمارات "إسلامية" في المناطق التي كانت تحت سيطرتهم العسكرية. وقوبلت بالرفض من غالبية السوريين، وخصوصا سكان تلك المناطق الذين رفضوا مثل هذه الخطوات، البعيدة عن طموحات ومطالب الشعب السوري، الذي خرج في ثورة شعبية على الاستبداد وطلباً للحرية. لذلك من الطبيعي أن ترفض غالبية السوريين كل ما كانت تقوم به تلك الفصائل التي استغلت فراغ القوة الحاصل بعد انحسار سلطة النظام الأسدي المجرم، كي تحتل الفضاء العام، وتصادر الحرية التي خرج من أجلها الثوار السوريون، وتحولت إلى سلطة استبداد جديدة، حاولت احتلال الحيّز العام الذي كانت تحتله سلطة الاستبداد الأسدي، وراحت تقوم بأفعالٍ وممارساتٍ لا تليق بثورة السوريين، حتى باتت تعيث فساداً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بدلاً من أن تنخرط في حركة المقاومة الشعبية، وتكون عوناً لها. وعليه، يتحمل هؤلاء قسطاً كبيراً من المسؤولية في حرف الثورة السورية وإفشالها وتحويلها إلى صراع مسلح. ومن نافل القول إغفال الحديث عن دور نظام الأسد الأجرامي في كل ما لحق بالسوريين وبسورية، ودور الدول الإقليمية والدولية، شريطة أن لا يجعلنا ذلك نشيح النظر عن كل ما قامت به قوى الداخل أيضاً، وأن ننظر إلى الصورة من مختلف جوانبها.
عمر كوش
حقوق النشر: عمر كوش 2018
موقع قنطرة ينشر المقال بالاتفاق مع الكاتب.