نقاش في أسباب استعصاء الديموقراطية ماجد كيالي
في تفحّص أسباب «الاستثناء العربيّ»، أو الاستعصاء الديموقراطي عربياً، تركّز بعض الدراسات على دور العوامل الثقافية – «الدينية»، كما تركز دراسات أخرى على «غياب المجتمع المدني». وطبعاً ثمة دراسات تحيل الأمر على تأثير «الدولة الريعية» التي تقدّم الخدمات والرعاية لمواطنيها، ولا تفرض الضرائب عليهم مقابل الولاء وعدم التمثيل، ما يعيق تقدم الديموقراطية، كما ثمة دراسات تتحدث عن تأثير البعد عن محيط جغرافي ديموقراطي، أو أثر القوى الإقليمية والدوليّة في إعاقة الديموقراطية.
الملاحظة الأساسية هنا أن معظم هذه التفسيرات أغفلت طبيعة الدولة، التي غدت سلطة أكثر من كونها دولة، أو على حساب كونها دولة، عن قصد أو من دونه، واحتلال هذه السلطة المجال العام (السياسة والإعلام والتعليم والخدمات وحتى توظيف المجال الديني)، وليس فقط وظائف الدولة، أو وظائفها الأمنية والسياسية، إلى حد اعتبارها الدولة ملكًا خاصًا لها، واعتبار البلد «عزبة» تتوارثها، ما يفسر الحرب الوجودية، لا السياسية، التي تشنها ضد ما يفترض أنه شعبها.
هكذا، ثمة ثلاث مشاكل أساسية تقف وراء إعاقة الديموقراطية. المشكلة الأولى، وهي تكمن في أن الدولة، في العالم العربي، مازالت تبدو كأنها طارئة على الثقافة والسياسة والمجتمع، حيث ينظر إليها، في الغالب، كمعطى خارجي، باعتبارها وليدة التجربة الاستعمارية (وتالياً الاستقلالية)، أي نتيجة الاحتكاك بالغرب، بمعنى أنها لم تأت كنتاج للتطور السياسي الذاتي، ولا نتاجاً للنهوض الاقتصادي وتوحيد السوق (كما حصل في أوروبا)، ولا نتيجة لتطور البنى الاجتماعية في البلدان العربية. ويستنتج من ذلك أن الدولة نشأت عندنا مأزومة من ناحية تاريخية، ومن ناحيتي الشرعية والتمثيل، ما يفسّر، بين أسباب أخرى، الغربة بين السلطات القائمة ومجتمعاتها، سيما أنها نشأت في الأغلب على حاملين: الجيش أو القبيلة.
المشكلة الثانية تكمن في أن السلطات (العسكرية أو القبلية) التي حكمت قوضت بنى الدولة الوليدة، أو وظفتها لمصلحة ترسّخ سلطتها، ولم تشتغل على صهر المجتمعات، على أساس المواطنة. وبالمحصلة فإن الدولة ـ الأمة لم تقم بعد في العالم العربي، وهذا قبل الديموقراطية، أي أن السبب الرئيس لإعاقة الديموقراطية عندنا يكمن في غياب الدولة، بما هي دولة مؤسسات وقانون، كما في غياب المجتمع، المتكون من مواطنين، أفراداً وأحراراً ومتساوين ومستقلين، ومن دون إدراك هذين لا يمكن الحديث عن دولة أو مواطنين وتالياً عن ديموقراطية.
معلوم أن تقارير «التنمية الإنسانية العربية» المتميزة، وكانت صدرت في أربعة أجزاء في العقد الماضي، انتقدت الواقع العربي بجرأة، مؤكدة أنه يعاني من أربعة نواقص: نقص الحرية ونقص التنمية ونقص تمكين المرأة ونقص التعليم، وتحدثت عن حاجته للحكم الرشيد، أو لإصلاح نظام الحكم، لتلافي هذا النقص، إلا أنها لم تأخذ في اعتبارها مبدأين مؤسسين، أولهما هو النقص في الدولة، وثانيهما النقص في المواطنة، لأسباب معروفة، وهو الأمر الذي يغيب عن كثيرين أو يتجاهلونه.
المشكلة الثالثة، وهي تتعلق بافتقاد التجربة العربية المسارات التي اختبرتها التجربة الأوروبية، في وصولها إلى الديموقراطية، حيث عرفت نوعا من التحقيب التدريجي للأفكار والثورات أو النقلات الثقافية والسياسية، إذ جاءت حركات الإصلاح الديني والنزعة العلمانية، أولاً (في القرن السادس عشر)، في مواجهة الملكيات المطلقة، ثم جاءت حقبة العقلانية، متلازمة مع الليبرالية، مع ديكارت وكانط وهيغل، ومع لوك وروسو وستيوارت مل (بين القرن السابع عشر والتاسع عشر)، وصولاً إلى حقبة الدولة الديموقراطية الليبرالية، التي بدأت ملامحها في الظهور مع أواخر القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين. ولعل هذا التحقيب للثورات، ومضامينها الفكرية، يفسّر عدم التعارض بين العلمانية والليبرالية، أو بين الليبرالية والديموقراطية، في التجربتين الأوروبية والأميركية، حيث جرى تضمين العلمانية في الليبرالية، وتحقق التلازم بين الليبرالية كنظرية في الحرية الفردية، وإعلاء شأن الإنسان، وبين الديموقراطية، كنظرية في السياسة وفي إدارة للمجتمع والدولة، ما يفسّر أن الديموقراطية عندنا تبدو ناقصة، أو غير ناضجة، أو مختلفاً عليها.
قصارى القول إن أي جهد تفسيري لتعثر الديموقراطية عندنا، على أهميته، يفترض أن يبدأ من ملاحظة افتقادنا معنى ومبنى الدولة والمواطنة، في آن معاً، وبقاء بلداننا عند حيز الإقطاعيات الخاصة، وإلى حين إدراك ذلك سنبقى ندور في دائرة مفرغة، او في دوامة لا مخرج منها.
* كاتب فلسطيني/سوري